22 نوفمبر، 2024 10:09 م
Search
Close this search box.

عشقٌ عبر المسافات – 1-

عشقٌ عبر المسافات – 1-

الحلقة رقم – 1 –
جلستُ تحت شجرة السدر الضخمة المخصصة للتدخين. لايُسمح لأي شخص أن يدخن سيكارته إلا تحت هذه الشجرة العملاقة . إصطف تحت ظلالها عدد محدود من المناضد الخشبية التي صُنعت بأتقان.جلستُ وحيداً أرتشف سيكارتي بيأس وحزن شديدين أفكر بزوجتي وأطفالي البعيدين عني نوعاً ما. اليوم هو اليوم ألأول لعودتي الى عملي بعد غياب دام عشرة أيام قضيتها كطيف حلم في ليلة صيف مقمرة. أفكر بالأيام التي سأقضيها بعيداَ عن البيت وعن أصدقائي وأقربائي الذين لايبعدون عني سوى عشرون دقيقة فقط ولكني لاأستطيع رؤيتهم إلا بعد عشرون يوماً بلياليها ونهاراتها. من بعيد تقدم نحوي أحد الزملاء إسمهُ رياض. كان يجر قدميه جراً وئيداً كأنه قادم من وراء النسيان. ظهر عليه إرهاق شديد وخطت ألأيام تحت عينيه خطوطاً سوداء تنم عن إرهاق وتعب من ذلك الطريق الطويل الذي قطعه من أقصى مدينةٍ في شمال البلاد كي يأتي الى هذا المكان الذي يشكل رزقه الوحيد في هذا العالم الدامي الشرس.رفع يده بضجر وسأم علامة التحية التي كانت تخرج من بين شفتيه كئيبه وكأن سلاسل الظلم والحزن قد قيدته الى ألأبد. لم أنطق بحرفٍ واحد سوى أن يدي إرتفعت قليلاً معلنه ترحيبها بالقادم من أقصى الشمال.رياض هذا الرجل المؤدب جداً القادم من غفلة الزمن في هذا العصر المحتدم بالصراعات والتفجيرات في كل مكان. رجل كردي ولكنه يتحدث العربية أفضل مني وأفضل من كل الزملاء في العمل. لم يجلس قريباً مني كعادته عندما نتواجد في هذا المكان المخصص للتدخين. وقف بعيداً عني بمسافة تقدر بخمسة أمتار. أخرج هاتفه الخلوي وراح يتحدث الى زوجته بلغةٍ كردية.

من خلال ألأشارات وإرتفاع نبرة صوته أحسستُ أنه يتكلم بحزن وأسى مع زوجته البعيدة عنه ألأن وكأن هناك متعلقات وحيثيات تتطلب حلاً جذرياً إلا أن قدومه الى العمل قد جعل تلك المتعلقات متعلقة الى زمنٍ أخر للبت بها ووضع الحلول الجذرية لها. كم تمنيتُ أن ينهي مكالمته فورا ويأتي للجلوس قريباً مني كي نواسي بعضنا البعض بهذا الحزن الذي أسدل ستائرهُ على روحينا في هذا اليوم. دون سابق ‘نذار أغلق هاتفه النقال وتحدث الي بصوتٍ مرتبك كأنه يعرف سلفاً أنني لن ألبي طلبه. ” أبا سمير، هل يمكن أن ترسل لي دولاراً واحداً ألأن لأن رصيدي قد نفذ وسأعيده اليك هذه الليلة؟”. دون أن أنبس ببنت شفه أخرجتُ هاتفي الخلوي وألقيته اليه طالباً منه أن يأخذ حاجته من الرصيد. تلقف هاتفي بصمت وراح ينقل دولاراً واحداً الى هاتفه. عاد يتحدث الى الطرف ألأخر ولكن هذه المرة بلغة عربية راقية جداً. بعد أن نفذ الدولار أنهى مكالمته وجاء يجلس قريباً مني. بدأ يتحدث عن زوجته وأطفاله وصعوبة الطريق وحفلة عيد ميلاد إبنته ” شاهان” وكيف أنفق مبلغاً طائلاً لشراء مستلزمات الحفلة. دون مقدمات قلتُ له :” ما هو رأيك لو نقوم ألأن بتسلية أنفسنا بطريقةٍ لم يفعلها أحد من قبل. لن تكلفنا هذه اللعبة إلا دولاراً واحداً”. نظر اليّ بأستغراب وكأن لسان حاله يقول” وما هي هذه اللعبة”؟. شرحت له أصول اللعبة بكل تفاصيلها. نبعثُ دولاراً واحداً لرقمٍ نتفق عليه. رقماً نختاره بطريقةٍ عشوائية ولنر ماذا سيكون رد فعل المستلم؟ تحرك في مكانه وأخرج سيكارة أخرى أوقدها على الفور قائلاً بتحمس :” حسناً ضع رقمي وغير الرقم ألأخير من سبعة الى ثلاثة ولنر ماذا سيكون رد الفعل؟”.

أوكلتُ له المهمه لأنه سريع جداً في عملية التحويل. بالتأكيد إستخدم هاتفي الخلوي لأن هاتفه قد نفذ رصيده وكذلك أنا صاحب الفكرة لذلك يتحتم عليّ وضع هاتفي لأنجاز هذه المهمة السخيفة التي لايقوم بها إلا من ضاق ذرعاً بكل شيء من حوله. تمت العملية وراح دولاراً واحداً من رصيد هاتفي الى الفضاء الفسيح كي يستقر في هاتف نقال أخر مجهول لانعرف صاحبه. وقرأنا سوية ” لقد تم تحويل دولار واحد من رصيدك الى الرقم”………”. فجأةً شعرتُ أن قلبي يدق بشكل ملحوظ وتحمس رياض لهذه الفكرة وظل يراقب الرد. إنتظرنا نصف ساعة دون أن يحدث شيئاً ما. نظر اليّ بخمول وهو يقول:” يبدو أن دولارنا قد ضاع الى ألأبد في لعبةِ قمارٍ همجية. هذا حرام لقد أضعنا الدولار بلا فائدة. حقاً أن لعبتك سخيفة وزادت حزني هما على هم”. شعرتُ بكآبه حاده وكأنني فقدت آلاف الدولارات في لعبةٍ خاسره سلفاً. ذهب فكري بعيداً حيث نصائح زوجتي التي لاتنتهي حينما أشتري شيئاً ما للبيت وتبقى ساعات طويلة تتهمني بتبذير نقودي دون فائدة. حاولت النهوض والذهاب الى فراشي الكئيب في الغرفة المزدحمه بالشباب الذين هم بعمر أبنائي. قررت النوم عدة ساعات كي أنسى هذه التجربة وهذه الفكرة السخيفة التي لاأدري كيف جاءتني ولماذا قمت يتنفيذها دون إنتظار .قبل أن أغادر المكان أخبرني رياض بأنه سوف يذهب الى مطعم الشركة التي نعمل فيها وسالني فيما إذا كنت أريد شيئاً أشربه – بيبسي أو أي شيء اخر — أخبرته بأنني لاأرغب بأي شيء.

