تواردت الاخبار بعد ظهر يوم الاربعاء 31 / 5 / 2017 من مدينة اربيل حول وفاة عزيز محمد السكرتير الاسبق للحزب الشيوعي العراقي، للفترة 1964 ــ 1993، عن عمر يناهز 93 عاما، وكعادة العراقيين بدأ تداول وانتقال الخبر بينهم عبر طرق التواصل المختلفة مع هالة من المديح والاطراء للراحل جعلت منه اقرب ما يكون الى الالهة والقديسين والانبياء، من خلال ذاكرة عراقية معطوبة ومشوهة بقصد او دون قصد، وبالتالي انهال علينا الطبالين والمزمرين والمداحين والمتملقين بعشرات التقارير والمقالات عن التاريخ النضالي والانجازات الوطنية والحزبية الفذة للراحل, واكمالا للصورة ادرج هنا بعض المحطات من حياته، وما خفي كان اعظم، ليطلع الجيل الصاعد من الشيوعيين واليساريين وغيرهم على الحقيقة وفقط الحقيقة، والتي يتجاهلها البعض لغرض في نفس يعقوب ولتحريف الوقائع تماشيا مع المصالح الشخصية وسوء النفس البشرية وازدواجية الشخصية العراقية .
ح5
عزيز وحركة الانصار
على اثر تردي علاقة الحزب الشيوعي مع النظام الحاكم وحزب البعث وهمجية الحملة التي شنها النظام على تنظيمات الحزب اضطر قسم من الشيوعيين في اواخر 1978، ولا سيما من منظمات اقليم كردستان والموصل وكركوك، حيث الهجمة كانت اشد واكثر عنفوانا، للجوء الى الجبال لحماية انفسهم، ولا سيما كان هنالك بوادر نواتاة لتشكيلات معارضة لنظام الحكم قد تواجدت في جبال كردستان من الاحزاب الكردية التقليدية واحزاب كردية اخرى منشقة منها او تشكلت حديثا في خارج الحدود وبدأت بالانتقال الى كردستان العراق، وهذا اللجوء للشيوعيين العراقيين كان بعضه باجتهاد شخصي والاخر بتوجيهات واجتهادات شخصية من بعض القادة، للدفع نحو تشكيل تجمعات او مفارز تحمل السلاح ضد نظام الحكم، وبدون اي قرارات او توجيهات حزبية مركزية، ومع الايام اخذت تلك التجمعات بالتوسع والتزايد والتوزع في اكثر من موقع وبظرف معيشية قاسية وبقطع قليلة جدا من السلاح، وبمساعدة من احزاب وتجمعات اخرى متواجدة في المنطقة وتقليدا لها، لتشكل اللبنات الاساسية لما يسمى بحركة الانصار الشيوعيين في كردستان العراق. لم تحظى تلك التجمعات بقرار حزبي بالكفاح المسلح ضد نظام البعث الا بعد حين، وبعد ان اصبحت واقع ملموس، بتردد واضح وصراع خفي ومعلن احيانا، بين شعار انهاء الدكتاتورية او اسقاط نظام الحكم، مع محاولات لم تتوقف للصلح مع النظام واعادة المياه الى مجاريها بين الطرفين، واستمرت تلك الحركة لغاية نهاية الحرب العراقية ــ الايرانية 1988 حيث تفرغ النظام لخصومه الداخليين موجها ضربة موجعة وقاسية وقذرة استخدم فيها السلاح الكيمياوي، لكل حملة السلاح في كردستان بسلسلة عمليات اطلق عليها اسم الانفال، لينهي بذلك اي تواجد مسلح في كردستان العراق خارج نطاق السلطة المركزية، ولتنتهي فعليا حركة الانصار الشيوعيين العراقيين في كردستان العراق بعد 10 سنوات من نشوئها. رغم انها عادت الى كردستان بعد حرب الخليج الثانية والاوضاع الجديدة بالعراق المحاصر. كتب الكثير من الدراسات والتحليلات والمذكرات حول تلك الحركة من المؤيدين لها والمناهضين ومن داخل التنظيم الحزبي وخارجه ومن الانصار انفسهم وغيرهم. وبالتالي ليس من السهل تقييم تلك التجربة، لاختلاف وجهات النظر بين قادة الحزب وكذلك الانصار، ولا سيما بعد جزع كل القوات المقاتلة ضد النظام في كردستان وغيرها من اسقاط النظام ووصولها الى حالة الاحباط التام، والتي دفعت بالجميع بالعمل ضمن اجندة التدخل الخارجي، والذي ولد الاحتلال الامريكي للعراق 2003 وحصل ما حصل في العراق من تشرذم طائفي وعرقي واقتتال داخلي وخرق من قبل منظمات ارهابية وضحايا بريئة لا تعد ولا تحصى وحتى يومنا هذا .
