24 ديسمبر، 2024 3:49 ص

يا له من عرض ممتع، شاشة كبيرة تشغل عرض حائط في الاستديو، مذيعة تحشر نفسها بجينز ضيق وترفرف خصلات شعرها مع حركاتها الرشيقة وهي تؤشر بـ(عصا) رقيقة لتحدد المواقع الجغرافية على العارضة او شاشة العرض. عرض يشبه عرض الأنواء الجوية الذي نشاهده في قنوات عربية وعالمية مثل (بي بي سي) و(سي ان ان) وغيرها. لكن الفرق هو ان العرض الذي تقدمه هذه المذيعة الـ(المودرن) من على شاشة احدى القنوات الفضائية العراقية هو عرض لحصيلة القتلى (كما صار اسمهم) في كل محافظة من محافظات العراق. حتى الآن، قد يبدو الأمر طبيعياً، فقد انتشر القتلى في كل محافظات العراق خلال الشهر الماضي، وربما يصبح من الضروري شرح توزيعهم الجغرافي على خارطة، ليفهم المشاهد الاعداد قبل ان يخطأ ويتهم احدى المحافظات بالزيادة اوالنقصان، وايضا لمساعدة الارهابيين على معرفة الاعداد الحقيقة لحصادهم (إن لم يكن هنالك مبالغة من بعض القنوات، وتعتيم من قنوات أخرى). لكن ماشاهدته أمامي هو ليس خارطة جغرافية، بل هو مجسمات وصور متحركة على طريقة الالعاب الالكترونية (البلي ستشن) و(الاكس بوكس)، حيث يتم تصوير القتلى والارهابيين او المواجهات التي حصلت بين الطرفين وانفجار السيارات المفخخة بشكل مثير يجعلك تشعر انك امام لعبة (آكشن) مجسمة ولا ينقصك سوى ان تمسك بيدك (الجويستك) لتحريك الشخوص ومقاتلة احد الطرفين، حتى اني التفت وانا أشاهد هذا (الشو) ان يكون ابني قد شاهده، وهو المدمن على العاب (الاكس بوكس) فيطالبني باقتناء فترات الاخبار اليومية لهذه القناة.

لا أريد ان انتقد اسلوب القناة في بث الخبر، فلعلها تبحث عن التفرد في بث الخبر من خلال استخدام التكنلوجيا الحديثة التي سبقتها في استخدامها معظم القنوات الاجنبية والعربية، ولكن ليس مع الموت. فما شاهدته كان يعطي المشاهد فكرة دقيقة عن حصاد العمليات الارهابية لذلك اليوم، لكنه يعكس استخفافا بقدسية الدم. فمن قتلوا صباح ذلك اليوم لم يكونوا جنودا في معركة ـ اذا افترضنا ان الموت هو من حصة الجنود ـ بل هم اطفال ونساء ورجال وشباب ابرياء. وبدا ذلك واضحا في اليوم التالي عندما استعرضت القناة في عرضها لاخباري المشوق عن الموت العراقي ماحصل في سجن تكريت، حتى بدت عملية اقتحام السجن ومقتل الاثني عشر شرطيا مثيرة للضحك وليس فقط للمتعة!

ربما علي أن أشد على يد مخترع هذا (الشو) الاخباري الذي يصدر فكرة القتل باسلوب طريف لكي يقنع العراقيين ان الدم صار (ميّة)، وأن الارهاب لعبة يتسلى بها القابعون خلف سواتر المنطقة الخضراء، وأن (صداري الفتيات والقمصان البيض) في اول يوم دوام غسلت بالدم قبل ان تتسخ في مذبحة المدرسة لا لشيء الا لغرض استمرار هذا (الشو) الممتع للموت. وبهذا تكون هذه القناة قد ساهمت في إراحة اعصاب العراقي من احتقان وجه المذيع وارتجاف شاربه وهو يتكلف مسحة الحزن ليذيع اخبار القتل، لينقذه المخرج بفاصل دعائي يضع خاتمة لحزن لا يدرك حجمه الا اهل القتيل او (الذي كان اسمه شهيد).

في صباح اليوم التالي، لم اذهب للعمل لوعكة صحية، اوقظني اتصال زميل لي يسألني عن سلامتي، فقد حدث انفجار في احدى الساحات التي غالبا ما أمر بها في طريقي الى عملي، شكرت زميلي واخبره بأني ولحسن الصدف للمرة المائة بعد الالف، لم اذهب للعمل، واني سأتابع بث خبر السيارة المفخخة التي انفجرت في هذه الساحة ليلا في عرض شيق للموت العراقي…

[email protected]