في اللحظةِ التي توارى فيها عن ألأنظار نهضتُ متثاقلاً أروم التوجه نحو البنايةِ الشاهقة التي تبعد مايقرب من العشرين متراً عن مكان جلوسي. فجأةً أعلن هاتفي النقال عن وصول رسالة. إرتعشت يدي اليمنى ودق قلبي بحذرٍ شديد. وردت رسالة من الطرف ألأخر المجهول وهي تقول بالحرف الواحد ” شكراً لأرسالك دولاراً واحداً ولكن من أنت وكيف عرفت رقمي؟ أرجو أن تفصح عن شخصيتك. سأكون في ألأنتظار”. بعد قراءة نص الرسالة أغلقتُ هاتفي النقال ثم أودعته جيب قميصي وقررت نسيان الموضوع لأن حالتي النفسية لاتسمح لي بالخوض في جدالات ونقاشات عقيمة مع شخص لاأعرفه. بدأ صراع داخلي يتفجر رويدا رويدا يقرعني ويلومني على هذا التراجع وألأنحسار بعد أن فتحتُ جبهه ضد مجهول قد تكون له ظروف خاصة ومتعلقات كثيرة. راح عقلي اللاواعي يحفزني للمضي قدما في اللعبة الجديدة التي جاءت دون توقع ” ومن طرق باب الناس طرقوا بابه”. الهروب في مثل هذه الحالة معناه الجبن الحقيقي ومن يزرع شيئاً لابد أن يجني ثماره حتى لوكان مراً. نظرتُ حولي كي أتأكد من أن شخصاً ما لايراقبني أو قد يسخر من هذا العمل الذي دخلتُ ضماره بلا قصد. كان المكان خالياً تماماً والصمت التام يحيط به من كل الجهات عدا صوت الطيور المختلفة التي كانت تتقافز من غصن الى غصن فوق تلك الشجرة العملاقة كأنها تضحك عليّ وعلى هذا الظرف الذي جعلني أخترع هذه اللعبة. من بعيد ظهر رياض يحمل بيده علبه من المشروبات الغازية وراح يتجرعها ببطيء وكأنه كان يقوم بعمل روتيني إعتاد عليه كل يوم. أشار بيده ألأخرى وكأنه يستفسر عن بقية اللعبة. أشرتُ له بان الحال على ما كانت عليه . لم أرغب أن أقل له شيء عن وصول الرسالة وكأنني شعرت بأنه يتحتم علي أن أمضي بهذه اللعبة وحيداً.

توجه نحو البنايةِ التي نسكنها معاً وأشار لي بأنه سوف ينام بعض الوقت ليتخلص من الكآبةِ التي غمرته بشكل ملحوظ. في اللحظة التي إختفى بها داخل البناية أعلن هاتفي النقال عن وصول رسالة ثانية. نظرتُ الى العلامة الصفراء التي ظهرت في الجهة اليسرى العليا من شاشة الهاتف وبقيت فترة أحدق بها. ” هل أفتح الرسالة أم أتجاهلها الى ألأبد؟”. من جديد ظهر الصوت الداخلي القابع في حنايا روحي يحثني على مواصلة المشوار ومواجهة الواقع مهما كان. جاءت الرسالة حسب النص التالي :” لقد تأخرت بالأعلان عن نفسك. سوف أرسل لك دولارين ولاأعرف من تكون؟ هل أنت ذكر أم أُنثى؟ لايهم طالما هناك هدف وراء إرسالك الدولار. من يدري ربما تكون قد أرسلته بدافع المساعدة أو ربما هناك شيء أخر”. أغلقت الهاتف مرة أخرى وحاولت تجاهل ألأمر الى ألأبد. بعد فترة وجيزة جاءت الرسالة التالية:” لقد تم تحويل دولارين من الرقم”…….” الى رصيدك. نظرت الى الرسالة لا أدري ماذا أقول؟. هل أضحك أم أتأسف لهذه الحالة التي وصلتُ اليها. دون تردد قررت إرسال رسالة قصيرة أعتذر بها عما بدر مني وأطلب السماح من الطرف ألأخر، وهكذا كتبت الرسالة التالية:” عفواً. لقد أخطأتُ معكم. أردتُ أن أخلق أي لعبة كي أنفس بها عن الكرب الذي يحل بذاتي ألأن ولذلك أرسلت الدولار الى رقم مجهول لكي أر رد فعل المتلقي. أنا غلطان وأعتذر. لم يكن قصدي ألأساءة لأحد”.

طارت الرسالة الى الفضاء الفسيح وأعلن هاتفي عن تسليمها الى الرقم المجهول. طفق فؤادي يتحفز من جديد وقلت أحدث نفسي” ترى من هو هذا المجهول؟ هل يعتبرني شخص بلا عمل أو لمجرد قضاء وقت عبثي؟ خجلت من نفسي وقررت إنهاء اللعبة وأقسمت بأنني سوف أعيد الدولارين في اللحظة التي أستلم بها راتبيا الذي بقي على إستلامه أسابيع قليلة. راودني إحساس دفين من الحزن الشديد. شعرتُ أنني مخادع يسلك مباديء غير أخلاقية يحاول من خلالها العبث بمشاعر ألأخرين. حاولتُ النهوض مرة أخرى وتوديع مكان التدخين والخلود الى النوم بقية ساعات النهار الرتيبة. دون سابق إنذار وصلت رسالة أخرى فتحتها على الفور كان مفادها :” إذا كان لديك بريد أليكتروني تستطيع أن تكتب لي على بريدي الخاص أو أن أتحدث اليك من خلال الهاتف النقال.”. قفزت من مكاني وتوجهت الى الغرفة القريبة من مطعم الشركة. جلست على الفور وشرعت أكتب الرسالة التالية الى الشخص المجهول” هذا هو بريدي ألأليكتروني وسأكون سعيداً جدا إذا كتبتم لي رسالة ألأن”. إنتظرتُ أكثر من نصف ساعة وإذا برسالة طويلة تصل من فتاة أو إمرأة ولاأدري سنها لأن الرسالة كانت موقعه بأسم أنثى وهو ” جوليت المعذبه”. كانت نظراتي تلتهم كل كلمة من كلماتها وقلبي يدق بترقب شديد. بدأتُ أتحدث الى ذاتي ” من يدري قد يكون رجل إخترع هذا الأسم لكي يثير إنتباهي. من يدري قد تكون أُنثى ولكن لماذا أطلقت على نفسها — جوليت المعذبة –؟. إستسغتُ اللعبة قليلاً وقررت عدم الكذب معها أو معه وليكن مايكن.لقد بدأت ُ اللعبة بالخداع ولكنني سأمضي بها بعيداً عن الغش والمراوغة.

