18 ديسمبر، 2024 8:09 م

لم اعرفه لأول وهلة وأنا ادخل مكتبه بعد سنوات من الفراق الطويل .
هو صديق طفولتي وحياتي لكنه اليوم يعيش عالما آخر خطه له القدر .
هكذا كان تصوري لولا أنه بادرني بعد السلام مرددا ابيات شعرية لا ليليا ابي ماضي :
قل للغني المستعز بماله مهلا لقد اسرفت في الخيلاء
جبل الفقير أخوك من طين ومن ماء، ومن طين جبلت وماء
فمن القساوة ان تكون منعما ويكون رهن مصائب وبلاء
وتظل ترفل بالحرير أمامه في حين قد امسى بغير كساء
اتضن بالدينار في اسعافه وتجود بالآلاف في الفحشاء
انصر أخاك فان فعلت كفيته ذلّ السؤال ومنة البخلاء
أذوي اليسار وما اليسار بنافع إن لم يكن أهلوه أهل سخاء
كم ذا الجحود ومالكم رهن البلا وبم الغرور وكلكم لفناء؟
ان الضعيف بحاجة لنضاركم لا تقعدوا عن نصرة الضعفاء
انا لا اذكّر منكم أهل الندى ليس الصحيح بحاجة لدواء
ان كانت الفقراء لا تجزيكم فاللّه يجزيكم عن الفقراء
نعم ترنم بهذه الابيات ورحت استذكر في نفسي ما كان لهذه الابيات من حوادث في طفولتنا المبكرة إذ كنا تلاميذا في مدرسة واحدة وبالضبط في الصف الرابع الابتدائي وحين يبدأ درس اللغة العربية كان صديقي هو المتفوق في كل شيء
الانشاء او الالقاء او القواعد او القراءة والاملاء وكان المعلم يعجب من اسلوبه الرائع وكذلك التلاميذ حتى انه طلب اليه ان يحفظ هذا الشعر ليلقيه في تجمع يوم الخميس عند رفع العلم ,فظل صاحبي يحفظ ويحفظ ويلقي الشعر كأنما روحه تصعد مع ما يلقي من كلمات حتى جاء الخميس فكانت حواسه جميعا متوفزة لتسمع النداء ولكنه…يا للهول …انه النداء ولكن لتلميذ آخر لا يمتلك مؤهلاته باللغة والالقاء وحب الشعر لكنه يلبس افضل منه ,نعم كان النداء للبدلة المستوردة و للحذاء الجلدي اللامع ولتصفيفة الشعر الناعمة المفعمة برغد العيش وصفو الحياة ولا يهم ان لم يكن ذلك التلميذ من محبي الادب او المحترفين بالشعر.
ادب الشكليات والمظاهر افضل بالنسبة لولائك الجهلة ومن الظلم ان يكون مربي النشء بهذه الضآلة .
قال صاحبي وهو يعيد عليَّ تذكار ذلك ويذكرني بدموعه التي ذرفها يوم الخميس ويوم الجمعة ويوم السبت اذ اعلن الاضراب في البيت الذي خلا من الأب لوفاته طالبا من امه الارملة ان تأتيه بالملابس المستوردة بدل بدلته البائسة التي جيء له بها قبل عامين والتي لولا رعاية امه لها لما استطاع ان يستر بها جسده وحذاءه الكتاني البسيط.
نعم اعلن الاضراب …اما الملابس الجديدة او لا دراسة …رجف قلب الوالدة فدراسته هي كل ما تعول عليه, إذ تعتبر نجاحه هدفها في الحياة راضة بمعاناتها وتعبها مقابل العلم الذي سيناله الصغير الذكي النشيط ولكن ما عساها تفعل في الفقر والحاجة وهي تتمزق الما وحرقة اذ ترى الانكسار يلوح عليه والعذاب فما كان منها الا ان ذهبت الى بيت شقيقها تسأله المساعدة وهي تعلم انه ليس بمتمكن من مساعدتها لقلة ماله وكثرة عياله ولكنه اجتهد في مساعدتها ما استطاع الى ذلك سبيلا فتم الحصول على بدلة جديدة وحذاء لامع وعادت الام فرحة للولد المضرب عن الدراسة الا بشرطه المنوه عنه ووضعتهما وهي تهتف بلهفة المحب وحنو الام خذ البدلة التي اردت ان الله تعالى لا يضيعنا ..فرح الصغير ولبس البدلة وظهر بأجمل ما يكون تلميذ شاطر ذكي نبيه وهنا بادر امه السؤال من أين جئت بالمال لشراء ملابسي الجديدة …انكسرت نظرتها وضمته الى صدرها قائلة لا عليك المهم ان تبادر درسك ودراستك حين اصر على معرفة الامر اخبرته بانها وخاله من كماليات الحاج عبد الواحد على ان يسدداه الثمن بعد حين …هنا كانت المفاجئة الكبيرة إذ اعلن الولد عن تخليه عن الملابس واعادتها الى صاحب المتجر الذي لم يكن غير والد المعلم الذي حرمه النداء ليتغنى
بالشعر(قل للغني المستعز بماله ..مهلا فقد اسرفت في خيلاء)وعاد ولبس بدلته القديمة قائلا لن اسامح نفسي اذ كلفتك ان تستديني ثمن بدلة لن تغيير درجة حقيقتي وان غيرت مظهري واعدا اياها :انني لن اتخلى عن تحقيق حلمك الذي تريدين.
هكذا سار بخطواته الثابتة غير ملتفت لأمنياته الانية التي لا يمكن تحقيقها وجعل ارادته اعلى مرتبة من ان تهزمها عواصف اليأس او عذابات الحرمان.. ومضى يهتف لنفسه :صبرا الى حين تحقيق الظفر.