كم سررت وأنا أستشرف الجموع الغفيرة المنسابة نحو ساحة التحرير عبر الشوارع الثلاثة التي ترفد قبلة الثائرين نصب الحرية بجحافل المتظاهرين بعد عقد ونيف من السبات والتخدير بشعارات طائفية ليستمر الفاسدون بفسادهم والفاشلون بفشلهم. فسنوات ما قبل 2003 كانت سببا رئيسا لحالة الخنوع التي كانت مسيطرة على المجتمع العراقي فهو مجبول على الخوف من السلطة نتيجة سياسة الترهيب التي كان ينتهجها النظام السابق. ولكن بعد أن وصلت حالات نهب الأموال العامة بلا رقيب ولا حسيب إلى أبعد مدياتها انتفض العراقي ليظهر معدنه الأصيل الذي يتميز به عن أشقائه العرب.
إن سلسلة التظاهرات الأخيرة تتميز عن غيرها بأنها لا تمثل حزبا ولا طائفة، فهي تظاهرات عفوية شبابية في أغلبها حدثت نتيجة احتقان من الأوضاع السلبية الناتجة عن فشل الحكومات المتعاقبة في جميع المجالات، فالموظف الذي يرى الفشل والفساد يحيطان دائرته الحكومية خرج ليقول بصوت عال ما لا يستطيع قوله فيها، والطالب الذي تخرج بامتياز ليعلق شهادته الى جانب صورة جده المتوفى خرج ليعلن وفاة مستقبل الشباب في العراق.
المطالب متعددة، والاجتهادات متنوعة، فثمة من يطالب بحل مجلس النواب، ولا أعرف كيف يسيّر بلد ديمقراطي أموره من غير برلمان يمثل السلطة التشريعية والرقابية!.. وهناك من يطالب بحل مجالس المحافظات، وهذا الحل يجهض توجه اللامركزية الذي تنادي به المحافظات.. ويوجد من ينادي بحل المجالس البلدية وهي مقاهٍ يلتقي فيها الأعضاء لاحتساء الشاي وتسلم الرواتب! برغم أنها المسؤول المباشر عن توفير الخدمات للمواطنين. والمطالب كثيرة ولا مجال لحصرها في هذه العجالة.
لعل المنادين بهذه المطالب عفويون ولا يعون خطورة مطالبهم لأنهم يرون الفشل والفساد ينضحان من المؤسسات المطالبين بإلغائها التي تعشعش فيها الأحزاب نفسها، وهم بذلك أرادوا محو أعراض المرض وليس استئصال مسبباته، فالفشل والفساد هما نتيجة المحاصصة والطائفية، هذين الغولين اللذين افترسا العراق ودمرا مؤسساته وسببا البؤس لشعبه.
ولا يمكن استئصال ورم الطائفية والمحاصصة إلا بإجراء عمليتين كبريين تشملان تغيير النظام بأسره، وهما:
– تغيير النظام الانتخابي البرلماني: بأن تجرى الانتخابات النيابية بطريقة الدوائر الانتخابية المتعددة في المحافظة الواحدة بطريقة الأفراد وليس القوائم على أن يكون المرشحون من سكان المنطقة ويمنع انتقال من يفوز إلى خارجها إلا بعد انتهاء الدورة البرلمانية، والهدف هو إلغاء الروح الطائفية في الانتخابات عن طريق انتخاب شخصيات اجتماعية وبالتأكيد يجب أن تكون حاصلة على البكالوريوس في الأقل ليكوّنوا مجلس نواب حقيقيا انتخب الشعب جميع أعضائه.
– تحويل النظام إلى رئاسي: فصاحب السلطة التنفيذية العليا في النظام القائم الآن (رئيس الوزراء) يعيَّن بصفقة سياسية ذات مصالح حزبية ضيقة، ويمكن للكتل السياسية خلعه إذا لم ينفذ ما يريدون وبذا هو مكبل بقيود حزبية متنافرة المصالح ومتعددة المطالب، والنتيجة هي قيادة سياسية ضعيفة منشغلة بتلبية الإرادات الحزبية على حساب إرادة الشعب.. فلكي نوجه أنظار القيادة السياسية نحو الشعب وليس الأحزاب على العراقيين انتخاب الرئيس بأنفسهم ليراعي هو مصالحهم ولتستمد القيادة السياسية قوتها من تأييد الشعب العراقي ويمكن ذلك بحصوله على نسبة 50% +1 من الأصوات بشرط الحصول على نسبة 20% حداً أدنى من الأصوات في كل محافظة.
ولكن قد يرى البعض استحالة حصول أي سياسي على هذه النسبة (20%)!!.. هذا صحيح إذا نظرنا في الوجوه الموجودة في العملية السياسية الحالية لأنها تسلقت إلى السلطة بواسطة السلالم الطائفية الخلفية.. والنسبة سالفة الذكر تمنع وصول أي شخص لسدة الحكم ما لم يكن وطنيا غير طائفي.