عموما فان حركة الانصار كانت بالنسبة الى عزيز محمد ورهطه محطة مهمة جدا للحفاظ على المراكز الحزبية، وتمرير وتفريغ الكثير من المعوقات والمشاكل في العمل الحزبي .
بعد الضربة الموجعة لنظام البعث للحزب الشيوعي العراقي في 78 ــ 79 تحول الى حزب مهاجر قيادة وقاعدة وما تبقى من تنظيمات ان وجدت فانها مخترقة او محطمة تماما وتعمل تحت كابوس الاعتقال والتصفية لشدة ورعب هجمة البعث، فوجد عزيز محمد ورهطه في حركة الانصار فرصة ذهبية للادعاء بان الحزب يعمل داخل الوطن بما فيها اجتماعات قيادته وانها محطة لارسال الرفاق الى الداخل .
واجه عزيز محمد ورهطه انتقادات واسعة ولاذعة من رفاق الحزب ولا سيما قواعده الدنيا لما حصل للحزب ونتائج العمل الجبهوي مع البعث، فعمل عزيز على جعل حركة الانصار محطة لتشتيت الرفاق واشغالهم بأقدس مهمة نضالية ضد النظام بجعل التوجه الى كردستان واجب اجباري او شبه اجباري، وبنفس الوقت التخلص من غير الراغبين في العمل الانصاري من خلال تجميدهم او طردهم من الحزب والتنكيل والتشهير بهم ووصفهم بمختلف النعوت. وحالات الطرد والتجميد تلك جاءت متوافقة مع رغبة عزيز في تقليص اعداد رفاق الحزب التي تضخمت وتضاعفت خلال فترة العمل الجبهوي ولكنها في الخارج تحولت الى عبئ ثقيل على القيادة من حيث السكن والعمل والوثائق الشخصية من جوازات وغيرها والتخصيصات المالية للكوادر والحالات الطارئة وخصوصا بعد ان تحول الغالبية الى رفاق متفرغين للعمل الحزبي. وادت عملية عسكرة الحزب تلك شبه الاجبارية الى الكثير من المشاكل في المنظمات الحزبية، وادت الى بعثرتها وتشرذمها، ولعل اصرخ مثال هو ما حصل في منظمة اليمن الديمقراطية، وكذلك تحولت كردستان الى منفى أو محطة للاقامة الاجبارية وحتى مقبرة للموت البطيء للرفاق المخالفين او غير المرغوب بهم، ولم تتم الموافقة على خروج البعض من كردستان رغم ما قدموا من طلبات وبمبررات معقولة ولكن دون جدوى، وعلى سبيل المثال لا الحصر ما حصل للفقيد مهدي عبد الكريم ابو سنه ( أبو كسرى ــ ابو عباس ) عضو لجنة مركزية ومن عائلة شيوعية معروفة من مدينة كربلاء لها تاريخها النضالي المعروف، وشقيقه كاظم عبد الكريم ضابط شيوعي من شهداء انقلاب شباط الاسود 1963 ، وابن شقيقه جودت كاظم كذلك استشهد بعد انهيار الجبهة مع البعث. حضر ابو كسرى الى كردستان للمشاركة في المؤتمر الرابع ( سيء الصيت ) 1985 وهو يعاني من مشاكل صحية في القلب، وبعد انتهاء اعمال المؤتمر، ترك ابو كسرى في نفس المكان وبدون اي مهام او واجبات محددة وبحجج واهية منها صعوبة اخراجه من كردستان في الوضع الراهن، وبذلك توفى الفقيد ابو كسرى ودفن في نفس المكان على اثر ازمة صحية مفاجئة لن تمهله طويلا. في حين عزيز محمد ورهطه كان بامكانهم الدخول والخروج من كردستان وبطرق امنة ومضمونة وباسرع الاوقات. وكاد ان يحصل نفس الشيء للفقيد ثابت حبيب العاني ( ابو حسان ) حيث عزل وهمش وابعد عن القيادة، ودون اخباره عن السبب، بالاضافة الى حملة تشهير وتنكيل واسعة وشامله ومفتعلة باتهامه بالعمالة والتعاون مع النظام البعثي منذ اعتقاله وتعذيبه واطلاق سراحه في 1970، وجاء هذا الاتهام