22 ديسمبر، 2024 11:11 م

عزيز محمد شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار

عزيز محمد شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار

“ليت لي رقبة كرقبة البعير كي أزن الكلام قبل النطق به”
الإمام علي
تمهيد
في روايته ” الضحك والنسيان” يتناول الروائي التشيكي ميلان كونديرا بسردية ممتعة وشائقة: الحلم والتأمل في إطار هارموني تجتمع فيه الأكاذيب أحياناً إلى جانب الحقيقة، بل تتماهى في بعض الأحيان، ولا أريد هنا أن أستعجل القراءة بالمديح وإبراز المحاسن، مثلما لا أرغب أن أسجّل سبقاً في النقد السلبي وإظهار المساوئ، فكلا الحالين يؤديان إلى إصدار أحكام قد تكون خاطئة، فضلاً عن كونها إغراضية، مثلما تثير الحساسية الشديدة، سواءً بالإيجاب أو بالسلب، لكنني أحاول أن أقارب الحقيقة كي لا تضيع أو تشوّه أو تحرّف وهدفي هو عدم إهمال التاريخ أو عزله عن الواقع الحاضر، وهذا سيؤدي إلى عدم الاستفادة من دروسه وعبره، لاسيّما في لحظة نحن أحوج ما نكون فيها إلى “التدوين”.
وأدركُ أن إشكاليات التوظيف في الحالين ستكون موجودة، ولهذا سأحاول قدر الإمكان البحث في المعاني والدلالات: فبعد أكثر من 70 عاماً على نضال عزيز محمد، لم يتعرّف عليه كثيرون ولنقل بما فيه الكفاية،بمن فيهم من في الحزب الذي أدار دفته لنحو 3 عقود، أو ولاسيّما في ظروف العمل السرّي، ولم يقرأوا ما يقوله عن نفسه قراءة موضوعية منصفة على نحو نقدي خلال مسيرته الحافلة، مثلما لم تظهر دراسات بحثية عنه بمستوى الموقع الذي شغله.
ولا أزعم أنني عرفت عزيز محمد حق المعرفة أو حتى أعرفه بصورة جيّدة، فقد عرفته كغيري من الشيوعيين، مع اختلاف أنني متابع وباحث أحاول أن أجعل المعرفة الشخصية تصبّ في إطار مشروعي الكتابي والفكري، وكنتُ قد سألته قبل عقدين ونيّف من الزمان لماذا لا تكتب مذكّراتك يا رفيق؟ وكان في كل مرّة يعتذر بعذر ظلّ يتمسّك به وهو ما سأورده في فقرة أخرى.
وحتى الآن فإن ما كُتب عنه لا يعطيه حقه، فالتقييم الإيجابي كان يقترب إلى كلمات المدح والتمجيد، أما التقييم السلبي، فإنه يتّجه أحياناً إلى كلمات القدح والذم، وكلاهما يجانب الموضوعية، خصوصاً وبعضها يتيه في الصراعات، فلم يتمّ الكشف عن جوهر شخصيته ما يفكّر به الرجل خارج الإطار العام للحزب، وكيف يتعامل كإنسان؟ وماذا يحب؟ وماذا يكره؟ وكيف قضى طفولته، وكيف تكوّنت شخصيته؟ وما هي المؤثرات الاجتماعية والنفسية عليه؟ وما هي روافده الروحية؟ وبمن تأثّر؟ وكيف ينظر إلى الماضي؟ وكيف يقيّم نفسه ومسيرته؟ وأين يقف من الأخطاء؟ وكيف يقيّم أخطاءه؟ وما الفرق بين الأخطاء والخطايا؟ وحسب أفلاطون ” يجب أن تذهب إلى الحقيقة بكل روحك”.
ولم نطّلع على الجوانب الإنسانية والشخصية والحياتية لعزيز محمد لدرجة أن بعض الغموض والإبهام، بل وحتى الالتباس ظلّ يغلّف شخصية الرجل الشديد التواضع، وقد يكون الأمر ناجماً عن عدم رغبته في الحديث عن نفسه أو البوح بما هو خاص أو خشيته من التصريح لاعتبارات اجتماعية، حيث كان غالباً ما يميل إلى التلميح والعموميات، أو حتى دون شعور بأهمية تقديم تجربته للآخرين، وقد يشعر أن في ذلك شيء من اللّاجدوى أو اللّافائدة، لست أدري؟ ولكن لماذا أحجم عن كتابة تجربته وتدوين مذكراته أو بعض محطّاتها الأساسية، وهناك من تطوّع له بإعدادها بالشكل المناسب؟ تلك أسئلة بحاجة إلى المزيد من البحث والتأمل.
