19 ديسمبر، 2024 6:46 ص

كانت لنا جارة من اسكتلندا ، طاعنة في السن ، جمة الأدب ، كثيرة التبسم و التحية ، دؤوبة الحركة رغم كبر سنها ، و كان يسكن معها ابنها الأكبر “روبرت” …  يرعاها.في احد الأيام ، طرق “روب” بابنا ليخبرنا بأنه أمه قد فارقت الحياة بالأمس. حزنت للخبر ، و تعجبت أني لم أسمع صراخ و نواح و عويل يخيف الجيران و يرعب الأطفال ، رغم أن حائطهم ملاصقاً لحائطنا ، لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا.احترت كيف أعزيه ، هل أبسمل ، أم أحوقل ، أم أسترجع؟ لا يفهم جاري معنى هذا الكلام .. هل أقول له “عظم الله أجركم؟” May God multiply your rewards” ؟ سيسألني ” أي أجر؟” ،.. هل أقول له “البقية بحياتك ؟”  “The remaining  is in your life”  سيتعجب عن أي بقية أتحدث ؟ لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا.  قلت له ما يقوله غيري : أنا آسف ، فتقبلها الرجل. سألته عن مكان الفاتحة ، أقصد العزاء ؟ قال لي في اليوم الفلاني و في المكان الفلاني جوار المقبرة الفلانية.في يوم العزاء ، تهيأنا لأداء الواجب .. فاتشحت أنا و زوجتي بالسواد ، و توجهنا نبحث عن المكان. عندما اقتربنا من المكان أرادت زوجتي التأكد عن طريق البحث في الخارطة ، قلت لها : لا داعي ، أكيد ستدلنا مكبرات الصوت و هي ترتل آيات من الإنجيل الحكيم بصوت المقريء عبد البولص الفاتيكاني. لكن المكان كان هادئاً إلا من صوت العصافير. فتعجبت أن لا أجد صياحاً لمكبرات الصوت و هي تجوب عنان السماء و تقض مضاجع  الناس ! لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا. قلت لأن فاتتنا المكبرات فلن تفوتنا خيمة العزاء أو سرادقه ، فبقينا نطوف في الشوارع علّنا نجد الخيمة أو نشم رائحة القهوة المميزة أو الهبيط المغلي، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل. فتعجبت كيف سوف يجمعون كل المعزين من الجيران و الأقارب  و فيهم من يأت من باقي المحافظات ، أم كيف سيعلم أهل المنطقة بوجود العزاء إذا لم تكن هناك خيمة تأوي الجميع و تسد الطريق؟ لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا.لا مكبرات صوت و لا خيمة عزاء ، فلنبحث عن المقبرة إذاً!  فصرنا ندور في شوارع المنطقة نبحث عن مقبرة بل جدوى ، فلا نجد غير متنزه وحيد ، لكن المكان هو نفس المكان الموصوف فأين المقبرة؟ فلما توقفنا للسؤال قيل لنا : هذه المقبرة ، و اشاروا إلى المتنزه الذي كنا ندور حوله ! فتعجبت ! هل هذه مقبرة؟ لأننا كنا نبحث عن مقبرة قبورها شاهقة ، و سراديبها غائرة ، لا زرع فيها و لا شجر ، و لا ورود فيها و لا ثمر ، يحيط بها التراب و الغبَر ، و تملؤها الأوساخ و فضلات البشر، منظرها يخلع القلوب ، و يملؤها وحشة لا تبقي طمأنينة و لا تذر!  لكني تذكرت أن هذه ليست مقابرنا.دخلنا المتنزه ، عفواً أقصد المقبرة ، و بدأنا البحث عن قاعة العزاء فيها ، سألتني زوجتي : كيف سنعرف مكان العزاء؟ قلت لها بسيطة: أكيد ستأتي نساء متوزرات متأبطات ، يملأنها صراخاً  و عويلاً و ولولة  فما علينا إلا اتباعهن. طبعاً لم يحدث من هذا شيء ، فما وجدنا غير قاعة بسيطة يسودها الهدوء و تعلوها السكينة. فتعجبت ! و قلت في نفسي : أين النواح؟ أين العويل؟ أين الصراخ؟ أين البكاء ؟ أين النحيب؟ ما هذا؟ موسيقى كلاسيكية هادئة؟ أهذا عزاء المرحومة؟ فتذكرت أن هذا ليس عزانا.دخلنا قاعة العرس ، عفوا ًأقصد العزاء ، و هممت أن أقول “رحم الله والديه من قرأ سورة الفاتحة” ، لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا ، و يا خجلتاه ، كنا الوحيدين الذين يلبسون السواد ، فقد جمعت القاعة أبناء المرحومة بأرقى ثيابهم ، مع أطفالهم ، و كان الهدوء يعم الجميع ، حيث كانت المرحومة مسجاة في صندوق أنيق و هي تلبس أزهى ثيابها ، تحيط بها أكاليل الورود ، و في جنبها منصة يتقدم فيها تباعاً أقرباؤها كلُ يحكي قبساً من أخبارها و ذكرياتها معهم ، و هم يعرضون صورها في مختلف مراحل حياتها ، و ساد الجميع شعور بالراحة و الهدوء و هم يستمعون لسجل حياتها على أنغام الموسيقى الهائدة.تعجبت ! و قلت في نفسي : أين السوالف و الأحاديث الودية الصاخبة على خلفية تلاوة القرآن لعبد الباسط ؟ أين السكائر و القهوة و ثواب حلاوة التمر ؟ ومتى  يقدمون الغداء الدسم و العشاء اللذيذ و الفطور الكونتننتال للأخوة المعزين مجاناً و لثلاثة أيام متتاليات ثواباً لروح المرحومة؟ ثم ما هذا التخلف و برودة الأعصاب؟ أين قبلات المعزين و بكائهم المصطنع و نحيبهم يـ “يا يابه يا بويه شسويتي بينا أم روب” ؟  لكني تذكرت أن هذا ليس عزانا.انفض العزاء بعد أقل من ساعتين ، حيث ألقى الجميع عليها النظرة الأخيرة و هي بأبهى صورة ، و انسحب الصندوق الصقيل بهدوء ميكانيكي إلى قبو تحت قاعة العزاء حيث ستوارى مثواها الأخير ، و انصرف الجميع لبيوتهم.  فسادني حزن عميق ، فلم يبق أحد ليلقن “أم روب ” المحفوظة إياها التي ستواجه بها سطوة الثنائي المرعب “منكر و نكير” ، أو يذكرها بأن تبقى على العهد الذي تركتهم عليه من شهادة أن لا إله إلا الله … و شهادة أن محمداً أو جيزس رسول الله … و شهادة أن علياً و أولادة المعصومين حجج الله … الخ من القائمة الطويلة إياها!  أو يلقي في صندوقها  صليباً من التراب المضغوط أو مسبحة تستأنس بها وقت الفراغ أو سعفة تكنس بها بهو القبر!لم يحصل شيء من هذا ، و لم يتبعها أحد من المعزين ، فخاب ظني ، لأني  كنت قد هيأت كتفي لملحمة حمل التابوت – أقصد الصندوق –  على الأكتاف و الطوف به خارج القاعة مع صراخ “يا أمنا العذراء” ، و خفضه و رفعه ثلاث مرات (ربما للتأكد من وفاة المرحومة بعد هذه الخضات الثلاث) ، و تصورت أننا سنضع التابوت ، عفواً أقصد الصندوق الصقيل ، فوق إحدى السيارات ونأخذها في رحلة خارج المدينة ، إلى المكان الذي تُضرب إليه آباط الإبل ، كي تزور مرقد أحد القديسين المعصومين الزيارة الأخيرة ، كي تستبريء الذمة و تطلب الرحمة و تجدد العهد ! فازداد غمي لما فات العزيزة المرحومة “أم روب” من الخير الكثير الكثير !لكني تذكرت …. أن هذا ليس عزانا ! 

أحدث المقالات

أحدث المقالات