23 ديسمبر، 2024 4:18 ص

عزيز محمد شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار

عزيز محمد شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار

الحلقة التاسعة

“ليت لي رقبة كرقبة البعير كي أزن الكلام قبل النطق به”
الإمام علي
“آني أريد أموت يمّ أهلي”… هذا ما ظلّ الرفيق حسين سلطان يردّده على مدى أشهر قبل أن يتّخذ قراره بالعودة إلى بغداد العام 1989. لم أنسَ هذه الجملة التي بقيت ترّن في أذني لسنوات طويلة، وكلما تذكرت ” أبو علي” تقفز تلك العبارة إلى ذهني، ولعلّه كان يستعيدها حين تداهمه نوبة ربو مفاجئة ، حادة ولئيمة، بحيث تتقطّع أنفاسه، فيخرج البخّاخ من جيبه على عجل ليرش جرعتين في فمه أو ثلاث أحياناً، ليتحرك الدم في وجهه، فيستعيد مرحه ويضحك من كل قلبه وكأنه طفل بريء، ليخاطب من حوله ” مثل خنجر الصُلبي يتحلحل وما يطيح”، أي أنه ما زال يعيش على الرغم من تدهور وضعه الصحي.
في إحدى المرات خاطبني وكان بحالة حزن شديد وبتشاؤم كبير على غير عادته، قائلاً: هذا جزائي وليس ثوابي، فبعد 51 عاماً من عضويتي المستمرة بالحزب الشيوعي العراقي أُترك هكذا لأواجه مصيري وكأنني جئت مستطرقاً، وضرب مثلاً شعبياً قائلاً” مثل الجمل يحمل الذهب ويأكل العاقول”، وكرّر كلامه: إنني لا أبحث عن ثواب ، لكن أن يتم تركي تائهاً في هذه الغربة اللعينة وبلا معين، فذلك أمر لا أرتضيه حتى للأعداء، فكيف بي وأنا قدّمت كل حياتي وعائلتي دون منّة أو ادعاء، مثلي مثل العديد من الرفاق، وإذا بي أعامل بهذه الطريقة المهينة واللّاأخلاقية، وأنا في وضع صحي بائس ولا أعرف كم تبقّى لي من الأشهر أو الأيام لكي أغادركم إلى ” الرفيق الأعلى” لذلك “أريد أن أموت يمّ أهلي” .
وأضاف حسين سلطان: ” لولا د. محمد جواد فارس في دمشق ومراجعاتي المستمرة له وتأمين الدواء والعناية من جانبه وكذلك د. سمير السعدون في براغ ، لكنت انتهيت في هذا المنفى في غرفة رطبة وأوضاع لا أحسد عليها ، فحتى زوّاري حين كنت في الشام يتحرجون من زيارتي لأسباب تعرفها”. أشحت عنه نظري كي لا يرى مدى تأثري، وانشغلت بطلب الحساب من النادل في إحدى المقاهي التي جلسنا فيها لنشرب الشاي ، لكنني بقيت أسمع صوته ونشيج صدره ونفسه الصاعد والنازل ولون وجهه الممتقع، فهذا الرجل الأبي، الجسور، الشجاع، كنّا نستمد منه العزم والمضاء، فكيف وهو على هذه الحال.
