19 ديسمبر، 2024 1:45 ص

عسرالهضم هوعبارة عن شعور بالألم ، وعدم الإحساس بالراحة في الجزء العلوي من المعدة، أما عسرالهضم الفكري فهو ناتج عن عدم إستيعاب حزمة من الأفكارأو  هو تداعيات نتف من الأفكار تم جمعها بشكل عشوائي تراكمت في ذهنية تمتاز بالهشاشة الفكرية.
ولنأخذ الديمقراطية كمثال على ذلك ، فهي مفردة طالها ومنذ عقود غبش فكري وسط المتاهة المعرفية التي نعوم فيها جميعا ، فمازال يحتدم حولها الصراع بين تياريين فكريين متضادين ، لايعرفان سوى مع أوضد ، بين مُقدس للقديم أوناقم عليه ، أو بعبارة أخرى عاشق للجديد أومعارض له، صراع دامٍ بين من يعيشون على مخلفات الماضي ، وبين من يفرون منه الى بريق الجديد اللامع ، مأساة فصولها تتداعى بين التيارين اللدودين أفضت الى هدر موارد الأوطان وسفك دم الأبناء وجذّرت الثأر وفتحت الأبواب على المجهول ، وخلّفت أوضاعا أغلقت فضاء التفاكر الموصل الى التكامل المأمول.
فما أن يُطرح موضوع الديمقراطية أوغيرها كالمدنية أوالعلمانية للنقاش في القاعات الدراسية أو اللقاءات الإجتماعية أو النخب المثقفة على إختلاف توجهاتها ، حتى تظهر أعراض عسر الهضم الفكري فترتفع حدة السجالات ويتداخل الشخصي بالفكري ويختلط الحاضر بالماضي ، ويطفو التوجس المقرون بالخشية من طرح الجديد ، إذ يتلبسنا هوس المؤامرة ، فمن المؤسف أننا لا نمتلك أدوات معرفية  لقراءة الماضي من أجل إستيعابه في واقعنا الراهن ، ولا الجاهزية الفكرية للتعاطي مع أفكار وتجارب العصر بفاعلية ، مما أفضى لإصابتنا الحادة بعسر هضم فكري، في ضوء تباين مواقف الشرائح الفكرية المعاصرة إزاء الديمقراطية الى ثلاثة إتجاهات:
– ضد الديمقراطية ، لأنها منتج غربي ، لسنا بحاجة إليه ، مستدلين بسوء تطبيقاتها المعاصرة التي شوهت صورتها في الذهنية العربية.
– مع الديمقراطية ، فهي آليات لضبط التدوال السلمي وإدارة ناجحة للإختلاف.
– الفريق الثالث يدعو الى المواءمة بين الشورى كمفهوم ،والديمقراطية كآليات، تيار توفيقي على الرغم من قلة منتسبيه ، إلا أننا نعلق عليه الكثير من الآمال، لأنه يجمع بين إيجابيات الإتجاهين السابقين .
 إرتباكنا الفكري حصاد لمُخرجات الإستبداد السياسي فضلا عن غياب منظومة صناعة العقل ،  عوامل تدفع لتبني هذا الإتجاه أو ذاك ، وهما في حقيقة الأمر وجهان لعملة واحدة، وقد أصاب ذلك المفكر الذي حلّل الخلفيات الفكرية لكلا التيارين المتناكفين حين سُأل؟ ماذا يحدث في الجزائر أيام التسعينات ، قال (ماذا يحدث ؟ ناس تريد باريس ، وناس تريد إبن باديس) يقصد صراع بين دعاة التيار الغربي والتيارالإسلامي الذي ينتمي الى عبد الحميد بن باديس الجزائري المتوفى 1940.
في هذا المناخ الفكري المتلبد بالغيوم الذي تنعدم فيه الرؤية تضيع بوصلة الأفكار أمام الحمولة المعرفية التي نشعر إزاءها بصعوبة الإستيعاب خشية على قناعاتنا المريحة من القلق المعرفي، لذا نتشبث بحرص غريب على لذة التثاؤب الفكري ، بل ونتهكم على محاولات صياغة خيارات وبدائل أخرى ، قد تنتشلنا من عجزنا الفكري أمام تقييم الماضي أوالإتجاهات الفكرية المعاصرة التي تهدف الى التعامل الواعي مع معطيات العصرالفكرية.
للوقاية من عسر الهضم الفكري لابد من تناول جرعات فكرية تسهم في صناعة عقلنا المعرفي عبر الإستفادة من التجارب الفكرية الناجحة التي جعلت من عسر الهضم من أمراض الماضي ، أفضل من البقاء أسرى تفتك بنا فايروسات الفكر المغلق بشقيه ،  ،  خائفين على أفكارنا المحنطة من مثيري الشغب الفكري. 
في وقت ألغى سكان العالم الأول جدران القاعات الدراسية وتبنوا فكرة (مدارس المستقبل) وتجاوزوا ماسار عليه التعليم الكلاسيكي كآليات الحفظ والتلقين والإختبارات التقليدية ، وصاروا يمنحون درجات النجاح على القراءة الدقيقة وعمق الخيال وسعته وملكة النقد والقدرة على الحوار وطرح الإستشكالات على المقروء ، منطلقين من أننا لانقرأ لنحوز المعلومة بل نقرأ لنتفاعل مع الأفكار ، لكي نحوز معادلة صناعة العقل.
معلومات + تصورات+ خارطة ذهنية+ حدس علمي = صناعة العقل.
فالحصول على المعلومات وتكديسها ليس نهاية المطاف ، هي وسائل مساعدة على التفكير، لابد من اقتنائها من أجل التفاعل مع الأفكار ثم توظيفها في تطوير الواقع.
إختبر نفسك : هل تعاني من أعراض عسر هضم فكري؟
إذا إستطعت أن تنظر لقضية فكرية ما ، من أكثر من زاوية ، مبديا إحترامك لما يُطرح حولها من أفكار شتى ، وتجدها جديرة بالقبول ، واضعا بصمتك على إختيارك المركب المستخرج من بين رؤى متعددة . فأنت تتمتع بنقاهة فكرية تستحقها بجدارة، راجين للجميع دوام العافية الفكرية.
 
إضاءة: إن الديمقراطية من أنجح محاولات الإنسان لإدارة مجتمعه وترتيب علاقاته ( د. محمد الأحمري من كتابه الديمقراطية ، الجذور وإشكالية التطبيق ، الشبكة العربية للأبحاث والنشر ، بيروت 2012).

أحدث المقالات

أحدث المقالات