22 ديسمبر، 2024 11:49 م

عشق أهوار العراق لجباله وعناق التأريخ للجغرافية

عشق أهوار العراق لجباله وعناق التأريخ للجغرافية

جَبُر كومَة كعيبِر العبادي و دِيَارْ صَدرَ الدينْ بَدِيع السورجي أنموذجاً
أصعبُ الفنون فَنُ قِيادةِ الرجال وما يُزيد الأمر عُسراً إختلاف البيئات وتعدد المناشئ والمنابت والجذور وتباين الثقافات والقوميات والأعراق والأديان ، فكيف الحالُ إذا عانقت ذرات رمل البادية حيث التصحر وقسوة الحياة في السماوة والحضر في نينوى وتل اللحم في الناصرية والرميلة في البصرة ، شِلب المشخاب في النجف وبردي الجبايش وقصب هور أبو عِجل في ميسان وزيتون بعشيقة وإسفنديان غابات نينوى وأغصان آس حدائق عرفة وأسيجة بيوت الدِبس في كركوك وأشجار السرو وهي تنبت في سفوح جبال أربيل والسليمانية ودهوك ، بل كيف بها إن تنسمت رائحة شواء المسكَوف في رِحاب أبو النوآس حيث نسمات دجلة العليلة تداعب الوجوه وتنعش القلوب لتجعلها تنصهر في بوتقةٍ واحدةٍ هي بغداد حاضرةُ الدنُيا ودنيا الحضارة ….

هكذا كان الحالُ مع أي فصيلٍ في الكلية العسكرية والمهمة العسيرة الملقاة على عاتِق آمر الفصيل هي إبداعه وتمكنه مِن إذابة الفوارِق وتوحيدها بإتجاهٍ واحدٍ هو الولاءُ للفصيل ثم السرية فالفوج والكلِّية ليكون الولاءُ للعِراق تحصيلُ حاصلٍ وهو غايةُ المنى … فما أن يلج الطالبُ مِنّا إلى قاعة الطلاب مساءاً بعد يوم شآقٍ عسير يبدأ منذ ساعاتِ الفجرِ الأولى ويستمر لمنتصف الليل حيث العقوبات التي تَهِدُّ الجِبالَ الراسِيات هداً ، حتى تجتاحُ أنفه رائحة “المروخ أو الرومالجين ” وأصواتٌ تتعالى ( آخ يا بوية ؛ أوي داية ” آه يا أماه ” ؛ أوف يُمّة يولي ، أويلي يابا ، آخخخخخ يُمّة لحكيني …) كُلٌ يواسي نفسه وفِقاً لما دأب عليه ، وحين يطلب أحد الطلاب مِن البقيةِ أن يكفوا عن التأوه كي يستطيع أن ينام إستعداداً لإنتقام أو تدريب اليوم التالي يأتيه الجواب :

” جا دنخمد وإسكت ” هكذا هو الكلام ممتَزِجا بمفردات ( جا : المفردة التي يستخدمها أهل الفرات الأوسط وجنوب العراق كمفردة ربط بين الجُمل في ثنايا الكلام :
جا وشحلات الجا جا لعدك إنت … جا والحجي بلا جا ، جا شنهي لذته ؛
تسمع مفردة لَعَدْ التي يستخدمها أبناء بغداد والمناطق الوسطى ؛ تطرق مسامعك مفردة عَجَل التي يستخدمها أبناء المناطق الغربية من العِراق ؛ تسمعُ مُفرَدة ” لَكَنْ ” التي يستخدمها أبناء الموصل كمفردة رديفة لمفردة لعد الغدادية ) ….