كرّر ذلك أمام أكثر من رفيق وتساءل بمرارة: هل حقاً نحن الشيوعيون جُبِلنا من طينة أخرى كما كنّا نردّد ؟ إذاً من أين جاءت القسوة والكراهية لتطغى علينا؟ وكيف يقبل الرفيق عزيز محمد، وهو رفيق عمر، مثل تلك الممارسات أم أن كبيرهم علّمهم السحر؟ وهل يعقل أن السبب هو أن لدينا وجهات نظر مخالفة لما هو سائد فتتم معاقبتنا والانتقام منّا في أوضاع الغربة والعوز والفاقة والشيخوخة والمرض والبعد عن بيئتنا ومحيطنا وعوائلنا؟
جدير بالذكر أن حسين سلطان حوسب في بلغاريا وتم إخراجه منها بطلب موجّه إلى الحزب الشيوعي البلغاري، واستدعي إلى دمشق دون مهمة محددة سوى ” الموت انتظاراً” كما كان يقول. وكانت انتقاداته قد أخذت تزداد قبيل وبُعيد المؤتمر الرابع، ولاسيّما في الموقف من الحرب العراقية – الإيرانية، إذ كان ضد أي ممالئة لإيران، وقد سبق له أن شخّص ظاهرة ” التكريد” التي كتب فيها عدة رسائل إلى إدارة الحزب، منذ العام 1970 وارتباطاً مع المؤتمر الثاني، وجاءت إحدى رسائله بعنوان “تكريد الحزب الشيوعي العراقي عمل ضار مبعثه نظرة قومية وحيدة الطرف” وكان قصده كما يقول “وضع الحقيقة أمامهم عارية لا لبس فيها ولا غموض” وهو ما ذكره الرفيق باقر ابراهيم في مذكراته الموسومة ” مذكرات باقر ابراهيم”، دار الطليعة، بيروت، 1996، وكذلك ما عرضه نجله خالد حسين سلطان بعنوان “أوراق من حياة شيوعي: حسين سلطان صبّي،” 1920-1992، دار كنعان، (الناشر مؤسسة عيبال – نيقوسيا /قبرص) دمشق، 2007، ولا ينبغي أن يُفهم موقف حسين سلطان وكأنه موقف من الشعب الكردي وحقوقه العادلة والمشروعة، بقدر كونه موقفاً من رفاق ضيّقي الأفق داخل الحزب الشيوعي كما قال لي حين سألته عن تفسير موقفه.
كنتُ قد التقيته في صوفيا قبل لقائي به في الشام، حيث كان يعيش في المدرسة الحزبية، حين كنت ضيفاً على وزارة الإعلام البلغارية، واستمعت حينها إلى وجهات نظره وملاحظاته القديمة والجديدة، بشأن قضايا التحالف وتفويت الفرص والحرب العراقية – الإيرانية والعلاقات الرفاقية. وفي لقاء جمعنا مع عامر عبدالله في الشام عرض حسين سلطان وجهات نظره وبسطها بطريقته المقنعة باقتراح بعض البدائل كأمر انتقالي لمواجهة الإذلال والاستفراد.
وبادر أبو عبدالله الذي كانت قد نضجت لديه الفكرة حينها للاتصال بالسلطات اليمنية التي وفرت جوازات سفر خاصة لعدد من الرفاق بينهم حسين سلطان وعدنان عباس(الذي غادر كردستان عبر إيران وصولاً إلى أفغانستان ومنها إلى موسكو) وزكي خيري، إضافة إلى راتب شهري لكل منهم (جرى قطعه لاحقاً بضغط من الطرف الآخر، كما قال اليمنيون لعامر عبدالله)، وكان أن حصل قبل ذلك على دعم من إحدى المنظمات الفلسطينية كما ذكر باقر ابراهيم، وقرّر الجميع التوجه إلى براغ والتحرك من هناك، خصوصاً بالتحرّر من مخاوف الإيقاع بهم في الشام.
وكانت الجوازات الدبلوماسية والخاصة (جوازات خدمة) تمنح حق الإقامة لمدة 6 أشهر لكل حامل لها، ويمكن تجديدها بالخروج والدخول مرّة ثانية؛ وكان باقر ابراهيم قد وصل إلى براغ في الوقت نفسه الذي وصل فيه حسين سلطان وعامر عبدالله . أما آرا خاجادور فقد كان يعيش في براغ أيضاً بعد تجربة الأنصار، حيث بدأت علاقته تتدهور مع إدارة الحزب، وفي براغ أيضاً كان يعيش ماجد عبد الرضا من مطلع العام 1988؛ وجرت لقاءات متعددة بما فيها فتح قناة مع السلطة عشية وبُعيد مبادرة مكرم الطالباني ، ولقائه بعزيز محمد وجلال الطالباني، إضافة إلى لقائه مع نوري عبد الرزاق وعامر عبدالله ، لكن تلك المحاولات لم تتمخض عن شيء، بل عمّقت الخلافات بين الفرق المختلفة وزادتها، تباعداً مع إدارة الحزب التي تشددت في موقفها ففصلت حسين سلطان وباقر ابراهيم ونوري عبد الرزاق وعدنان عباس وناصر عبود، وفشلت محاولات رأب الصدع والتوجه الموحّد لمواجهة الأزمة واتخاذ موقف موحد إزاء التطورات التي حصلت في البلاد بعد انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية.
