عسكرة السياسة التركية
لعبت المؤسسة العسكرية أبان إنشاء الدولة التركية الحديثة دورا هاما في السياسة التركية، إلا أن دورها كان مقتصرًا علي المبادئ الكمالية(نسبة إلي مصطفي كمال أتاتورك) مؤسس الجمهورية التركية الحديثة، ووفق هذه المبادئ، كان للمؤسسة دور كبير في النظام السياسي التركي، واقتصر دور الجيش علي الحفاظ علي هذه المبادئ وحماية علمانية الدولة.
وتستمد المؤسسة العسكرية التركية أهميتها من خلال دورها في نشأة الدولة التركية، والمحافظة علي بقاء واستمرار الدولة، كما تتمتع المؤسسة العسكرية بمكتسبات تتيح لها التدخل في السياسة التركية.
ووفق المبادئ الكمالية والتي حيدت دور المؤسسة العسكرية في الداخل التركي وعدم استخدام القوة العسكرية في الأمور الخارجية، والتي أعلنت السياسة العامة لتركيا وفق مبدأ “سلام في الداخل، سلام في الخارج” والذي يدل علي نأي تركيا بنفسها عن أي تدخلات خارجية وعدم استخدام القوة العسكرية إلا في إطار الدفاع ضد العدوان الخارجي.
إلا أن تحولًا بدا يظهر جليًا علي السياسة التركية في توجهاتها الخارجية، خاصة بعد صعود حزب العدالة والتنمية في نوفمبر 2002م، حيث باتت القوة العسكرية أداة مهمة من أدوات تنفيذ السياسة الخارجية التركية خاصة في الفترات الأخيرة، وعليه باتت تركيا الأن أكثر اتجاهًا إلي استخدام القوة العسكرية خارج أراضيها بعدما كانت قاصرة علي حماية نفسها من مخاطر العدوان الخارجي.
إن التدخلات العسكرية التي تقوم بها الجيوش العسكرية أضحت ظاهرة، قد تكون مقبولة في إطار التنسيق الدولي ووفق الأعراف والقوانين الدولية، إلا أن التدخلات السافرة التي تنتهجها الجيوش بالتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى أصبح السمة الأساسية للسياسة التركية، وعليه يمكن توضيح محددات هذا الدور وآلياته.
ولعل التصريح الذي أعلنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 18 إبريل 2018م، عن التعجيل بانتخابات الرئاسة والمقررة في نوفمبر 2019م، إلى شهر يونيو 2018م، تعبيرا عن استمرار تركيا في سياستها الخارجية بوجهتها العسكرية.
ويذكر أن في بداية عام 2018م، كشف أردوغان، عن سياسة بلاده الجديدة خلال العام الجاري. حيث أكد على أن تركيا ستتبع سياسة أكثر جرأة ومجازفة في الساحة الداخلية خلال العام الجديد، لافتا إلى أن أنقرة لن تستطيع ضمان مستقبلها دون حل مشاكل المنطقة.
عسكرة السياسة ودور تركي جديد
عند النظر في طبيعة الدور التركي الجديد نجد أن السياسة التركية الجديدة ابتعدت عن ما كانت تتبعه وفق منهج العمق الاستراتيجي وسياسة تصفير المشكلات، إلي سياسة أكثر تطرفا في وانغماسا في الملفات الإقليمية متقدمة بسياساتها العسكرية علي باقي الوسائل الأخرى.
وعليه تحركت تركيا للتأثير في العديد من مجريات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، فسمحت لنفسها بالتدخل في احتلال بلدة بعشيقة في الموصل في 16 أكتوبر 2016م، كما قامت باحتلال منطقة عفرين في سوريا بإعلانها عملية “غصن الزيتون”، في 20 يناير 2018م، ومن قبلها عملية “درع الفرات” في أغسطس 2016م، وعليه فإن تركيا تحاول استغلال حالة الفوضى وعدم الاستقرار لتحقيق أهدافها التوسعية، وفرض نفسها كطرف فاعل في أي تسوية سياسية مقبلة.