الغريب أنني بدأتً أكتب الرسالة باللغة ألأنكليزية مع العلم أن الرسالة وصلتني باللغة العربية. لم أنتبه الى ذلك إلا بعد أن نقرتُ على علامة ” إرسال”. غضبت على نفسي لأنني لم أنتبه الى هذه الحالة إلا بعد فوات ألأوان. ضجرتُ ونهضت متجها الى المطعم الذي كان مكتظا بالعاملين والموظفين ورؤساء المكاتب. كان رياض قد جلس في الطرف البعيد يلتهم طعامه بشراهه وكأنه لم ير طعاما في حياته. نظرت اليه مبتسماً ورد عليّ بأبتسامه باهته وكأنه يريد أن يقول لي بأنه لم يستطع النوم ولذلك جاء ليقضي قليلاً من الوقت في تناول الطعام. عدتُ الى طعامي. كان ذهني قد إنشغل بالحدث ألأخير. كنت أمضغ الطعام بهدوء تام وذهني يحاول أن يرتب كلمات جديدة للرسالة القادمة التي قد تصلني ساخرة” لماذا لم تكتبها باللغة العربية؟”. خجلتُ من نفسي حينما وصلتُ الى هذه المرحلة من إجترار ألأفكار. قررت ترك طعامي والذهاب مرة أخرى الى غرفة البريد ألأليكتروني وكتابة رسالة إعتذار عن السهو الذي حصل من جانبي، أو ربما محاولة إعادة كتابة نفس الرسالة الماضية بترجمتها العربية.حينما فتحت بريدي إزدادت دهشتي وصُعِقْتُ تماماً . لقد جاءني الرد بلغه إنكليزية أقوى بكثير من لغتي. يا الهي من يكون هذا الشخص ؟ وكيف إستطاع كتابة هذه الرسالة المدهشه؟ لقد تمت كتابتها بطريقه مذهلة تتخللها أبيات من الشعر ألأنكليزي و كلمات أغانٍ لمطربين مشهورين. أحسستُ أنني أمام شخص مثقف جدا ولذلك يتحتم علي ألأنتباه لما أكتبهُ في الرسائل القادمة.

بدأتُ أكتب رسالة أخرى بلغه أجنبية حاولتُ أن أضع فيها كل ماتعلمته في دراستي الجامعية . وضعتُ فيها كل المصطلحات التي إقتبستها من مشاهير الكتّاب والساسة والشعراء.وجائني الرد بعد ساعتين. رسالة لايمكن تصديقها، تصلح أن تكون مرجعاً لطلبة الجامعات. كيف ستكون لي القدرة على مجاراة هذا المجهول القادم من أعماق الفراغ؟ هل أستمر في اللعبة أم أعلن إندحاري؟ وأنطلقتُ أكتب الرسالة الثالثة وكانت الساعة قد إقتربت من الثامنه مساءاً. شرحت كل شيء عن حياتي وعائلتي والمعاناة التي مررت بها خلال سنوات الحرب المدمرة. كتبت ملاحظة تقول : ” سأذهب ألأن الى النوم لشعوري بالأرهاق الشديد”. دونت رقم هاتفي المعروف لدى الشخص المجهول وطلبت من الشخص محادثتي غدا عند الساعة العاشرة ليلاً أو ألأستمرار برسائل البريد ألأليكتروني. إستلقيتُ على فراشي ورحت أفكر بمسار هذه اللعبة وماذا ستكون الخاتمة؟ على الرغم من صوت الزملاء الشباب الصاخب داخل الغرفة وصراعهم حول نوعية القناة التلفزيونية التي ينبغي عليهم مشاهدتها. كنت ساهماً وحيداً تحت الغطاء الصوفي أفكر كيف سأنهي هذه اللعبة التي بدأت تنعكس عليّ. كانت الرسالة ألأخيرة التي أرسلها الشخص المجهول تقض مضجعي وتنقلني الى عالم بعيد جدا ً عن الواقع الذي أعيشه ألأن مع هؤلاء الشباب الذين لم يقرأو كتاباً واحداً في حياتهم. كان همهم الوحيد الصراخ والمزاح وكسب ود الفتيات الساقطات قدر ألأمكان.أعيش معهم تحت سقف واحد ولكن هناك هوّه سحيقة جداً تفصلني عنهم. كلما نظرت الى أحدهم أشعر وكأنني أتكلم الى أحد أبنائي. هذا هو القدر الذي ألقاني في طريقهم أو القاهم في طريقي.

لو كنتُ ألأن مدرساً في أحد الجامعات أو الثانويات لكانوا جميعاً طلاباً عندي. بين فترةٍ وأخرى يسألني أحدهم عن معنى كلمة أو ياخذ رأيي في موضوعه العاطفي الذي يعيشه مع فتاته الجديدة. حينما شاهدونني أغطي رأسي ولاأجيبهم حاولوا عدم أزعاجي والتراجع عن أسألتهم المملة كل يوم. زحفت الساعة نحو الثانية عشرة ليلاً ولم أستطع النوم. حاولتُ أن أجبر ذاتي للاستغراق في نوم عميق ولكن دون جدوى. نفذ صبري. نهضت من فراشي بعد منتصف الليل بنصف ساعة. إرتديتُ كافة ملابسي الصوفية تجنباً للبرد القارس. قررت النزول من الطابق الثاني للعمارة الكبيرة التي نسكن فيها وألأتجاه نحو الشجرة السامقة حيث المكان المخصص للتدخين. إندهش الزملاء الشباب حينما شاهدوني أهّم بالخروج إلا أنني أشرتً لهم بيدي علامة التدخين. أغلقتُ الباب خلفي دون أن أهتم لنظراتهم المتسائلة. على الرغم من برودة الطقس إلا أن الجو تحت الشجرة كان مناسباً نوعاً ما. جلستُ في المكان الذي إعتدتُ أن أجلس فيه كل يوم. كان هناك ضوءأً باهتاً يصل الي من خلال ألأغصان الكثيفة. صمت رهيب يغطي المكان عدا صوتُ نباحٍ لكلابٍ قادم من أقصى المدينة. فجأة سرت في أعماقي رعدة جعلتني أغمض عيناي من التأثر.لاأدري لماذا هبت على روحي رياح من الحزن ضاعفت تعاستي أضعافاً مضاعفه.كانت أنفاسي تتردد في الصمت العميق ثم تداعيت الى فراغِ يأسٍ قاتل. الحقيقة شعرت بدبيب دموعٍ حبيسة تزحف الى مسالك عينيّ وكأنني أحترق شوقاً لشيءٍ مجهول.ولكي أزيل رعب الصمت الذي إجتاح روحي بلا هواده وضعتُ سماعتين لجهاز الموسيقى الذي أحمله معي أينما ذهبت. إنطلق صوت أحد المطربين العالميين في سكون الليل حيث أغنيته التي أعشقها بجنون ” : سِرْ معي خلال هذا العالم وأذهب معي أينما أروم الذهاب.شاركني أحلامي لأنني بحاجةٍ ماسّه اليك.في الحياة نبحثُ عن شيء والبعض ألأخر يجد ما كنا نبحثُ عنهُ. بحثتُ عنكِ زمناً طويلاً جداً. وألأن وجدتك. تعالي خذي يدي كي نسير سويةً في هذا العالم”.