وفي براغ وجدت حسين سلطان لأول مرة متشائماً ومحبطاً، خصوصاً بتردي العلاقات الرفاقية ، وهو الوجه الاجتماعي المحبوب، وكنت أتساءل مع نفسي ماذا لو تعرّض عزيز محمد إلى نفس ما تعرّض له حسين سلطان ، فكيف سيتصرّف؟ علماً بأن حسين سلطان ظلّ متماسكاً ويتعامل بثقة ورباطة جأش.
قال لي حسين سلطان: لقد عارض عزيز محمد الخط السياسي لإدارة بهاء الدين نوري ومعه نخبة حزبية في السجن وخارجه وفي مقدمتها الشهيد جمال الحيدري، واعتبرنا الخط السياسي السائد متياسراً ومتطرفاً بلغة تلك الأيام، وعبّرنا عن اجتهادنا لاحقاً بتشكيل مجموعة أطلقنا عليها مجموعة ” راية الشغيلة”، حيث عمل معها حسين سلطان المسؤول حينها عن اللجنة المحلية في النجف ، وظلّ على وجهات نظره حتى بعد الاتفاق مع قيادة سلام عادل، وإنْ اندمج فيها .
وكان الحزب قد انقسم حينها، خصوصاً بعد إجراءات الطرد،التي اتخذت بحق عدد من الرفاق منهم جمال الحيدري وعبد السلام الناصري وعبد الرزاق الصافي، إضافة إلى “عزيز محمد – مخلص “، فكيف يسمح الرفيق أبو سعود لنفسه أن يرتكب نفس ما اتهم به خصومه؟ قال ذلك حسين سلطان بألم: كيف له أن يُقدم على طردنا ونحن حتى الآن أعلنا عن رأينا في السياسة وبعض قضايا التنظيم والعلاقات الرفاقية؟.
كان حسين سلطان يردّد لقد جئت إلى الحزب في العام 1938 وحصلت على العضوية في مطلع الأربعينات، ولم أقرأ لا كتاب رأس المال ولا مؤلفات لينين ، فقد تم إقناعي ببساطة عبر الأخلاق، وهذا ما كسبنا الناس به وفي الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم، وإذا تراجعنا عن ذلك، فماذا سيبقى لنا، خصوصاً حين نتجاوز على حقوق بعضنا البعض ونتعامل بقسوة وكراهية ونحمل الضغائن والأحقاد في قلوبنا؟ وكما ذكرت في مطالعتي الموسومة ” مقهى ورواد ومدينة – ذاكرة المكان ونستولوجيا التاريخ”(الحوار المتمدن ، 27/1/2012)، فإنه كان يستعيد بعض المواقف بمرارة وألم، وإن ظلّ فخوراً بانتمائه، لكن الزمن والمرض أخذا منه الكثير.
في أحد الأيام دعانا حسين سلطان إلى الغداء في منزله الذي يسكن فيه مع عدنان عباس (أبو تانيا) في براغ التي وصلتها، وقال لديّ أمر مهم أريد أن آخذ رأيكم فيه: وأتذكر أن من الحاضرين كان : أحمد كريم وماجد عبد الرضا وعامر عبدالله وعباس عبيدش وعصام الحافظ الزند وكاتب السطور ولست متأكداً من حضور خالد السلام ، إضافة إلى عدنان عباس وصاحب الدعوة أبو علي.