سألت أحد الطلاب عن إسمه بعد أن أعدتُ عليه السؤال أكثر مِنْ مرة وإستفهمت هل هو (ذِياب أم بيار لأدرك أنَّ الإسم هو دِيار الذي لم يكُ يُتقِن اللغة العربية) شاء الله أن يرتبط دِيار الوافد من أقصى شِمال العراق بصداقةٍ وطيدة مع جَبُر الوافِد مِن أهوار جنوب العِراق ، أستمع إلى ضحكاتِ دِيار التي تُجلجِل في القاعة فأسأله عن سِرِّ سَعادته الغامرة وسببِ ضحكاتهِ فَيُشِيرُ إلى جبر وكيف أنه غَرز إبرة الخِياطةِ في بيريته بعد أن أخاط ملابسه فيقول دِيار :
– جَبُر مِتِل جَدَتي عجوزة يخلي أبرة برأسو .

فما هي سوى أيام حتى بدأ دِيار يُحدثُني عن الطابُك والمسموطة أو المغلي ويحدثني عن الزُورِي ، نضحك بقلوب لا تعرفُ حدود الأرض أو المسافات ولا حِساب لكل الفوارِق فأقول :
ولك جبر هَلّة هَلّة بكاكا ديار إبدأ بالمسكوف لا تطفر كَبل عالزوري وأكلة الطابك ، ومع تباريح الفجر أصطحبُ الفصيل إلى المطعم بإعتباري الطالبُ الأقدم ” عريفُ الفصيل” لتتعالى أصوات التصفيق من أيدي جبر وديار :
– ها ولكم خيركم ؟ فيقول جبر :
– حِلِيب وكِيِك “بكسر حرف الحاء والكاف ” فيُصفق مازِحاً ليصفق معه دِيار عالطربكة من أجل إشاعة أجواء الفَرح .

أنصهر جميعُ طلاب الفصيل الثاني الذي أسماه إبن الكوت م.أول (اللواء ركن) كريم طهماز مفتن اللامي فصيل البانزر ليتصدر فصيلنا المشهد على صعيد الكلية العسكرية ويحصل على المنصب الأول في التفتيش الإداري الذي تفانى جميع الطلبة في إنجاز المهمة ، أقود الفصيل وأسمع رشيد حميد فَيّاض يحشم شِدّوا حيلكم شباب وحافظوا على سمعة فصيلنا ، رحيم عودة المرعب ينادي بحسين أبو حلك وحدوا المسير شباب … وها نحن اليوم نصرخ بأعلى أصواتنا وبنبض قلوبنا (وحدوا القلوب شباب) ، يتناخى أبناء الثاني قائلين :
– غداً موعدنا الدائم مع الضاحية لذا دعوا كريم طهماز يُباهي بكم ودعوا آمر سريتكم نقيب ” اللواء الركن ” علاء سلمان جاسم العامري يُدرِك كم أنَّ الفصيل الثاني فصيل الأبطال الغيارى …

تنطلق للضاحية جحافل صلاح الدين وهي تعدوا لفتح القلوب بالمحبة بعد أن أوشكت الكراهية تأخذُ مأخذها ، وتطرق بوقع خطاها العقول لتُصحِحَ مسارها ووضع القطِار على السِكة لئلا ينحرف عن مساره بعد أن كادت تُضيِّع إتجاه البوصلة بِفعلِ الإعلام الهادم لا الهادف ، يتقدم طلائع الركب إبنُ بغداد ياسِر جعفر نعمة يلية إبن قرية الحاج عِلِي جنوب الموصل عويد عطية مشرف ثم إسماعيل محمد لطيف وزياد محمد حمود السبعاوي ليباشر الركض معهم آمر السرية علاء سلمان جاسم وهو فرِحٌ بأولاده صارخاً عفية أبطال وفي الإثر مباشرة إبن بابل الطالب (لواء ركن) جاسِم محمد خليفة وجاسم محمد خلف و الطالب (لواء ركن) رفعت الريس هؤلاء هم الأوائل من جملة عشرة طلابٍ في الضاحية ، تصلُ السرية إلى خلف بناية العمادة ليفرد كريم طهماز جناحيه وقد إنفرجت أساريرُ وجهه وتهللَ فرحاً لكنه رَكّزَ على أمرٍ غاب عنا ليقترح قائِلاً :