بلا تردد كتبت الرسالة التالية للشخص المجهول وبعثتها عبر ألأثير وأعلن هاتفي النقال عن نجاح إرسال الرسالة” أنا كئيب. جالسٌ في الظلام تحت شجرة سدرٍ عملاقه في مكان عملي ولاأستطيع النوم.أشعر بالقرف من هذا الوضع الذي وضعتُ فيه نفسي.” بعد عدة دقائق جاء الرد” سأتحدث اليك بعد الواحدة والنصف”. نظرت الى ساعتي التي كانت تعلن عن وصولها الى الواحدة وثلاث دقائق. أعدتُ قراءة الرسالة أكثر من مرة.كنت أحدث نفسي” عن أي شيء سنتكلم؟ وماذا سيحدث بعد الكلام؟ كم دقيقة ستستمر المكالمة؟” بلا توقع رنّ هاتفي النقال وبقلب نابض بالترقب نظرت الى الرقم المجهول” ولو انه مالوف بالنسبة لي”. هل أجيب على الشخص المجهول أم أتراجع في اللحظةِ ألأخيرة وأعلن إنهزامي الى ألأبد؟ أم أقتحم جدار التردد. وجاء القرار صافياً في زمن التردد” نعم من المتحدث؟”. إنطلق صوت من الجانب ألأخر . صوتاً رقيقاً كسمفونية تعزف لحناً ناعماً في محيط من الرومانسية وشفافية الروح . ” السلام عيلكم. أنا صاحبة الرقم. دعني أتحدثُ عن نفسي.أشكرك لأنك حدثتني عن أشياء كثيرة تخصك ولاأدري لماذا قلت لي كل تلك ألأشياء؟” تنهدت بصوت مسموع بعدها أردفت قائلة ” أنا سيدة قذف بها الزمن الى عالم من الترقب والضياع وضاقت بي كل السبل رغم بحبوحة الحياة التي أرفل في عزها. إرتديتُ ثوباً مزقته عواقب الزمن وألأقدار. لاأريد ألاسهاب في القول عن نفسي كي لاتقول عني أحاول التصنع وإحتذاب ألأخرين. قبل أن أُكلمك بقليل أرسلت لك صورة شخصية عن طريق البريد ألأليكتروني وأتمنى أن تشاهدها حينما تتوفر لديك الفرصة . أنا ألأن وحيدة في هذا العالم الدامي. فقدتُ قسماً من أعزائي في ظرفٍ مفاجيء لم يكن في الحسبان. عمري واحد وثلاثون عاماً. جئتُ من لندن قبل سنتين وعملت مدرّسة في إحدى كليات بلدنا المنهار.”

سكتت قليلاً بعدها أردفت بصوتٍ حزين ” كانت حياتي شعلة متقدة وحماس لاينقطع. تزوجت عميد الكلية التي أعمل فيها على الرغم من أنه يكبرني بخمسة عشر عاماً . كان رجلاً فريداً من نوعه. يحب الحياة والطلاب والجامعة.مثقف لدرجة لاتخطر على ذهن أي إنسان. رزقتُ منه طفله تشبه وردة الصباح عند إنبثاق الفجر. خرجنا يوماً لتناول طعام العشاء في أحد مطاعم العاصمة. دون سابق إنذار أنفجر المطعم وأسودت الدنيا أمامي. لم أفق إلا بعد شهر أو أكثر في إحدى مستشفيات العاصمة. تمزق جسد إبنتي الى شظايا صغيرة وطار جسد زوجي في الفضاء ولم نعثر إلا على جزءاً من نظارته وأجزاء قليلة من ربطة عنقه ألأنيقه. أنا ألان مقعده.”. أخلدتْ الى الصمت مره أخرى. كنت أسمع نشيجاً متقطعاً أعطاني دليلاً قاطعاًعلى أنها كانت تبكي وتندب حظها الضائع، بعدها إستطردت قائلة” : الحمد لله على كل شيء. نظري لايزال سليماً ويداي كذلك. جالسة ألان على كرسي متحرك. لدي بيت كبير جداً وثلاث سيارات مارسيدس مختلفة ألألون.لو خيرني شخص ما بين بيتي الكبير وسياراتي وأموالي مقابل القدرة على السير مجدداً لوافقت على التنازل عن كل ما أملك. لايعني هذا أنني متذمرة أو فاقدة ألايمان ولكن هذه هي الحقيقة. ألانسان لايعرف معنى السعادة التي كان فيها إلا حينما يفقدها. لايعرف معنى النعمه ألألهية العظيمة التي أغدقها الله سبحانه وتعالى عليه إلا حينما يفقد عضواً من أعضاء جسده. لقد ضحكتُ كثيراً مع نفسي حينما أخبرتني بأنك تحلم بأمتلاك سيارة من الطراز القديم. لديك أشياء أحسدك عليها وأتمنى الحصول عليها. وقتي ألأن موزع بين القراءة ومشاهدة التلفاز. تقدم لي أحد ألأقرباء للزواج ولكني رفضت ذلك بشدة. هذا الشخص يحاول ألأقتراب مني كي يستحوذ على الثروة الطائلة التي أملكها.من حقه أن يحلم بهذه الثروة كما تحلم أنت بالحصول على سيارة قديمة. شيء مضحك هذا الزمن الصعب. أحدهم يحلم بسيارة وألأخر يحلم بساق ٍ سليمة. أنا لااريد أن أستدر عطفك ولا أن أغلفك بغلافٍ من الحزن وألأستعطاف. طالما أنت بدأت لعبه كي تقضي وقتاً ما في مكانٍ ما ، عليك أن تستمر فيها لحين إنتهاء جميع ألأشواط المقررة لهذه اللعبة. من الجبن أن تنسحب ألأن”.