ولهذا يبقى ما كُتب عنه أحادياً أو حزبويًا وبعضه إثبات حضور وإظهار وجود أو صحيفة أعمال كما يسمّيها الرفيق بهاء الدين نوري، كما إنه جاء عاماً فكأنه لم يقل شيئاً وكان شديد الحذر، حتى وإن حاول البعض ” تقويله” في ظرف نفسي وصحي ليس مناسباً، بما يلغي مهمة النقد، خصوصاً حين يتم تضخيم الإيجابيات وكيل المدائح وتدوين ما هو صحيح، أو على العكس إبراز السلبيات والنواقص وإظهار ما هو خطأ.ووفقاً لابن عربي “الطريق إلى الحقيقة تتعدد بتعدّد السالكين” والحقيقة نادراً ما تكون خالصة وليست بسيطة قطعاً كما يقول أوسكار وايلد.
المعرفة الشيوعية
أعتقد أننا بحاجة لأن نؤسس معرفة جديدة من خلال تناول سيرة ومواقف أحد أكثر أمناء الحزب تعتّقاً في موقعه ومعمّراً في حياته (1924- 2017)، ولا تكتمل تلك المعرفة دون النقد ولا قيمة لتجربة دون نقدها، فالنقد هو الشرط الأساسي لتأسيس المعرفة ونموها وتطوّرها، سواء بقراءة التاريخ أو بدراسة الحاضر، بما فيها أزمة العمل العام واستشراف المستقبل.
ولعلّ أزمة العمل السياسي والحزبي هي ظاهرة دولية اليوم، وتبرز بشكل أكبر في ظروف البلدان النامية، ومنها البلدان العربية، والعراق بشكل خاص، ولاسيّما بعد الاحتلال، ولذلك يقتضي منّا وضعها على طاولة البحث استناداً إلى مناهج النقد المعرفي والتحليل السياسي- الاجتماعي والنفسي، والمقصود بذلك نقد اليقينيات والقدسيات والفرضيات والمنطلقات، فقد فتكت المسلّمات بالحركة الشيوعية بشكل خاص والحركات القومية والإسلامية بشكل عام حين هيمنت النزعة الدوغماتية إلى أقصى الحدود، وكان من نتائجها على المستوى العملي الانتهازية والصراع على المواقع بصورة مشروعة ولا مشروعة، إضافة إلى الشعبوية على المستوى السياسي، ناهيك عمّا صاحبها من عنف وقمع حتى داخل الأحزاب السرّية، وقاد ذلك في ظل المركزية البيروقراطية إلى الانشقاقات والإنشطارات والانقسامات، وما أسفر عنها من تراشق واتهام وارتكابات واختراقات، استفاد منها أعداء تلك الحركات، لاسيّما في ظلّ ضعف الجانب الفكري والثقافي لإدارة الحزب وانشغالها في أغلب الأحيان بتسيير دفة الحزب في أعمال مسلكية وروتينية.
نقد السياسة
لقد ركّزنا جلّ عملنا لنقد السلطة، خصوصاً حين تمارس الحكم نخبة متحكّمة ومستبدّة، وأشحنا النظر عن نقد سياسات الأحزاب والقوى السياسية المعارضة أو الموالية أحياناً، فلا فرق في ذلك، وهدف النقد هو الرغبة في إرادة التصحيح والتصويب وتعديل المسار والمراجعة للبناء على ما هو إيجابي والتخلّص مما هو سلبي، ناهيك عن التناغم مع فقه الواقع الأساس في التقييم.
لقد ظلّ التوجّه السائد في الحياة الحزبية بنزعاته المختلفة أقرب إلى تمسّك إدماني أعمى، باعتبار ما هو قائم من سياسات وتعليمات “واجتهادات” يمثّل مستودع الحقيقة والمرجع المتعالي الذي يتم فيه تعديل الميزان، وفي إطار منطوقه وفي سياق حججه تنجلي الحقيقة، ومثل هذا الافتراض كان يمثّل جوهر التوجّهات ذات النزعة الدينية – الإلهية، لكنه لم يبقَ حكراً عليها، بل امتدّ إلى السياسة وإلى الإدارات الحزبية في السلطة وخارجها، وهكذا أُضيف الفكر والثقافة والسياسة إلى الدين، في النظرية والممارسة العملية، الأمر الذي قاد بالتدرّج إلى انحطاط السياسة وتخلّفها، لاسيّما بالانفصال عن الواقع، وهذا الأخير بطبيعته متغير وليس هناك من يقين أو ثبات فيه.
وهل تكفي بضعة نصوص تصدر عن هذا “القائد” أو تلك “الإدارة الحزبية” أو ذلك “المسؤول” لتصبح مصدر الحقيقة ومرجعية العمل السياسي أم أن الواقع الذي يتحرّك فيه الحزب خارج دائرة العقائدية هو الذي ينبغي أن نبني أحكامنا عليه وفي ضوئه؟ فحتى الفكر هو انعكاس للواقع، وليس العكس، لكن تخلّف الوعي ومحاولة بعض الإدارات الحزبية أن تضخ مثل تلك المفاهيم ذات الطبيعة القدسية بنصوصها أو تعاليمها هي التي دفعت بالجموع الحزبية للانصياع لها، تحت عناوين “وحدة الإرادة والعمل”.

يتبع