– رغم فرحتي بنتائجكم لكنني مُستاء أن يكون الطالب أحمد عمران نومان آخر الواصلين وهو إبن الفصيل الثاني لذا يتفرغ إثنان لسحبه بالنطاق وهما ” الشهيد ” أمين خلف صالح الحلو و” الشهيد ” أحمد العبّاسي يعاونهما عمران رشيد علي و ” الشهيد ” عادل يوسف ثمَّ ” الشهيد ” غازي ضايع محمد و ” الشهيد ” عامر حميد كشمولة ثم يسحبونه حميد الندة وحميد عودة مرعب وهكذا لن يكون طالبٌ من الفصيل الثاني في نهاية السِباق … ومما رسخ في الذاكرة أن الطالب “الشهيد” أمين خلف الحلو وبحكم ضخامة جسمه “رحمه الله” حمل أحمد عمران نومان على كتفه وأوصله في مراكز متقدمة ….

دارت رُحى الأيام وتخرجنا وشاء الله أن تكون خدمة الملازم (اللواء) ديار السورجي في القاطع الجنوبي في البصرة حيث شغل منصب آمر سرية مغاوير اللواء المدرع 30 في قضاء القرنة بين البصرة والعمارة مدينة صديقه جبر وقد أصيب إصابةٌ بالغة حيث عانقت وتعفرت دماؤه بثرى أرض الجنوب وملحها الذي كان بلسماً وشفاءاً ، وأن يخدم جبر في القاطع الشِمالي حيث مدينة دِيار ، أمّا أنا فلم يبقى شبر من ثرى العراق إلا واختلطت به دمائي بجروح وأوسمة تطرز جسدي …

وفاءاً مني لتلك الذِكريات فقد خصصت وقتاً للفَقَرَة المحببة لإبن العمارة جبر وهي فقرة (الحِليب والكِيك) ورحت أحدث أولادي عن جبر وديار وأكلة الطابك والمسموطة فكانوا إذا أرادوا أمراً قالوا :
– بابا عليك وداعة عمو جَبُرْ
حتى جاء يومٌ أدمى القلب حينما نادى ولدي عُمَر :
– يا الله بابا ها هي صينية الحِليب والكِيك وتحية خاصة لعمو جَبَر كومة كعيبر …

ترقرق الدمع في العيون وتهدج صوتي بعد أن إختنقت العبرة في الصدر ثم أجهشتُ باكياً دون حساب لشيبةٍ غزت سواد شعري أو أخاديدَ تركت أثارها في وجهي ، ركض الجميع من البنات والبنين الجميع فَزِعٌ مستفهم عن سرِ بُكاء أبيهم :

– أولادي الأحبة لا بأس عليكم فقد بلغني نبأ إستشهاد عَمِكم القائِد جَبر كومة كعيبر العبادي وهو يذود عن حياض أرض العِراق في مدينة الفلوجة ، تعالى النحيب والبكاء وألغيت فقرة الحِليب والكِيك ، وتثميناً للموقف البطولي فقد تم تخليد ذِكرى جبر بنصبٍ عند سيطرة مدينة العُزير في محافظة ميسان بإتجاه البصرة ….

حبيبي وقرة عيني جبر لقد كُنت باراً بالقسم الذي قطعناه جميعاً على أنفسنا أن نحافظ على العِراق واحداً موحداً أرضاً وماءاً وسماءاً ، تأريخاً وجغرافية … وأن نجعل من دمائنا وأرواحنا مشاريع إستشهادٍ لئلا يُدَنس الأوغاد أرض البلاد ، ومعاذ الله أن يأتي يوم ونصوب فوهات بنادقنا صوب صدور بعضنا بعضاً بدافِعٍ قوميٍ أو عِرقيٍ أو ديني (لا قدر الله) فلنتذكر يمين القسم ولنكن الأبناء البررة بالعراق أمانة الآباء والأجداد لنوصلها سالمةً للأبناءِ والأحفاد …
حفظ الله العِراق من أدناه إلى أقصاه
حفظ الله العِراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه حتى غَربه

للحديث تتمة بإذن الله تعالى