كما تدعي أنقرة أنها تمتلك عدة أسباب تجبرها علي التدخل في التطورات في مدينة الموصل العراقية وعفرين السورية، تتصل بتطهيرها من الإرهاب بشكل كامل، وتوفير الحماية لها، واحتمالية حدوث موجة نزوح كبيرة منها، ووفق الرؤية التركية فإن هناك محددات تدفعها لمثل هذه السياسة وفيما يلي أبرز الدعاوي التركية لتبرير تدخلاتها في العراق وسوريا:
§ حماية الأمن القومي التركي في مواجهة خطر الجماعات الإرهابية.
§ منع تكوين دولة كردية مستقلة علي الحدود السورية العراقية مع تركيا.
§ دعم حلفاءها في سوريا والمتمثل في الجيش السوري الحر في مواجهة التنظيمات المتطرفة.
§ مواجهة النفوذ الإيراني داخل العراق ومحاولة خلق مناطق نفوذ لها.
وعلى الرغم من هذه الدعاوي التركية لتبرير تدخلها العسكري، إلا أنها قوبلت بالكثير من التنديد والاتهام صراحة بالتدخل في الشئون الداخلية للدول العربية. وكانت وزارة الخارجية العراقية اعتبرت علي لسان المتحدث باسمها “أحمد جمال” تصريحات أردوغان تدخلاً سافراً في الشأن الداخلي العراقي، وتجاوزا لمبادئ العلاقات الثنائية وحسن الجوار، وطالب “جمال” الرئيس التركي بالكف عن إطلاق التصريحات الاستفزازية والتدخل في قضايا العراق الداخلية، وإن وجود أكثر من 150 جندي تركي مدعومين ب25 دبابة ما هو إلا انتهاك لسيادة العراق علي أراضيه وذلك بوجود كل هذه القوات بدون إذن رسمي من بغداد. وفي 12 ديسمبر 2015 قام العراق بتقديم احتجاج رسمي لمجلس الأمن الدولي احتجاجا علي تواجد القوات المسلحة التركية قرب مدينة الموصل شمال العراق.
على الجانب السوري، أعلن الرئيس السوري “بشار الأسد”، إن عملية عفرين لا يمكن فصلها عن السياسة التي انتهجتها تركيا منذ اليوم الأول لاندلاع الصراع في سوريا، والتي قال إنها بنيت علي دعم ما وصفها بالتنظيمات الإرهابية، ووصف “الأسد” سياسة تركيا بـ”العدوان الغاشم علي مدينة عفرين”، كما نفت الدولة السورية أي تنسيق مع أنقرة بشأن هذه العملية.
الأطماع التركية
لا يمكن فصل التحركات العسكرية التركية عن السياسة التركية العامة في الفترة الأخيرة، خاصة وإن تركيا بدأت في الانخراط المباشر في العديد من الملفات والتي تسعي بهذا إلي خلق واقع جديد يتناسب وطموحها الإقليمي.
إن تركيا تنظر إلي الموصل كجزء من أراضيها، فقد كانت ولاية الموصل إحدى ولايات الإمبراطورية العثمانية. وذلك قبل قيام الجمهورية التركية الحديثة بقيادة مصطفي كمال أتاتورك، وقد ناضلت تركيا الجديدة، التي قامت علي أنقاض الإمبراطورية العثمانية حتي النهاية من أجل أن تبقي الموصل جزءا من أراضيها، كما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أكتوبر 2016م، رغبته في تعديل اتفاقية 24 يوليو الموقعة في مدينة لوزان السويسرية في عام 1923م، التي علي أثرها تمت تسوية حدود تركيا القائمة حاليا، وتوالت سلسلة التهديدات التي ركزت علي أن الجيش التركي سوف يتدخل في شمال العراق في حال حصول تهديد مباشر للأمن والمصالح التركية انطلاقا من الأراضي العراقية، في مشهد يوحي بتسويق الغطاء القانوني للتدخل العسكري هناك.