وبدأ الحديث عن رغبته في العودة إلى العراق وقال بالحرف الواحد: إنه يئس من الانتظار وأن وضعه الصحي يتدهور وهو يريد أن يموت في العراق على حد تعبيره، ويطلب رأينا قبل أن يتخذ قراره الخاص، علماً بأنه كان قد توصل إلى قناعة هي أن وجوده أصبح بلا جدوى، وأردف القول: إذا تم الضغط عليّ فإنني سأبلغ الجهات المعنية أنني لا أرغب بالعمل السياسي دون عودة جماعتي، ووفقاً لصيغة جديدة وقانونية للتعاون الوطني واتخاذ إجراءات إيجابية تساعد على ذلك، سواءً عودة الجبهة الوطنية أو أي شكل مماثل لها، وإلاّ فإنه سيتحمل المسؤولية، وإنْ استطاع أن يفتح كوّة صغيرة، فالأمر سيكون إيجابياً، وإلاّ فإنه سيكون ملازماً بيته وبعيداً عن أي نشاط سياسي وسيتحمل نتائج موقفه.
وكان الحاضرون جميعهم تقريباً قد أبدوا تأييدهم بدرجات متفاوتة لعودته، وأبلغنا أبو علي أن باقر ابراهيم يؤيد عودته وأنه متفق معه وأنه استمزج الرأي عبر أحمد كريم مع مهدي الحافظ ونوري عبد الرزاق، فأيّدا ذلك.
وكنت قد أبديت رأيي المتحفظ بخصوص عودة الرفيق أبو علي بالطريقة إيّاها، وقلت أن الظروف لا تسمح بعودة آمنة لكي يستطيع الحزب أن يلعب دوره اللاحق، وقلقي أن تستثمر السلطات العودة الفردية، لكي تمارس ضغوطاً أكبر على الرفاق بدلاً من الاعتراف بهم ككيان أو مجموعة سياسية مختلفة معها، علماً بأنني أعتبر العودة الفردية غير مشجعة لتحقيق انفراج سياسي فعلي، غير أن السلطة زادت في حملاتها القمعية، بعد انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية حسبما تقول المعلومات.
وأضفت إلى ذلك وعدنان عباس وعصام الحافظ الزند يتذكران : لا بدّ من شيء واضح، وإعلان صريح من جانب الحكومة بالرغبة في الانفتاح ومشاركة الآخرين، ناهيكم عن اتخاذ خطوات ملموسة بإطلاق سراح المعتقلين وفتح حوار جدي لتسوية المسألة الكردية وإعادة المهجرين وتعويضهم والشروع للانتقال للحياة الدستورية، والأهم العمل الجدي لإعادة بناء ما خرّبته الحرب في إطار عملية تنمية شاملة، وهذا كان برنامجنا الذي طرحناه في آب (أغسطس)1988 وقد ضمّناه في البيان الذي كتبناه باسم المنبر بُعيد انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية 8/8/1988 وورد لاحقاً في البلاتفورم الذي صدر بعد الاجتماع الموسع.
قال حسين سلطان: ليس لديّ أي وهم من أن السلطة ستستقبلني بالأحضان، وإذا ما تعرضت لأي ضغط، فضربة واحدة (سطرة كما عبرّ عنها) تكفي لأن ألفظ أنفاسي، وإذا كان الضغط ودياً، فسأقول أنا مستعد للعمل شرط أن يأتي رفاقي، وهؤلاء لا بدّ من توفير مستلزمات عودتهم بإحداث انفراج سياسي وإيقاف التعقبات القانونية ضدهم، وعدى ذلك فأنا معتزل في بيتي. وعلينا أن ندرك الظروف القاسية، ولاسيّما الصحية للرفيق أبو علي، الذي اتخذ مثل هذا القرار.
شعرت بحزن شديد وأنا أفارقه، فحسين سلطان بالنسبة لي مثل والدي، عرفته وأنا طفل ثم فتى، وأتذكّر أن أم علي رزقت بمولود في أواسط الخمسينات (أحد بناتها أو أولادها- ربما خالد أو بشرى)، وكان بيته في منطقة شبه ريفية في الطارات (على طرف الشواطئ في النجف) وطبخت والدتي ما يُعرف بالعصيدة (الحلاوة) وحملتها إلى ” منزل” أبو علي مع رفاق عمي شوقي شعبان والشهيد محمد موسى ورحيم الحبوبي وعبد الزهرة الحلو وعبد الرضا فياض، وأتذكر أنهم لم يرغبوا في الإفصاح عن الشخص الذي نزوره، فبعضهم قال أنه الحجي والآخر الشيخ وثالث خاطبه أبو علي، وأتذكر أنهم تنادوا لجمع ما لديهم لتقديم هدية فاستعانوا بوالد الفتى وأحد الأقارب وخال رحيم الحبوبي، وهكذا تجمّع مبلغ من المال دسّه محمد موسى كهدية تحت وسادة الطفل (مقهى ورواد ومدينة).
