الكتابة عن زُمّار هي إبحارٌ ضِدَّ التيار ويكأننا نمشي فنصطدم بمشاعل عثراتٍ في حقول ألغام المحبة لأننا بإستذكارنا ننكئ الجراح التي ما فتئت تنزف دمعاً مضمخاً بدماء القلب ، ونُقَلِبُ وجعاً يمتدُ لعشراتِ السنين فالكتابة عن زُمّارنا القديمة (الإضويج) هي خروج عن الوعي لنكتبَ باللاوعي …. رحم الله مجنون ليلى إذ يقول:
أمُرُ على الديارِ ديارِ ليلى ……….. أُقَبِّل ذا الجدارَ وذا الجدارا
وما حب الديارِ شغلن قلبي …… ولكن حب من سَكَنَ الديارا!
أتعلم أيها المجنون العاقل نحنُ غيرك فإننا نُحِبُ الدِيارَ وأهلها رغم أننا لم نَعُد نسكنها بعد أن نعق غُراب البين بنينوى الغَنّاء وموصلنا الحَدْبَاء وزُمّارنا الهيفاء منذ غرق زُمّار (1985م) والطوفان الذي إجتاحنا سنة (2003م) وعقب مأساة النزوح والهجرة والتهجير التي تلت أحداثِ حزيران (2014م ) نعم أيها المجنون فبالرغم من أننا لم نعد نسكن الديار لكنها هي مَنْ تسكننا في نبضات الخوافقِ وحدقات العيون ، خاصةً بعد أن أصبحنا كلُ فردٍ تحت نجمة بعد أن شطت بنا الديار ، فكانت رحلتي من الموصل إلى مخمور في رِحاب أخي الدكتور “سيد” علي رَمضان عبدالله البرزنجي فأربيل ثم كركوك وبغداد ومنها إلى إسطنبول لأعود أدراجي وينتهي بي المطاف في محافظة المثنى ومدينة السماوة وبقية أهلي ما بين أنقرة وأنطاليا وجورجيا ومن تقطعت به الأسباب إضطر للبقاء في الموصل المهم في خضم هذا الشتات في كلِ شيء رَنَّ هاتفي فإذا بالمتصل صديق طفولتي وزميل دراستي الثانوية والجامعية الأستاذ أحمد خضر إبراهيم الشرابي (أحمد البرو) لنستذكر معاً أمنّا ومعشوقتنا زُمّار القديمة نتجاذبُ أطراف الحديث والدموع تنهمر لتلامس ثرى السماوة حيث أنا وثرى أرض مخيم الهول في سوريا المنفى الذي يعيش فيه البرو حيث هو وعشرات الآف من أهلنا العراقيين الذين لاكتهم رحى الحرب الضروس ليكون القرار أن نُدون تأريخ زُمّار .
تساءل أحمد كيف السبيل وإرث زُمّار أعظم من أن نحصره بين دفتي كتاب والأمر بحاجة إلى جهدٍ جَبّار ..؟؟!!
أجبته : لا عليك فمبجرد أن أكتب مقالين أو ثلاث ستلتهب العواطف لأننا بكتاباتنا سنرش الملح على الجرح ثم سأشرع بجمع كل شاردةٍ وواردةٍ يُدلي بها المتداخلون من أهلنا الزُمّاريين لتكون هذه المداخلات مَعِيناً لنا نرتشف منه التفاصيل ، وحدث الأمر كما خططنا ولا أكتمكم سِراً إن قلتُ أنني إستثمرت كل جملة وعبارة بل تعاملت مع كل كلمة كُتِبَتْ رداً على ما ننشرهُ ، فكان الكلمات التالية مِنْ أوائل ما كتبتُهُ عَن زُمّار :
عاشِقٌ أنا حَدَّ الهُيَام … مُتَيَّمٌ بِسِحرِ عينيها … هائِمٌ بِقَدِّها المَيَّاسْ … حالِمٌ بِلَثْمِ شَهْدِ رِضابِها … تتوقُ روُحي لِنَسجِ جَدَائِلِها التي إستَمدت من خيوط الشَمْس بريق لَونِها الذَهَبِي فَتباً لِدياجير العُتمةِ وحِلكَة الليالي وَبَرد ساعاتها التي تؤرقُني وتُسْهِدني …
لُوْلِيْلِي على صَدْرَك خَلْ أضوك (أتذوق) النُوم … وخَلْ عِينْ العُمُر ما غَمَّضَتْ تهَجَع
إتْقَرَبْلِيْ أريد أعْصِرَكْ وأنْعصر وَياك ………… وأحرگ بَرد روحي بنارَك التلسَع
عَاشِقٌ أنا وتُوشِكُ نيرانُ شَوقِي أن تُقَّطِع نِياط قَلبيَ المُضْنَى فِي خَرِيِف العُمْر يا لَهْفَ رُوحِي ويا وَيح قَلْبِي وقد خَفَتت نبضاته :
بَتْ (دأب أهلنا في جنوب العراق أن يُطْلِقوا تسمية ” بَتْ” على نِياط القلب)
بَتْ بَعَدْ بالدَلَّال … بَتْ لكنْ إشــ بَتْ
ما يِحْمل اللوعات … ولا يِحْمِل العَّتْ
أبو الزَود يا أبا ألزَيد : (رباه إنه والدي وقد تعالت نبراتُ صوته بعد أن أدرك أنني معهم بجسدي دون الروح ) ليسألني :
أين شَطح بك الخَيال وفي حَنايا مَنْ يَنبِضُ قَلبُك وفي أيِّ صوبٍ تهيم روحك رَغمَ كونِكِ في مُقتبلِ العُمر ..!!