بدأت تسعل بصوتٍ مسموع وكأنها أُصيبت بأختناق مفاجيء. عادت للحديث وهي تطلب المعذرة لهذا ألأنقطاع المفاجيء. ” لماذا لانجعل هذه اللعبة مفيدة لكلانا؟ من يدري قد أستفيد منك وقد تستفيد مني؟ هذه هي الحياة أخذ وعطاء. عفواً هل تريد ألأستمرار في هذه اللعبة، عفواً أقصد هذه المكالمة؟ أم نؤجلها الى زمن أخر؟ الوقت أصبح متأخر ولديك عمل غداً. الحقيقة هذا ما أفضله أنا لأنني بدأت أشعر بالأرهاق. إذن الى اللقاء”. أغلقتْ الهاتف دون أن تسمع مني رداً بالرفض أو القبول. كان ذهني مشوشاً لدرجة كبيرة جداً. هل أن ما قالته هذه السيدة يمت للواقع بأي صلة؟ أم أنها كانت تريد أن تلعب معي بنفس الطريقة التي بدأتُ بها أنا هذه اللعبة؟. لم أصدق أي كلام من حديثها الغريب. علمتني الحياة أن لا أُصدق كل ما يُقال أمامي. يجب أن أتحرى بعض الشيء قبل التصديق.قلبي كان مضطرباً ممزقاً بين الواقع ألأنساني الذي أدعته هذه السيدة وبين الواقع الفعلي للحياة. لم أشعر بالوقت الذي كان يمر بسرعةٍ فائقه.تقدم الليل وبدأ يزحف نحو الفجر. إشتد البرد فجأة وأصبحت أطراف يدي ترتعش من شدة برودة الطقس الثلجي. من بعيد ظلت أصوات نباح الكلاب تأتي اليّ من خلال الصمت الذي كان يلف المكان. نهضتُ بتثاقل وتوجهت نحو الطابق الثاني في البناية الشاهقه حيث المكان الذي أهجع فيه. كانت الغرفة قد أصبحت مكاناً رتيباً مملاً بسبب تصرفات أؤلئك الشباب الذين لايكفون عن صياحهم وصراخهم الذي يمزق ألأعصاب. دخلت الغرفة عند الفجر وكانت تسبح في ظلامٍ دامس فقد أطفأ الشباب أنوارها. فرحت في داخلي وأنا أتحسس طريقي في الظلام نحو فراشي الوثير. في اللحظةِ التي حاولت فيها إغماض عيناي المرهقتان إنسلت الى مسامعي دمدمة رتيبة في الظلام” آه..إنه الفتى النحيف القادم من أعماق اللاشيء. هو يتحدث الى صديقته العاهرة عبر الهاتف النقال تحت البطانية . حاولت أن أركز على ما كان يقوله لصديقته….آه..ياللقرف، إنه يسألها أسئلة تخدش مسامعي وتحيل روحي الى بؤرة من الغضب والحنق والحقد على كل شيء في حياة أؤلئك الشباب. إعتاد هذا الفتى على الحديث مع عاهرته كل ليلة بعد منتصف الليل حتى الصباح. لو أنه كان يبذل كل هذا الجهد وهذا الزمن في مطالعة بعض الدروس المفيدة لكان ألأن من عباقرة التاريخ. قررت في داخلي أن أنهض وأنقض على عنقه والغي حياته من هذا الوجود الى ألأبد ولكنني تراجعتُ في اللحظة ألأخيرة كي لا أدمر حياتي وأفقد عملي الذي عانيتُ الكثير من أجل الحصول عليه.

سحبت البطانية فوق رأسي أفكر من جديد في حديث تلك المخلوقة ألأنثوية التي دخلت حياتي بسبب لعبة سخيفة إخترعتها في لحظة حزن. الغريب أنني بعد لحظات وجدت نفسي غارقاً في نومٍ عميق أنساني معاناة النفس وألأرواح التي فُقدت في لحظة من لحظات الزمن الغادر. إنغرستُ في عملي الطويل المرهق لدرجه أنني نسيتها بعض الشيء. في الساعةِ العاشرة ليلاً من اليوم السادس دق هاتفي النقال وجاء صوتها من جديد يعزفُ لحناً حزيناً في ليلةٍ متربة ” : هل لديك وقت للحديث؟”. دون تردد قلت لها بأنني مشغول جداً في تلك اللحظة وطلبت منها أن تكلمني عند منتصف الليل. كنت أود ألأستعداد لها ولحديثها. أردت الذهاب الى مكان التدخين حيث شجرة السدر العملاقة لكي أسرق مساحة واسعة من الخلوة الشخصية بعيداً عن إزعاج ألأخرين. وحل منتصف الليل وكنت جالساً كعادتي عند المكان المخصص للتدخين ورن الهاتف النقال ممزقا صمت الليل ووحشة المكان” : السلام عليكم”. كانت دائماً تبدأ بقولها ” السلام عليكم”. شرعت تتحدث بنفس النبرة الحزينة الرقيقة ” : إسمع يا أبا سمير. سأدخل في الموضوع مباشرة دون لف أو دوران. أنا لاأعرف عملك ولاكمية النقود التي تحصل عليها شهرياً. لاأعرف هل تحب عملك أم أنت مجبور على ذلك؟ لاأريد أن أعرف أي شيء عن هذا وعن ذاك. أحتاجك أن تعمل معي في البيت. نوع العمل هو أنا أتكلم وأنت تكتب كل ما أقوله. سأعطيك ثلاثة ملايين في الشهر وسأزيد الراتب حسب الكفاءة. سأشتري لك سيارة قديمة كتلك التي تحلم بها. إذا كانت لديك الرغبة تعال الى العنوان الذي سأرسله لك في البريد ألألكتروني غداً ووصفاً كاملا للبيت. خذ إجازه يوماً واحداً وتعال كي نناقش مشروع العمل. إذا أعجبتك الفكرة فلنتوكل على الله. أما إذا لم يرق لك العمل فأنت حر ونبقى أصدقاء من خلال الهاتف.”.