ما يزال ذلك اللقاء عالقاً بذهني وصورة أبو علي بالعقال والكوفية التي عرفته فيها لأول مرّة في انتخابات العام 1954 داعماً لترشيح الشيخ الجليل محمد الشبيبي (والد الشهيد حسين الشبيبي) وهو يتحرك في المحافل ليخرج من بيت قريب من بيتنا إلى حيث الاجتماعات وعلى الرغم من أنه كان مسؤولاً لراية الشغيلة ، لكنه أقنع الطرف الآخر بأن المرشّحين الشبيبي ود. خليل جميل هما مرشحان مدعومان من جانب الحركة الشيوعية، إضافة إلى مرشحي الجبهة الوطنية الآخرين (محمد رضا السيد سلمان)، وأتذكّر أن مرافق الشبيبي حينها كان الشيخ وهاب شعبان الخادم في حضرة الإمام علي وكان الدكتور محمد رضا الطريحي طبيب الأسنان المعروف يصطحبه بسيارته إلى الكوفة ليلتقي بالناس ويحييهم ويعرض برنامجه الانتخابي، ولعل تلك الصورة الطفلية ظلّت عالقة بذهني، بما فيها من رومانسية وتحدٍّ.
أحببت في حسين سلطان مرحه وسخريته ونكاته وحكاياته الشعبية وقدرته على الاقتناع، وكنت أتعجب كيف يقنع الآخرين وأستطيع القول أن ثلاث قضايا اجتمعت في شخصه وهي الحقيقة والحق والصدقية مثلما أقدّر فيه شجاعته اللّامحدودة وكرمه لدرجة السخاء وإخلاصه الصادق، وهي لو غابت عن أي مناضل، فلا قيمة لما يعرفه من الكتب أو عدد السنوات التي قضاها في السجن أو المواقع التي وصل إليها. ومثل هذه الأمور سمعتها من الآخرين بحق حسين سلطان ويعترف بها الخصوم قبل الأصدقاء والرفاق “والفضل ما شهدت به الأعداء”.
قال لي الصديق محمد دبدب عضو لجنة بغداد للجبهة الوطنية، كان الممثلان عن الحزب الشيوعي في لجنة بغداد هما د.صباح الدرة (الذي اختفى قسرياً منذ شباط /فبراير/1980 ولم يُعرف له أثر حتى الآن ولم يجل مصيره) وحسين سلطان ، وغالباً ما كنّا نختلف ، لكن ما إن يتدخل حسين سلطان حتى نقتنع بوجهة نظره لأنه يحاول أن يطرح ما قاله رفيقه الدرة بلغة أخرى وبأسلوب شعبي مع أمثلة كثيرة: يلطم لطم شمهودة أو يثرد ويّه الكبار وياكل ويّه الصغار ، ثم يحيل المسألة بعد تفكيكها إلى مفردات عمومية نتفق عليها، حتى وإن كان اختلافنا حاداً ويقول دبدب أن حكمت العزاوي نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية السابق، قال له يا أخي هذا الرجل يقنعنا حتى وإن لم نقتنع ، لأنه إنسان صادق وواضح
وحسب هابرماز الصدق حقيقة والحقيقة حق ، وكان هابرماز قد تحدّث عن الفعل التواصلي للمعرفة النظرية، وهو السعي بالتوصل إلى التفاهم والاحتكام ضمنياً إلى معايير متفق عليها، وليس أصدق من معيار الصدق والحقيقة وهما يجسدان الحق.