على اثر وشاية من قبل احد قادة البعث وصلت للحزب الشيوعي، وتم تفجيرها في الوقت والمكان المناسب، ورغم تراجع ناقلها بعد حين، ولكن دون جدوى حيث وجد عزيز ورهطه في تلك الوشاية فرصة للتخلص من رفيق الدرب غير المطابق لهم تماما في المواقف والآراء ولديه كثير من الملاحظات والتحفظات على مسيرة الحزب، ووصلت الامور، على اثر التحريض المكثف ضد ابو حسان، ان يطالب البعض بالتصفية الجسدية لابو حسان، في حين هنالك العديد من الوكلاء والمندسين الفعليين من المكشوفين او شبه ذلك، ومنهم من يتحرك بحرية بين كردستان والداخل تم التساهل معهم وغض النظر عنهم وحتى تزكيتهم، ليوجهوا ضربات قاتلة ومميتة للحزب ورفاقه راح ضحيتها الكثير خيرة الانصار والمناضلين في كردستان وكذلك في الداخل واشهرهم العملاء ممو وأبو هيمن وغيرهم، وهم لا يزالون احرار وطلقاء دون حساب او رقيب. بسبب مبدئية وخبرة المناضل ابو حسان وعلاقاته الانسانية مع الانصار وشعبيته الحزبية تمكن من تجاوز تلك الازمة المفتعلة بنفس وصبر طويلين، وانتقل الى خارج كردستان، وتراجع عزيز محمد ورهطه عن تلك التهمة الخسيسة على مضض، ولكن دون تقديم اعتذار تحريري للفقيد حتى وفاته في خارج العراق، وقضية ابو حسان معروفة وبالتفصيل في الوسط الحزبي وخارجه .
بالاضافة الى ما ذكر في اعلاه، تخللت مرحلة الانصار الكثير من الاخطاء والسلبيات جعلت منها مرحلة من الفشل والاحباط في تاريخ الحزب، حيث لم يتوقف نزيف الدم، فقد الحزب خلالها بحدود (1000) شهيد منهم من قتل اثناء الاشتباك مع قوات النظام النظامية او الجحوش والقصف المدفعي او ضربات الطائرات والكمائن، وهنالك المنتحر بسبب الاحباط واليأس وصرامة الاوامر الحزبية، ومنهم الغريق في الانهار والجداول او المنجرف مع السيول المرافقة للامطار والثلوج، او بسقوط صخرة من الجبل، ومنهم من مات متجمدا ، ومنهم من قتل بنيران صديقة على حد تعبير البروفيسور كاظم حبيب، والمقصود بهم من قتلوا على يد رفاق السلاح من القوات الاخرى في كردستان، وتسوية المشاكل والحسابات بالسلاح، واشهرها مجزرة بشت آشان المعروفة 1983 والتي راح ضحيتها بحدود ( 80 ) شهيدا من خيرة رفاق وكوادر الحزب والتي لا تخلوا من لمسات النظام بالتعاون والتواطؤ مع الاتحاد الوطني الكردستاني، ومنهم من قتل سهوا على يد رفاقه، ومنهم من اعدم باوامر حزبية لقتله عمدا لرفيق اخر، وهنالك من استدرج للداخل بفعل الخونة والمندسين، وهؤلاء المندسين بعضهم كان معروفا أو شبه مكشوفا ولكن هناك من تساهل معه تغفلا او بقصد وأفلت من العقاب، ومن المندسين المشتبه بهم من جرى معه التحقيق وأدين وتم اعدامه وبعضهم اعدم قبل اكمال التحقيق معه وبعض المندسين رمى أنصارا وقتلهم وهرب، وبالتأكيد هنالك من لم ينكشف ولا يزال ينخر في جسد الحزب، ان بقى شيئا من ذلك الحزب العتيد، حزب فهد وسلام عادل بعد انحدار قيادته نحو المستنقع الأنكلوأمريكي، وهنالك من الانصار من قتل على يد الجندرمة التركية في المناطق الحدودية، ومنهم من اعتقل داخل الاراضي التركية وتم تسليمه للحكومة العراقية، ومنهم من عذب على يد رفاقه بحجج واهية، وبأوامر صارمة من بعض العناصر