كان كل عضو من أعضاء جسدي يرتعش كأن تياراً كهربائياً قد نفذ الى أعماق روحي القلقة. بقيتُ أفكر في هذا الحدث على طول البقية الباقية من ساعات الليل. لم أستطع أن أتخذ قراراً حول الموضوع.. هل أتحدث مع زوجتي ألأن وأخبرها عن كل شيء، أم أتحدث الى أحد أصدقائي المقربين؟ لم أعد أستطيع التفكير. وجاء الصباح وركضتُ نحو غرفة البريد ألألكتروني فوجدت تفصيلاً دقيقاً لمكان الشارع وموقع البيت وكل شيء يتعلق بالموضوع. أسرعتُ الى مدير العمل وطلبت منه أن يمنحني يوماً واحداً فقط للضرورة الملحة لأنجاز عملاً شخصياً داخل المدينة. وافق بأمتعاض وكأنني أسلب جزءاً مهماً من ممتلكاته. وصلت المنزل قبل الحادية عشرة بعشرة دقائق. وقفت حائراً قبل أن أقرع جرس الباب الخارجي. فكرت بأسوأ ألأحوال. فليكن ما يكن. كنت انظر الى يدي وهي ترتعش وأنا أضغط على زر الجرس القابع في الجهة اليسرى من تلك البوابة الكبيرة. جاء الى مسامعي صوتاً رجولياً من خلال الحاكية الصغيرة التي لم أرها إلا عند إنطلاق الصوت. قلت بصوت مرتعش ” أنا ابا سمير. لدي موعد مع سيدة البيت”. إنقطع الصوت وسمعت خطوات رتيبة تتقدم صوب الباب الخارجي. ظهر شاب قوي الجسد يحمل بندقية في يدهِ اليسرى. دون أن يهتم لوجودي قال بعدم إهتمام ” تفضل معي. السيدة ” أيام” تنتظرك في غرفة الضيوف.” تبعته دون أن أنبس ببنت شفه. طرق الشاب الباب الخشبي ألأنيق جداً ثم فتحه بهدوء وهو يقول” تفضل ياسيدي”. أغلق الباب في اللحظة التي أصبحتُ فيها داخل الغرفة ثم غادر بهدوء كسحابة صيف. وقفت في بداية الغرفة الكبيرة جدا المليئة بآثاث وتحف لم أر مثيلاً لها إلا في المجلات الخاصة وبعض ألأفلام ألاجنبية. عدلت نظارتي الطبية وأرسلتُ نظراني المرهقة الى الجهة اليمنى حيث تجلس سيدة البيت على كرسي متحرك. إبتسمتْ بهدوء وهي تقول ” تفضل أبا سمير لماذا أنت واقف هكذا؟”.

تقدمت نحوها بخطى وئيدة. مدت يدها اليمنى وصافحتني بأحترام. جلستُ على مقعد قريب منها. بادرتني قائلة ” هل وجدت صعوبة في العثور على البيت؟ لقد كنت أنتظرك منذ نصف ساعة.يبدو أنك لاتزال قوياً على الرغم من هذه الخطوط السوداء حول عينيك”. ضغطت على زر قريب منها وبعد قليل دخلت إمرأه متقدمه في السن تحمل قدحين ذهبيين من الشاي الساخن. وبينما كانت ترتشف رشفات صغيرة من قدحها قالت بجدية ” فلندخل في العمل مباشرة. تلك آلة الحاسبة وهذا هو المكان الذي ستعمل فيه إذا تمت الموافقة بيننا. كما قلت لك سابقا أنا أتكلم وأنت تكتب ماسأمليه عليك. أشعر بتعب حينما أكتب أنا بنفسي. إبتكرت هذه الطريقة — أقصد طريقة ألأملاء – بناءاً على توصيات الطبيب بعدم إرهاق نفسي في الفترة الراهنه. لديّ أشياء كثيرة لقولها. أفكر بتأليف روايات كثيرة وقتل الوقت في نفس الوقت. الراتب سيكون مجزياً جدا ضعف ماتأخذه ألان في وظيفتك الحالية. لك الخيار في المبيت هنا أو الذهاب الى عائلتك. العمل يبدأ من الساعة التاسعة صباحا الى الرابعة عصراً. لك ساعة واحدة للراحة من الواحدة حتى الثانية من بعد الظهر. إذا كانت لديك رغبة للبدء من يوم غد سيكون ذلك مناسباً جداً لي. سنكتب عقداً بيننا لمدة سنة قابل للتجديد في حالة توافق الطرفين. أي إخلال بالعقد سيكون الطرف المخل بالعقد ملزماً بدفع مبلغاً قدره خمسة ملايين دينار عراقي”. بلا تردد قلت ” موافق”. إبتسمت حينما شاهدت تحمسي للموضوع. نظرت بهدوء قائلة ” لاتستعجل ألأمر سوف أعطيك نسخة من العقد يجب أن تقرأه بدقة وتوافينني بالأجابة غداً”. سكتت قليلاً ومن ثم أردفت ” الولاء. ألأخلاص. الجد في العمل. هذا كل ما أطلبه من الموظف الذي يعمل معي. لاتنسى ألأمانه. ألأمانه عندي أفضل ما أي شيء في هذا الوجود”. أعطتني نسخة من العقد. نهضتُ كي أعود من حيثُ أتيتُ. قالت ” ماذا ؟ هل أنت على عجل من أمرك. سنتناول طعام الغداء معاً. لم أتناول طعامي مع أحد منذ زمن بعيد. ستكون فرصة لأطلاعك على بعض ألأمور التي تتعلق بالعمل”.

جلستُ مرة أخرى وقد شعرت ببعض ألأرتباك لتسرعي في النهوض. دخلت المراة الكبيرة السن وهي تقول ” سيدتي في أي مكان ترغبين تناول طعام الغداء؟ لم تقل السيدة شيئاً سوى أنها أشارت بأصبعها ورسمت علامة في الفضاء لم أفهم معنى تلك ألأشارة. بعد دقائق قليلة قالت :” حسناً فلنذهب” راحت تدفع نفسها بالكرسي المتحرك دون أن تطلب مساعدة أحد. تبعتها بشيء من ألأعجاب وألأسى معاً. ألأسى لأنها إمرأة جميلة ولكنها مقعدة، وألأعجاب لأنها كانت تتصرف بعفوية وكأنها سليمة مئة في المئة. دخلنا غرفة محاذية لغرفة الضيوف التي كنا نجلس فيها. غرفة خيالية لم أر مثلها في حياتي – غرفة واسعة جداً تحتوي على عدة مكتبات عملاقة مليئة بكتب مذهلة لها أغلفة تشبه لون ماء الذهب. تتوسط الغرفة منضدة رخامية كبيرة لم أشاهد لها نظيراً إلا في أفلام الملوك والقادة العظام. من تكون هذه السيدة؟ إعتقدتُ أنني اغط في نومٍ عميق تتخلله أحلام وكوابيس. جلسنا متقابلين . في اللحظة التي جلسنا فيها بدأتُ أنظر اليها بذهول وترقب. على حين غرّه بادرتني قائلة ” إنظر الى هذا البيت وهذه ألآثاث الفخرة. إنظر الى تلك التحف الفنية العملاقة التي جلبها زوجي المرحوم من كافة أقطار العالم. أنا ألأن على إستعداد للتنازل عنها جميعاً في هذه اللحظة مقابل إستطاعتي مرة أخرى للسير حافية القدمين قرب نهر دجلة أو أخترق شارع النهر بأتجاه شارع الرشيد حتى أصل الى منطقة الباب الشرقي. خذ كل هذه ألأموال وأمنحني ساعة للسير بلا كرسي وبحرية عند أحد شوارع العاصمة. لقد قتلتني هذه العزلة وهذا الكرسي المتحرك. أكاد أختنق هنا. كم أتمنى العودة لتدريس طلابي في جامعة”…..” أتمنى أن تكون لديّ غرفة صغيرة واحدة فقط ولكن أعيش فيها مرتاحة البال. أقوم بعملي كل صباح كباقي الناس الطبيعيين وأعود عند المساء وأتناول طعاما بسيطاً لايتعدى قطعة من الجبن وقطعة من الخبز وقدح من الشاي. آه..لا أحد يشعر بالنعمة العظيمة التي منحها الله سبحانه وتعالى إلا بعد أن يفقدها. حسب ما علمته من رسالتك إنك تحلم بسيارة بسيطة قديمة تأخذ بها إبنتك وزوجتك الى مكانٍ ما. لديك نعمة أحلم بها ليلاً ونهاراً ألا وهي نعمة القدرة على السير بصورة طبيعية. “.