وقال لي الصديق منذر المطلك (مدير مكتب الرئيس البكر وسفير لاحقاً) في لقاء بعمان وأمام آخرين : لديكم درر ومناضلين كنّا نتمنى أن يكون لدينا مثلهم أمثال حسين سلطان وثابت حبيب العاني، وهؤلاء أبطال حقيقيون وعليكم أن تنصبوا لهم التماثيل لا أن تعرضوهم لما تعرّضوا إليه، وروى لي قصة اعتقال ثابت حبيب العاني وعتبه على الرفيق عزيز محمد الذي ظلّت علاقته به مستمرة، وكان آخر اتصال بينهما كما أخبرني هو زيارته له في إربيل مع أحد القيادات الكردية (قبل وفاة الرفيق أبو سعود بنحو ثلاث سنوات) وكان أن استغل هذه الزيارة ليستعيد معه قصة ثابت حبيب العاني وصموده وما تعرض إليه من ظلم وتنكيل.
والحكاية باختصار تقول أن المطلك هو الذي أوصل أبو حسان إلى الكرادة قرب حسينية عبد الرسول علي وكان منزل شقيقه ” الحجي” قريباً من ذلك، ولكن سيارات ناظم كزار كانت تقتفي أثرهم، وحين نزل أبو حسان من السيارة وغادر المطلك، توجّه إليه مجموعة من رجال الأمن وكمموا فمه ونقلوه إلى إحدى السيارات، وحين علم المطلك من كاظم فرهود بذلك، ذهب إلى الرئيس أحمد حسن البكر الذي كان مديراً لمكتبه وهو زوج ابنته أيضاً، وقال له بالحرف الواحد: أقتلُ نفسي إن لم يتم إطلاق سراحه، لأن ذلك سيعتبر توطؤاً من جانبي، وقد سبق لي أن رويت هذه القصة وتفريعاتها في كتابي الموسوم “عامر عبدالله – النار ومرارة الأمل ” دار ميزوبوتيميا، بغداد ، 2014 ، ومناسبات أخرى.
وقال لي المطلك : خاطبت أبو سعود في آخر مرّة زرته فيها بأربيل بصحبة أحد القيادات الكردية: كنت أعرف الكثير من بيوتكم، خلال تلك الفترة وكانت علاقتي وطيدة مع آرا وحسين سلطان وصادق جعفر الفلاحي وكاظم فرهود وصالح دكلة ونوري عبد الرزاق وآخرين، وكانت تصلني ملاحظات أبو خولة “باقر ابراهيم” عن الانتهاكات والتجاوزات خلال فترة الجبهة الوطنية عن طريق مهدي الحافظ، وبدوري أقوم بتسليمها للبكر. ولذلك كنت أنتظر إنصافاً منكم .
كما روى لي كيف اعتقل حسين سلطان ومهدي عبدالكريم وعبد الأمير سعيد وعبد الوهاب طاهر وعبد الأمير عباس (أبو شلال) وسلام نجل حسين سلطان، وذلك في أواخر العام 1968 وآخرين بعد خروجهم من اجتماع في مدينة الثورة ، وقام هو بإطلاق سراحهم عبر الرئيس البكر. وهي قصة سمعتها مع ملابساتها من الرفيق بهاء الدين نوري ومن حسين سلطان أيضاً.
كما روى لي كيف اعتقله ناظم كزار، حيث اتصل به ليبلغه أن إحدى الشخصيات الكردية التي توسط لها الشيوعيون واسمه نجيب بابان وهو محام وعضو هيئة تحرير التآخي، قد تقرر إخلاء سبيله؛ وكان منذر المطلك قد طلب منه ذلك بناء على تدخل من جانب البكر: وقال كزار للمطلك عبر الهاتف : عليك المجيء لاستلامه، وبعد أن ذهب المطلك إلى مديرية الأمن العامة لاستلامه اعتقله ناظم كزار بالمؤامرة المعروفة يوم 30 حزيران (يونيو) 1973، في حين كان هو يستعد للتوجه إلى المطار لاستقبال عمّه البكر كما يقول، وكان الرئيس البكر حينها قادماً من صوفيا، ولولا تأخر الطائرة وارتباك مجموعة التنفيذ، لكان كزار قد تمكن من تنفيذ خطته القاضية بقتل البكر وصدام حسين الذي كان سيأتي لاستقباله وعدد من القيادات الحزبية. وفي أكثر من مرة كان المطلك يردد حين لقائه بعزيز محمد وعدد من الشيوعيين: كدت أن أعدم بسببكم وبسبب أصدقائكم .
