ان الذي حثـّني على كتابة هذا المقال ،هو مقال أخر بقلم الأستاذ (شامل عبد القادر ) في عموده (مدارات حرّة) بعنوان (نزاهة أيام زمان).
وبأعتباري ضابط مهندس خريج عام 1985 ، من الكلية الهندسية العسكرية ،ولحد الأن ، لاحظت الكثير من التغيرات الدراماتيكية في مفهوم الجندية ، والبنية العسكرية للفرد العراقي ، لا شك انها نحو الاسوأ ، بأشواط بعيدة ، للاسف .
تعود أصول هذا (الانحلال) ، الى نهاية الحرب العراقية الأيرانية ، عندما عانى الجيش من نقص شديد لكوادره وموارده بسبب تلك المحرقة ، فكان الكم على حساب النوع ، وكأن صدام اراد الانتقام من تلك المؤسسة العريقة أما بسبب رفضها له للقبول في الجيش أصلا ، او انه اراد (تحييد) هذه المؤسسة بأعتبارها خطر محتمل عليه ، وليست حادثة مقتل (عدنان خير الله) أحداها.
توغل الحزب ، والتفكير الميليشياوي في الجيش شيئا فشيئا ، وتم ترقية الكثير من عناصر الحزب داخل الجيش وهم من (نواب الضباط) ، الى درجة (ملازم) في سابقة لم تشهدها جيوش العالم ، ولكونهم كبار في العمر ، بالنسبة الى رتبة (ملازم) بأعتبارها مرادفة للشباب الغض المتحمس ،كنت أعرف الكثير منهم ، مَنْ يعاكس فتيات المدارس ، ببدلته العسكرية الزيتوني ، وقد صبغَ ماتبقى من شعره ، متقلدا مسدسه !.
وقـلـّت موارد الجيش ، بشكل انعكس على قيافة الجنود وهيئتهم وأرزاقهم ، وشاهدت مرارا ، الجنود وهم (يشحذون) مصروف التحاقهم الى وحداتهم العسكرية في الشارع ، أو من أجل شراء (بيريه) من سوق العلاوي!.
وتسلط عليه الجهلاء والمتخلفين ، وفي ذلك تحضرني طرفة مأساوية : كنت أخدم في مركز التدريب المهني للعجلات ، عندما كنا نتهيأ لزيارة (علي حسن المجيد) لمركزنا بأعتباره وزيرا للدفاع ، وكنت مع أمرنا ، العميد المهندس (شاكر) رحمه الله ، وكان شديدا خصوصا فيما يخص منح الاجازات ، عندما الحّ نائب الضابط ( وكان اسمه شاكر أيضا) ، لمواجهته ، وعندما واجه الأمر ، طلب منه أجازة ، رفض الأمر بالطبع بأعتبارنا مشغولين بحيثيات الزيارة المرتقبة ، ولكنه سأله عن السبب فأجاب ن.ض شاكر بعد تردد:
( سيدي ، السيد وزير الدفاع كان جندي أول ،عاملا في بدالة وحدتنا عندما كنت رأس عرفاء وحدة ،وكنت أعاقبه بكثرة ، وأخاف ان يتذكرني ، وينتقم مني ويجعل حليب أمي يخرج من منخريّ !) .
اجابه الأمر ، بأبتسامة مدفونة : ( ولماذا كنت تعاقبه؟) ،أجاب بعفوية مطلقة : ( سيدي مو خوش أدمي ، وما يجر عدل)! .
رأيت الامر وكأنه ابتلع موسا وأختنق ، فمن جانب ، انتقد احد الأصنام ، وفوق ذلك كان رمزا عسكريا مفروضا ، ولدماثة أخلاق الأمر ، ولواقعيته ، قرر منحه أجازة مفتوحة حتى نهاية الزيارة!.
أتذكر مقابلة تلفزيونية مع السيد (موفق الربيعي) عندما كان مستشارا للامن الوطني ، ومن ما قاله : ( اعجبتني روح الزمالة بين الجندي والضابط ، فهما يجلسان على نفس مائدة الطعام ،ويتمازحان )!.
فهل يعرف السيد المستشار ، ان الجيش نظام طبقي في كل جيوش العالم ، ولا ديمقراطية فيه ؟، وان بنيته تعتمد على الضبط والانصياع الصارم للأوامر ؟ ، هل يعلم ، ان هذا ما تمخض عنه علم النفس العسكري ، بعد ممارسة طويلة ومريرة ؟ ، فينسف كل ذلك بهذا التفكير الميليشياوي؟.
لم يكن من السهل ان تكون ضابطا في الجيش العراقي ، والجندي يتجه بنفسه الى النار ، لا خوفا ، انما مزيج من الكاريزما وسطوة القيادة ، وقوة الشخصية التي يمتلكها الضابط ،ونخوة الجندي الذي يثق بضابطه كل الثقة وايثاره ، ويعلم جيدا ، ان الضابط لن يبدد حياة جنوده عبثا أو من أجل نزوة او حتى حب تسلط ، ويعلم ، ان الضابط لن يتردد في التضحية من أجل حياة جنوده.
حتى كـُليـّتي ، تم استبدالها بأسم (كلية الرشيد الهندسية) التابعة حاليا للجامعة التكنولوجية ، وكأن كلمة (العسكرية) صارت في أيامنا هذه عارا ، لأنها من الماضي ، والماضي يجب ان يُقبَر، أخضرا كان أم يابسا.