بحركة آليّة نزعتُ نظارتي الطبية ورحتُ أمسح دموعي التي بدأت تنهمر بلا توقف. لم أهتم لوجودها. لم تكن موجودة بالنسبة لي. شعرتُ أنني وحيداً في هذا العالم الدامي. رحتُ أبكي بصمت. أدارت لي ظهرها وكأنها هي ألأخرى بدأت تبكي. أخذتُ سيكارة على عجل من أمري وبدأتُ أدخنها بشراهه باعثاً رائحة كريهه في ذلك المكان المليء بمختلف الروائح المعطره للجو. عادت لتواجهني مرة أخرى. شاهدت إحمرار عينيها. أشارت لي كي أعطيها سيكارة. القيتُ اليها علبة سكائري بنفس لطريقة التي كنت ألقي بها العلبة الى زميلي رياض حينما يطلب مني سيكارة . شرعت تنفث دخان سيكارتها بطريقه محترفه وكأنها إعتادت على التدخين منذ زمن طويل. قالت دون مقدمات ” لماذا تبكي؟ هل تبكي عليّ أم على شيء أخر؟”. أجبتها بطريقة هادئه وكأنني أقوم بأداء أحد ألأدوار في إحدى المسرحيات القديمة. ” الحقيقة لاأدري لماذا أبكي؟ ربما إنني تذكرتُ حدثاً قديماً كان قد حدث لي أثناء سنوات الحرب الطاحنه.كنتُ مع أربعة من الجنود في إحدى جبهات القتال المرعبة. تذكرت عدد البؤساء الذين ماتوا في لمح البصر وعدد الجرحى الذين كانوا يئنون من ألألم الذي لاينتهي. دفنا بعضهم بين الصخور وضاعت أجساد بعضهم بعصف القنابل. كنا لا نحلم بأي شيء سوى البقاء على قيد الحياة ولايهم درجة العوق التي نُصاب بها. كان الجوع يعصف بنا أياماً طويلة بسبب قطع الطرق وعدم تمكن ألأخرين من الوصول الينا. قال أحد الزملاء ” أتمنى أن يقطع شخص ما يدي ورجلي ألأن مقابل دجاجة مشوية فقط. والبعض ألأخر يتمنى أن تُقطع أصابعه مقابل قنينة باردة من المشروبات الغازية. الجوع قاتل ويُذهب العقل. ” كنا نتحدث بيأس لايعادله يأس في هذا العالم. كانت تنظر اليّ بذهول وكأن صدمة كهربائية عصفت بجسدها. دون حياء قلتُ لها” أنتِ ناكرة لهذه النعمة ألألهية التي منحها لك الله سبحانه وتعالى. لديكِ عينان جميلتان ويدان سليمتان ولسان تنطقين به، وهذا الكم الهائل من ألأموال. ماذا تريدين أكثر من ذلك. حسنا خذي قدماي وتنازلي لي عن هذه الغرفة فقط. يبدو أنكِ غير مؤمنة بقدر الله.”.