وأعاد على مسمعي لأكثر من مرّة أنه حاول ومن باب الصداقة مع حسين سلطان أن يقدّم له مساعدة بسيطة حوالي 10000 كرون (200 دولار) عندما كان في براغ وحلف بأغلظ الأيمان وبالصداقة على أن يأخذها كدين في ذمته، وبعد نقاش وإلحاح ،ولكي لا يزعل المطلك، تناول أبو علي المبلغ وأخذ منه 100 كرون (دولاران) للتمالح كما قال وأعاد المبلغ إلى مكانه، وهكذا اقتنع المطلك؛ وقد روى هذه الحادثة للرفيق عزيز محمد الذي أشاد بأبو علي ونزاهته وإخلاصه وثقته بنفسه.
سألني أبو سعود في إحدى المرات كيف هو حال صديقك “أبا محمد” وأين حلّ به الدهر؟ والمقصود هو صاحب الحكيم ، قلت له ما زال في الشام، وانتهزتها فرصة فقلت له لا يمكن أن ندوّن سجل الشيوعية في كردستان ونشاطها وحركيتها دون أن نتناول مسيرة جمال الحيدري، بل وآل الحيدري: صالح وممتاز وجمشيد وسيرة بهاء الدين نوري وعزيز محمد، وإذا ذكرت حركة الأنصار فلا يمكن إلّا أن تتناول سيرة “ملازم خضر” الفريق نعمان سهيل التميمي، أما عن مفكري الحزب فلا تستطيع إلّا أن تذكر عامر عبدالله، ويرتبط اسم الحركة النسوية بالدكتورة نزيهة الدليمي والشباب والطلاب باسم نوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ وآخرين.
أما في النجف، والفرات الأوسط عموماً، فلا بدّ أن تأتي على سيرة صاحب الحكيم وحسين سلطان، فقد أسسا ومعهما عدنان عباس وآخرون تنظيمات حزبية في المدينة والريف وترك هؤلاء أثراً طيباً لا يمكن أن يُنسى. قلت ذلك من باب النقد المملّح لما تعرّضوا له من تنكيل ومحاولات إساءة وتشويه من جانب ثلة من إدارة الحزب اندفعت في التحضير للمؤتمر الرابع وما بعده.
وذكرتُ معلومة سمعها الرفيق عزيز محمد لأول مرّة وهي أن الرفيق جمال الحيدري كان قد زار النجف في أواسط الخمسينات، ولأن النجفيين يعتزون بالإمام علي، ويعتبرون مرقده امتيازاً لهم، فإنهم يرغبون أن يُطلعوا من يزور النجف على المرقد لما له من رمزية، وقد نُظمت زيارة خاصة (سرّية) للحيدري بعد أن ارتدى “الكشيدة” للتنكر (الطربوش الملفوف من وسطه الأسفل بالقماشة الخضراء وهي غالباً ما يعتمره السادة في حضرة الإمام علي وبيت الحكيم منهم) حيث دخل الحضرة الحيدرية وطاف فيها وكان بحماية خاصة وعن بُعد، وهو ما ذكره الرفيق صاحب الحكيم لكاتب السطور الذي أشرف على العملية بمساعدة شقيقه السيد سلمان الحكيم خادم الروضة الحيدرية ، وبالطبع فقد كانت الزيارة برغبة وطلب من الحيدري الذي ظلّ شغوفاً بها، وغالباً ما تحدث مغامرات ومفارقات في ظروف العمل السري، ولكنها من النوع المحبب.