ومن قبل اكد رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان، في إبريل 2016م، بأن قوات بلاده ستبقى في شمال العراق، مشيرا إلى أن تلك القوات هي بمثابة ضمان لسلامة تركيا امام الهجمات المحتملة.
وقال أردوغان في تصريحات ادلى بها في بلدة ريزا على البحر الاسود، أن تركيا لن تسمح لتنظيم داعش أو أي تنظيم آخر بالسيطرة على الموصل، مشيرا الى ان القوات التركية المتواجدة في معسكر بعشيقة القريب من الموصل ضمان ضد أي هجمات على تركيا.
وقديماً، أعلن مصطفي كمال أتاتورك في اجتماع مجلس الأمة عام 1920م، بأن حدود أمتنا من الإسكندرون جنوباً، وفي الجنوب الشرقي تضم الموصل، السليمانية وكركوك. مما يبرهن علي أن الأطماع التركية في هذه المنطقة تاريخية ومرتبطة بنشأة الجمهورية التركية الحديثة.
بالنسبة لسوريا، فإن التدخل العسكري التركي في عفرين جاء لفرض نفسها كطرف فاعل على أرض الواقع لديه من النفوذ ما يمكنه من أن يكون له كلمة في رسم مستقبل سوريا على طاولة المفاوضات المستقبلية لتسوية الأزمة بعد انتهاء الحرب، إعادة ترتيب المناطق الحدودية وتأمينها من أي مشروع كردي في المستقبل على حدودها، وتعتبر أنقرة أن سوريا عمقها الاستراتيجي، ومن خلال التدخل العسكري المباشر، عملت تركيا على تطويق النفوذ الكردي في سوريا لمنعه من استغلال الأوضاع التي تشهدها سوريا حتى لا يطالب بالاستقلال أو مناطق حكم ذاتي تعد تمهيدًا لدعوات الانفصالية وإقامة دولة لهم على غرار تطلعات إقليم كردستان في العراق.
أزمة المياه ولواء اسكندرون
ظهرت مشكلة الاسكندرونة عام 1936م، وتم بشكل نهائي ضمها لتركيا في عام 1939 قبل شهور قليلة من قيام الحرب العالمية الثانية. وعندما اصبحت سوريا دولة مستقلة عام 1946 ادعت فرنسا، دولة الانتداب بأنها لا تملك الحق لتسليم هذا الاقليم الى سوريا، ورفضت سوريا قبول القرار الذي اتفقت عليه كل من فرنسا وتركيا دون موافقة من السوريين، وقد خلف هذا الموقف تأثيرا سلبيا على العلاقات بين سوريا وتركيا لبضع سنوات وعمدت سوريا على وضع المنطقة ضمن الخرائط التي تبين حدودها، ويشكل النزاع عليها عقدة انفصام تاريخية في العلاقات السورية التركية.
وفي ظل العديد من الشواهد التي تثبت أحقية سوريا في اسكندرون، والتي أكدت عليها معاهدة سيفر عام 1920م في المادة 27، والتي فيها اعترفت الدولة العثمانية المنهارة بعروبة منطقتي الإسكندرون وقيليقية (أضنة ومرسين) وارتباطهما بالبلاد العربية.
لكن أقامت تركيا استفتاء بعد احتلالها وتوطين الأتراك داخلها، وتبعته عمليات تهجير للعرب السوريين، وقامت بتغيير كل الاسماء العربية الى اسماء تركية مانعة تداول اللغة العربية في اللواء تحت تهديد السلاح و القمع و الاعتقال و التهجير .. و استمر هذا الأمر طوال عقود مع اضطرابات في العلاقات السياسية بين الدولتين السورية و التركية وصلت لحدود القطيعة.