أخذتُ نسخة من العقد وخرجت من البيت أتخبط في طريقي نحو الشارع الطويل. سرتُ مهموماً لا أدري ماذا حل بي؟ أفكر مع نفسي ” من هو الصائب في هذا الظرف ؟ هل هي أم أنا؟. فجأةً دق هاتفي النقال. دون أن أتوقف عن السير قرأت الرسالة التالية ” عفوأً ، لقد نسيت نظارتك الطبية. إذا وافقت على العمل معي سأرفع راتبك الى ثلاثة ملايين في الشهر. الى اللقاء غداً التاسعة صباحاً”. صرختُ بصوت مرتفع ” اللعنة، لقد نسيت النظارة.” تقدمت نحو أحدى المقاهي كي أسرق قليلاً من الوقت ألتمس بعضا من الراحةِ الجسدية. وأنا أحتسي الشاي دخلت إمرأة عجوز تتكأُ على عصا تهمس بصوتٍ ضعيف ” صدقات قليلة تدفع عنك بلاءٌ كثير”. دون تفكير منحتها ورقه من فئة العشرة آلاف دينار. نظرت نحوي بعينين جاحظتين كأنها لاتصدقُ ما ترى. خرجت مسرعة من المقهى لأعتقادها أنني قد أغير رأيي وأسحب الورقة من يدها. ماهذه الحياة التي تحياها هذه السيده العجوز؟ يالهذا الزمن القاسي.أين أبنائها وأين زوجها؟ إزداد همي وحزني. دفعت ثمن الشاي وتوجهت مسرعا نحو مكان عملي. توجهت الى خزانة ملابسي . نظرتُ طويلا الى محتوياتها التي رافقتني طلية تواجدي في ذلك المكان. بيدين مرتعشتين رحت أفرغ جميع المحتويات وأودعها حقيبتي التي كانت تتمزق من بعض الجهات كلم سحبتها بعنف. لم ألقِ التحية على أي أحد منهم. في لحظةٍ عابرة تحولوا جميعاً الى أعداء. وقفوا جميعاً في وسط الغرفةِ التي عشتُ فيها ليالٍ طويلة مشبعةٌ برائحة الحزن ويرفرف فوقها شبح ألأنقباض النفسي. لاحظوا الحالةِ الجديدة التي طغت عليّ بلا مقدمات. كانوا ينظرون الى بعضهم البعض يستفسرون عن سر هذا التحول الجديد الذي طرأ علي بين ليلةٍ وضحاها. دون إكتراث أوقدتُ سيكاره ورحتُ أنفثها في هواء الغرفةِ دون أدنى إعتبار للعلامات المرسومة في كل زاوية من زوايا البناية التي تُعلن من أن التدخين هنا من المحرمات. وانا أحمل حقيبتي مستعداً للخروج إلتفتُ اليهم جميعاً وقلت كلاماً مقتضباً ” أنتم جميعاً غرباء على هذا المكان. أنتم لاتستحقون هذا المكان.”. لم يفهموا كلامي. لكن المعنى في قلب الشاعر كما يقولون. خرجت دون أن أقول وداعاً” . كنت أسير في الرواق الطويل في الطابق الثاني مرفوع الرأس. لأول مرة أشعر أنني أتحرر من هذا العذاب اليومي الذي يطلقون عليه كلمة ” العمل”. لم أفكر بالغد وكيف سأكسب الرزق . هناك جبار كبير يتكفل بالأرزاق. أحسست أن جميع المتواجدين في الطابق الثاني كانوا يسيرون خلفي صامتين لايقوى أحدٌ منهم على قول شيء. كانهم يودعون جنازةً عصفت بها أهوال الزمن. شخصٌ واحد أثر في روحي لم أكن أحسب له حساباً طيلة تواجدي في ذلك المكان على الرغم من محاولاته الكثيرة للتقرب مني. حيدر. هذا الفتى الطويل المتناسق الجسد. كان يعشقني بصمت. أصغر عمراً من ولدي الكبير. قفز نحو يدي وأختطف الحقيبة بعنف وراح يسير أمامي بكبرياء وعظمة. خرج معي من البناية الكبيرة نحو الشارع الطويل دون أن يستأذن من صاحب العمل. أوقف سيارة أجرة ودفع نقوده للسائق.وضع الحقيبة في الفراغ الخلفي للمركبة. قبل أن يفتح لي الباب الأمامي لف ذراعيه حول جسدي المرتعش من البرد وراح يبكي ويقول ” أنت أبي. أنا مستعد للتنازل عن أسم أبي الحقيقي وأحمل أسمك. لقد غيرتَ حياتي. أنت رجل عظيم. لا أحد يستحق هذا المكان سواك. ” فتح لي باب السيارة وهو يقول ” وداعا”. حينما إنطلقت السيارة ظل واقفا يلوح لي بيده اليمنى كأنه يودع عزيزاً الى مجاهل الزمن. ظلت عيناي مسمرتان عليه الى أختفى عن ألأنظار وتحول الى شبح كأي شبح مر في حياتي طيلة السنوات الكثيرة التي عشتها في أركان هذا البلد الممزق بالويلات. أغمضتُ عيناي وأرحتُ رأسي الى الخلف فجاءت كل الصور التي عشتها مع هذا الفتى الطموح طيلة تواجدي في العمل قربه. كان يعمل ويدرس في نفس الوقت. أكمل ألأعدادية وهو في العمل. دخل المرحلة ألأولى من الكلية في نفس السنة التي جئت فيها للعمل معهم. كان يسالني عن كل كبيرةٍ وصغيرة عن اللغة التي بدأ يتخصص فيها. حينما كنت أشرح له بعض العبارات والمقاطع الشعرية من أشعار شكسبير كان ينظر الي كأنني قادم من كوكب أخر. وأخيراً أصبح صفحة مطوية كباقي الصفحات التي إنطوت هنا وهناك.

في اللحظة التي عرفت فيها شريكة حياتي خروجي من العمل شعرت بالرعب والخوف من الحياة اليومية التي ستواجهنا في البيت. كانت تنظر الي بصمت وكأن لسان حالها يقول ” وكيف سنعيش؟”. أخبرتها بالمشروع الجديد الذي ينتظرني في زاوية من زوايا الحياة. وجاء الفجر وأنبثق الصباح. ودعتني زوجتي الحبيبه بكلماتها التي تجلب لي كل الراحة وألأطمئنان عند الباب الخارجي للدار ” كن متسامحاً…..كن متفائلاً”. وتدفقتُ مع بقية الناس الذاهبين الى أعمالهم عند بدايةِ كل يوم. وقرأتُ قسماً من آيات القرآن بصوتٍ خافت كما كنتُ أفعل عند الذهاب الى أي مكان. في التاسعة صباحاً كنت واقفاً عند باب السيدة ” أيام” . وبدأ الحديث عن تفاصيل العقد المبرم بيننا. وتم ألأتفاق على كل شيء وكان منصفاً للطرفين. قادتني الى المكان المخصص لعملي. جلست السيد ” أيام” في كرسيها المتحرك. أغمضت عينيها وراحت تنطق كلاماً كأنه سمفونية خالدة في زمنٍ لم يعد له وجود في هذا التاريخ. هي تتكلم وأنا أكتب بالقلم على ورقةٍ صقيلة. آه.. يالهذه السعادةِ التي أشعر بها ألأن. في زمن ألاسر والعذاب كنتُ أتحسر على قلمٍ بحجم ألأصبع وورقة ملطخة بالوحل والقاذورات كي أسطر مشاعري بصمت ودموع. وألأن أملك أطنان من ألأوراق المعطرةِ برائحة الحب والطموح الذي لايعرف الحدود ,اطناناً من ألأقلام الملونة. أي سعادةٍ هذه التي أعيش فيها ألأن. شكرأً لك أيها الخالق العظيم. مضت ساعتين كاملتين كأنهما دقيقتان. هذا حلم ليس بواقع فالحلم يحدثُ فيه كل شيء. صمتت قليلاً . نظرت اليّ وهي تقول ” نصف ساعة راحة “. دفعت كرسيها دون أن يساعدها أحد وخرجت كمخلوقٍ شارف على الهلاك. بقيتُ أمسك القلم وأنظر الى الورقة. هل أضيف من عندي شيئاً ما؟ أم هذا يخترق القوانين المكتوبة في العقد؟ هل أكتب مشاعري الخاصة أم أنا مأجور في هذا المكان ولايحق لي التعبير عن أي شيء إلا عند مغادرة المكان؟ . دخلت فتاة في عمر الزهور تدفع عربة صغير كتلك العربات التي شاهدتها يوما ما في أحد الفنادق العملاقة حيث الخدمة تخطف ألأبصار. دون أن تنظر في وجهي راحت تسكب لي قدحاً من الشاي وهي تقول ” أمي مريضة اليوم وأرسلتني كي أحل محلها. السيدة ” أيام” تقول أهتمي بالموظف الجديد ودعيه يتناول شيئا لأن أمامنا عمل طويل سوف يستمر حتى الخامسة عصراً”. وضعت أطباق متعددة خفيفة من أنواع مختلفة من المعجنات والعصائر وإبريق ذهبي من الشاي. إبتعدت الى الوراء قليلاً وجلست على ألأرض. طوقت ركبتيها بيديها وراحت تنظر الي بفضول وكانها تستفسر عن سر وجود هذا المخلوق الذكري في هذا البيت؟ .
يتبع ……..

أحدث المقالات