وإذا كان ثمة من يأخذ على حسين سلطان قناعته بالجبهة الوطنية ودفاعه عن التحالف، فهذه مثّلت الرأي السائد في إدارة الحزب حتى لمن لم يصوّت عليها في البداية، كما هو زكي خيري مثلاً، لكنها حين أصبحت واقعاً عاد واندفع في الدفاع عنها، وكان سيف العقوبات مسلطاً على من يعارضها في الداخل والخارج، وكان المسؤولون يحرصون على تدوين فقرة ختامية ” لا توجد آراء مخالفة”، وهناك قصصاً عديدة ومثيرة رواها العديد من الرفاق من باب النقد والنقد الذاتي للأساليب البيروقراطية التي استخدمت إزاء ” حرية التعبير”.
لم يكن أبو علي وحده من ندّد بحركة خان النص واعتبرها جزءًا من التحرك الرجعي حينذاك، فتلك قناعاته ولم يتخلّ عنها أو يدعي عكسها حين تغيّرت الظروف، وهو ما يؤكد بعده عن التأثيرات الطائفية المترسّبة، بل هناك من بالغ بالدعوة ليس لإعدام عدد من المشاركين فيها، فما قيمة 8 أو حتى 80 شخصاً إزاء المحافظة على المنجزات التقدمية وحماية الجبهة والتحالف من التآمر الرجعي المشبوه، كما كانت التبريرات والمزايدات التي كان هناك من يتبارى بها بمبالغة ورطانة مستفزّة ، وشدّدت جريدة الحزب المركزية “طريق الشعب” حينها دعوتها للمزيد من الحزم الثوري ضد القوى الرجعية المتآمرة، والغريب في ذلك أنه بعد انقضاء التحالف أخذ البعض يتملّق للقوى الدينية بعد الاحتلال، التي قيل أنها وراء حركة خان النص الرجعية المشبوهة كما كان يقول قبل ذلك.
والأمر ينطبق على حملنا السلاح ضد الحركة الكردية في العام 1974 وتنديدنا بقيادتها ذات التوجه العشائري وارتباطاتها المشبوهة كما كانت الماكينة الحزبية تردّد تقرباً من قيادة حزب البعث، ثم حين دارت الدوائر أخذنا نمجدها ونمجد قياداتها على نحو مطلوب وغير مطلوب، متناسين ما حصل في مذبحة بشتاشان العام 1983 وقبلها ما حصل بإعدام 12 رفيقاً كانوا عائدين من الدراسة في الخارج، ولم يخفِ حسين سلطان وجهات نظره بخصوص ما حصل، وكان صريحاً وواضحاً وواثقاً من نفسه حين يقول: لقد أضعنا الفرصة تلو الفرصة بانتظار فرصة قد لا تأتي: بانتظار غودو.
كان حسين سلطان واقعياً في السياسة دون تنظير وهو صاحب رأي ببساطة شديدة ، وما كان في قلبه يظهر على لسانه، فما يقتنع به يقوله بإخلاص دون أي ميل للتزلف أو المحاباة أو الممالئة . لم ينتظر أين يكون مركز الثقل ليؤيده، وهو الأمر الذي سار عليه الغلاة والمتلونين حسب تعبير عامر عبدالله ، الذين كانوا الأكثر تطرفاً في تأييد الجبهة الوطنية والدفاع عن البعث ثم انتقلوا إلى الضفة الأخرى، ولم يتورعوا في التشهير وإلصاق التهم بخصومهم بطريقة رخيصة أحياناً، من خلال الإساءة والأكاذيب.
لقد عاد حسين سلطان كما عاد آخرون؛ لم يزعم أنه ذهب للمواجهة، قال ببساطة: أريد أموت يمّ أهلي، وهو ما أجبت به الرفيق أبو سعود، الذي كان يطري عليه، وإن كان قد استمع إلى مطالعتي، لكن الأمر قد قضي، وكان قد مضى على رحيل حسين سلطان نحو 15 عاماً، وآخر ما سمعته من كلام في ذلك اللقاء مع عزيز محمد وكرّره أكثر من مرّة :لقد خسرناه.
نعم لقد خسرنا حسين سلطان ، وأكتب ذلك للاستعبار والاستبصار، وليس لاستعادة التاريخ، بل للإفادة من دروسه، فذكّر إن نفعت الذكرى، (سورة الأعلى ، الآية 9).
يتبع