مشروع الغاب
ظهرت مشكلة الصراع التركي من جانب وسوريا والعراق من جانب آخر، بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، حيث أن نهري دجلة والفرات كانا يقعا في داخل دولة واحدة، إلا أن هذا الوضع اختلف كثيرا بعد انهيار الدولة العثمانية، حيث ظهر على أنقاض انهيار الدولة العثمانية قيام ثلاثة دول تشترك في مياه دجلة والفرات وهي تركيا والعراق وسوريا.
عُقدت الكثير من الاتفاقيات والمعاهدات بين تركيا وكل من سوريا والعراق، إلا أن تركيا الآن باتت أكثر تهديدا للأمن المائي السوري والعراق خاصة بعد إعلان تركيا انشاء العديد من السدود ومشاريع المياه على نهري دجلة والفرات.
وباشرت تركيا مشروعاتها الاستراتيجية منها مشروع سد الغاب، جنوب شرق تركيا ويتألف المشروع من 22 سدا و19 محطة للطاقة الكهربائية ومشروعات أخرى في قطاعات الزراعة والصناعة والمواصلات والري اعتمادا على مياه نهرى دجلة والفرات دون الأخذ في الاعتبار بالمواثيق والمعاهدات الدولية التي تتحكم بالعلاقات الدولية خاصة حقوق المياه لدول المصب ودول المرور ودولة المنبع خاصة العراق وسوريا وبلد المنبع تركيا مما يسبب أخطارا جسيمة على العراق مما يعرضها الى أزمة مائية تجعلها تخسر 40% من أراضيه الزراعية.
وفي 5 اغسطس 2005م، تم الاحتفال بوضع حجر الاساس لبناء مشروع سد”اليسو” على نهر دجلة في الجنوب التركي بالقرب من حدود تركيا مع سورية والعراق بكلفة تصل الى نحو بليون ومئتي ألف دولار أميركي، ويأتي استكمالا لبناء عشرات السدود والمحطات الكهربائية ومنذ عشرات السنين منها سد أتاتورك – أكبر السدود التركية على نهر الفرات في مشروع الغاب.
وتقوم حجة الأتراك في إقامة مشاريع ضخمة، مائية وكهربائية على الأنهار التي تنبع من أراضيهم، من دون الرجوع للتشاور مع الجيران (سوريا والعراق) وعدم مراعاة مصالحهما في هذا الأمر الحيوي، إلى حجة تتعارض مع كل قوانين المياه المتعلقة بمياه الأنهار الدولية متعاقبة الجريان والعابرة للحدود المشتركة، وهذا الأمر أوجد إشكاليات ومشاكل وتعقيدات، إن استئثار تركيا بكميات كبيرة من مياه نهري دجلة والفرات لن يُعرِّض مشاريع الري وتوليد الطاقة الكهربائية في سورية والعراق لأضرار بالغة فحسب، بل يعرض البلدين لخطر الجفاف وحلول الكوارث أيضا.
إن الحروب القادمة وبخاصة في منطقة الشرق الاوسط ستكون حروب مياه، فالذي يسيطر على مصاد المياه ومنابعها ويحتجزها هو الذي يفرض ارادته السياسية والاقتصادية على الاقليم ودوله أو على المنطقة بأكملها، وستصبح الصراعات الايديولوجية في الموقع الثاني أو الثانوي ولعل قيام تركيا ومن دون مراعاة مصالح جيرانها الضخم (مشروع احياء منطقة جنوب شرق الاناضول) أحد أهم اسباب النزاعات المستقبلية في المنطقة.
إجمالاً
أضحت تركيا اليوم وفق العديد من الشواهد الميدانية، أكثر تثبتا باختيار التوجه العسكري في تحركاتها الخارجية، بعدما كانت تتحرك وفق آليات سياسية واقتصادية، وعليه؛ باتت تركيا الآن في مواجهة مباشرة مع العديد من الدول الإقليمية في كثير من الملفات والقضايا والتي قد تتبلور فيما بعد لتصل إلى حروب إقليمية أو تصعيد عسكري متبادل قد يهدد آمن واستقرار المنطقة.