القيادية، ومات تحت التعذيب كما حصل مع شهيد الغدر الرفاقي، الشهيد منتصر ( مشتاق ) وغيرها الكثير من الحالات الاخرى للموت الرخيص. ومما ساعد في تضخم نزيف الدم الشيوعي في كردستان، هو اسناد القيادة العسكرية للأنصار لاشخاص لا علاقة لهم من بعيد او قريب بالعمل العسكري والخبرة القتالية، وتم اسناد تلك المواقع لهم لمجرد مركزهم الحزبي المتقدم او ارضاءا لهذا او ذاك من الرفاق، وبالتالي جاءت الكثير من القرارات ذات البعد العسكري قاتلة ومميته، دفع ثمنها خيرة الرفاق، ولعل اشهرها قرار اختيار موقع بشت آشان كمقر لقيادة الحزب وحركة الانصار عموما، رغم كل الاصوات الرافضة لهذا الاختيار من اصحاب الخبرة في شؤون كردستان وشعابها، ولكن دون جدوى، ليسبب هذا الاختيار بكارثة بشت آشان. وساهم في هذه الفوضى الصراع والخلاف الخفي والمعلن احيانا بين المسؤول العسكري والحزبي والصراع على المناصب .
كل هذا لا يلغي الاشادة بالروح الوطنية والثورية للمئات من الشباب الانصار نساءا ورجالا وبعمر الورود ، الذين تركوا خلفهم الغالي والنفيس من الاهل والاحبة والدراسة والعمل والحياة المدنية داخل العراق او خارجه، بقضها وقضيضها، ليلتحقوا بالحركة، ليثبتوا ولائهم للهاجس الوطني ولحزبهم المقدام، بنفس صادق وروح ثورية جيفاروية، وليقضوا احلى ايام الشباب والعمر في اكثر مناطق كردستان وعورة وكربا، منهم من اكتشف اللعبة مبكرا وحاول الاصلاح، ولكن دون جدوى ودفع الثمن غاليا، ومنهم من اكتشفها بعد حين، ومنهم لا زال يكابر وباستغفال مقصود احيانا حفاضا على ما جنى من مكاسب وهبات من القيادة ورواتب انصارية، تلك الرواتب التي فقدت حتى قيمتها المعنوية بعد ان منحت لكل من هب ودب، وحتى لمن لم يرى كردستان في حياته ولأجل الكسب الحزبي الرخيص، في حين حرمت على انصار حقيقيين اخرين لحسابات حزبية وسياسية ضيقة ودنيئة، ورفضها البعض بإباء وشموخ .
وقبل الختام لا بد من التذكير، ان بندقية النصير والمقاتل الشيوعي العراقي كانت يوما ما وفي السبعينات وفي عهد السكرتير المغوار عزيز محمد، قد وجهت نحو ( البيش مركة ) الكردي في الجبل او ما كان يسمى بالتمرد الكردي العميل من قبل حكومة البعث، وبالسلاح الحكومي وبأوامر حزبية شيوعية صارمة بالدفاع عن الوطن، ونصرة للجيش العراقي وحكومة البعث والجبهة الوطنية والقومية التقدمية، وبعد اتفاقية الجزائر 1975 وانهيار ما يسمى بالثورة الكردية، أعيدت تلك الاسلحة الى حكومة البعث، وبعد اقل من ( 5 ) سنوات انتقلت البندقية الشيوعية من كتف الى كتف اخر، وغيرت اتجاهها بزاوية (180) درجة، لتقاتل نفس الجيش الذي ساندته قبل سنوات قليلة، وليقتل الجندي العراقي المكلف اخاه الذي اصبح نصيرا شيوعيا وبالعكس .
لعل استذكار بعض الاشعار الغنائية والنصوص القريبة من حياة الانصار، التي كتبها وغناها النصير ابو الصوف ( صافي حسن العتابي )، ورددها معه بقية الانصار في السر والعلن، تعطي انطباعا عن مدى ما حصل من مهازل خلال حركة الانصار :
يا (معم)* يابو البهذله انته أساس المهزله
بس كَلي شنهو الحققت بسك تطمطم عارك
بولي تدافع ابشرف وإشقولكه جابت الهدف
كاسكان تبقى للصبح محد يعين أنصارها