لكِنَه يُدْرِكُ تماماً مُفردات مُظفر النَوَّاب :
عِراقيٌّ هواي وميزةٌ فينا … الهَوى خَبَلُ
يَرِبُ العِشْقُ فينا في المهودِ وتَبدأ الرُسُلُ
فإن أردتُ التملص من الإجابةِ عن سؤالِ أبي الذي سينتزع الحقيقة حتماً لا بُدَ من المناورة بسؤالٍ على تساؤله :
والدي الحبيب أبا رياض : كيف كان العِشقُ في زمانِكم …؟؟؟
أجاب : إذا تضاربت الخُطى لرؤية الحبيب وإصطدمت الأقدام ببعضها … وتلعثم اللسان بردِ السلام … وتسارع نبضُ القلب وإعتَلَتِ الصَدْرَ تناهيدٌ فأعلم أنك عاشِقٌ يا إبن أبيك وسأروي لك حادثةٌ عفى عليها الزَمَن ولم يبقَ إلاّ حلاوة إستذكارها ، أصغيتُ السَمع في رحابِ والدي الذي كَسَر حاجِز خوفَ الأبوة وَمَدَ جسور الصداقة مع إبنه المُتَيم ليروي وقد إغرورقت عيناه بدمعٍ أكاد أتلمس حرارته بعدَ أن تحشرج الكلام وتهدج صوته وهو يقول :
تاقت روحي وأشتاق قلبي في هدأة الليل إلى شابةٍ زُمّارية سَلَبتْ عَقْلِي وما أظن أنَّ هناك من تضاهي جمالها وعذوبة كلامها فتوجهت على الفور بسيارتي العسكرية (المُسَلَحَة) إلى قَريَتهم وما أن وصلتُهم حتى تَرنم بقلبي قبلَ مسمعي صوتِ إستكانات الشاي المتناغِم مع وتر الربابة وقد داعب القوس الوتر بصوت (سلطان أحمد) وهو يَشدو :
هَلَة برِيم الحَمادة (غَزال البراري) النَحَرني وصَد (جفى) جَفْلَان(فَزِع) …
إمضَمَّر مِنْ مِشَد السِير جَفْلَان (رشيق الخصر ممشوق القوام) …
إنتَهَضْ مَدْ الفِراش وﮔـال جَاء فلان …
هلا بخُل الجَهل ووليف الصبا
لسان حال الحبيبة يترجم عظيم الوجد واللهفة إلى ضَمَّةٍ وعناق وكما يقول سلطان أحمد (برمش البراطم ﮔـلبي إفتهم معناك / أي بهمسات الشفاه أدركت شوق الحبيب) لكن كيف السبيل والشايب لا يفصله عني سوى المخاد (الوسائد / النمارق ) التي إتكئ يتوسدها وضوء (اللوكس أو الفانوس) يفضح نظرات ولهفات العاشِقِين …
يقول والدي :
فما كان منيِ سوى التفاعل مع سلطان أحمد وسحب المسدس مِنْ غِمدِه وأول إطلاقة حَطَمَتْ ( اللوكس ) المعلق بـــ( شـﮔـلة أو عمود الدام) والبقية بحائط (الدام / الغرفة) الخارجي كوننا كُنّا نجلس في الفناء (الحوش) والدنيا صيف تهب علينا نسمات دجلة العليلة ليصبح غبار التراب كما يصفه (لأبو عَسْلة) عَمَّ الظَلام وعلى الفور قُلت لها :
(خوما آني يوسف بن يعقوب “ع” فأخذتها بأحضاني ولثمت ثغرها بقبلاتٍ أستشعر ترافة وعذوبةِ تلك الشفاه )
ثم إستدار بكامل جسده نحوي قائلاً : (روح أبو الزود والهوى بظهرك وأنعل أبو اليلومك)
يرحمك الله أبي وقرة عيني وجمعنا بك وبمن أحببت في جنةٍ عالية قُطُوفُها دانية لا نَسمعُ فيها لاغية برحمة ربي التي وسِعت كل شيء ، نعم أبتاه أنا عاشقٌ للعراقِ وأهله عاشِقٌ لنينوى والسماوة للكوت وكركوك للناصرية وأربيل للبصرة والسليمانية للديوانية ودهوك عاشقٌ لبغداد وبابل عاشِقٌ لكل مدينةِ وقرية عاشِقٌ متيمٌ بِـزُمّار وذلك المجتمع الإسطوري الزُمّاري في الانتماء للأرض وذلك التوحد المطلق بين نسائم وشمائل أهلها والدِيار فانتماءنا إليها إنتماء ولهان وغريب تعصره سنينُ الغربةِ والشوق والحِرمان ، ولعل الأبيات التي تغنى الراحل أحمد سيد عبد القادِر الموصلي (توفي 1941م) الشهير بأحمد كفر (كَفغ) أو سيد أحمد الموصلي يَنطَبِق وصفها على حالي :
للعاَشِقِ فِي الهَوى دَلَائِل …. لَا يَسْمَعُ مِنْ كَلَامِ عَاذِلْ
يَا مَنْ رَحَلوا وخَلَفُونِي … أَبْكِي أَسَفاً عَلَى المنَازِلْ
مِنْ مُقْلَتِه رَمَى سِهَاَماً … قَدْ كَحَلَهَا بِسِحْرِ بَابِلْ
الوَرْدُ عَلَى الخُدُودِ غَضٌ … والنرَجِسُ فِي الجُفُونِ ذَابِلْ
نَادَيتُ لِسَائِق المَطَايَا … إِنْ كُنْتَ إلى العَقِيْقِ واصِلْ
سِرْتُم سَحَراً وَسَارَ ﮔـلِيِبي … وَالرَكْبُ سَرَى بِذيْ المعَاذِلْ
للحَدِيثِ تَتِمَّة …