19 ديسمبر، 2024 12:23 ص

عرس المدينة عرس المدينة

عرس المدينة عرس المدينة

بمبادرة من ( الأيادي البيضاء )  احدى منظمات المجتمع المدني  تم تنظيم حفل عرس جماعي في مدينة الثورة . يتألف العرس من ( 79 ) زوجا من العرسان وهو نفس عدد قطاعات المدينة بحيث يخرج عروسة وعريس من كل قطاع .  كانت الاستجابة فورية  وشاملة مما دفع اللجنة الى اللجوء  الى  القرعة لأختيار العدد المطلوب  من العرسان  والمغنين والراقصين والموسيقيين والبهلوانيين واصحاب المواهب الغريبة وصالونات التجميل والخياطين والخياطات وغيرها   .
وقد مثل قطاع ( 20 )  العروسة ( وهران  فليح)  وعريسها ( قاسم مناتي ) . والعروسة هي ابنة ( فليح الساعدي )  معلم العربية  المعروف  . كان والدها  قوميا يساريا  و من المتحمسين  للثورة الجزائرية . وقد بلغ حبه للجزائر حدا دعاه  الى طلب اعارة خدماته الى ذلك القطر الشقيق لأعادة اللسان العربي لأبنائه . سافر الى الجزائر مع عائلته  و قضى هناك عشر سنوات  وانجب خلالها ابنتيه ( وهران ) و ( جميلة ) . وبعد عودته من الجزائر اصبح فليح واحدا من رواد  الباص الخشبية . كان يصعد الباص حاملا خمرته بيده ليحدثنا عن ذكرياته في الجزائر . 
طبعت اللجنة  المنظمة مئة الف  اعلان  ووزعت بطاقات الدعوة على  مليون ونصف من سكان المدينة  . اختير التقاطع بين شارع الثورة ( الجوادر ) وشارع (مريدي)  ليكون  مركزا للأحتفال ومكانا للمنصة التي يقف عليها  العرش الجماعي محاطا بالاعلام الوطنية .
عمل فريق  من المتطوعين  تجاوز عددهم ( 600 )  شاب وشابة   ولثلاثة ايام  لتنظيف ساحة الحفل ومقترباته والشوارع المؤدية اليه  وصف الكراسي المؤجرة . اخرج الاهالي كل ما في بيوتهم من كراس وارائك وقدموها للجنة  ليصبح العدد ربع مليون مقعد  .
كان عدد المتطوعين من الفنانين لاحياء العرس قد بلغ رقما يصعب  تقديمه  في حفل  يمتد من السادسة عصرا الى الثانية عشر ليلا . كان التدفق على مقر اللجنة لتسجيل الاسماء جارفا والمكالمات الهاتفية بلا أنقطاع ,  كل يطلب ان يغني او يرقص او يقدم عرضا بهلوانيا . وكان على اللجنة أن تتصرف  فارتأت  تمديد  الحفل من العصر الى الفجر   .  وبذلك يمكن تقديم  أكبر عدد من فناني المدينة  الذين  خرجوا من صمتهم .
استطاعت اللجنة بصعوبة بالغة ان تختزل العدد الى ( 1500 ) مطربا وراقصا  ومغنيا وطبالا وبزاخا ورادحا وبريكيا وبهلوانا من بلاعي مصابيح النيون  ونفاخي النار ومرقصي الضفادع  ومروضي الثعابين  . واولئك الذين يكسرون طبول الفخار على رؤوسهم  ,  والذين يعزفون بأنوفهم ,  او يخرجون أيقاعات من أبطهم  ,  ومغنو معامل النسيج الذي لا يسمح ضجيج  المكائن العتييقة بسماعهم , وصبيان معامل الطابوق الذين يمشون على النار  ,  واولئك الذين ينامون على المسامير  , ومجاميع التحشيش الذين يحولون الكوارث الى أعياد , وبقايا الزنوج نصف العراة .
كان تراث المدينة يخرج مثل عفريت من قمقم ..
خرج (حسين سعيدة ) من قبره  وسجل اسمه  واعدا  ان يعيد قصائد (عريان السيد خلف)  التي لحنها له قبل اربعين عاما . جاء (خصاف العبد )  الذي اصيب بشلل نصفي اقعده  خمسة عشر عاما   ووعد ان يهز النصف الحي من جسده  . استيقظ (عبادي العماري)   و (سلمان المنكوب) . جاء (سيد محمد النوري) بصحبة ابنه (فيصل) . جاءت فرقة (فليفل)  وشدة (ابراهيم الاسود)   واخيه ( بوسي ) . اتصلت حفيدة  (شكرية خليل) ملكة  الغجر  تلفونيا  لتعلن ان جدتها مازالت مغرية ,  لا زال الوشم في نحرها يسيل له اللعاب  وصوتها بعافيته . سوف تحضر  مع بناتها واحفادها و(التفريعة) أي  احتضان الغجرية وقرصها في فخذها  ستكون مجانا   .  خرج (عبد شنين) من فرن  الخبز (الصمون)  الذي دفن فيه ذاكرته لثلاثين عاما يرافقه ابن اخيه (رياض) . عبد شنين هو النسخة المعتمدة في المدينة ل(جميس براون) . جاء (حفيظ دحدوح)  بديلا  مقبولا لعبد الحليم حافظ  لولا انفه  الزائد عن اللزوم  والذي يقبل القسمة على ثلاثة بدون باقي  . بعث (فرج وهاب ) ابن اخيه (مصطفى وهاب)  نيابة عنه .  عاد  (حسين البصري)  و ( مدلل)   و (نسيم عودة ) و ( شامل العماري )  . خرج الراقوص المخنث ( صباح  الزبيري ) من عزلته  . أعاد الشامة المستعارة الى وجنته  وكحله  ونزع الشعر عن سيقانه  . تقدم (عبد فلك)  و (يونس كلو ) و ( محمود العيساوي )  . 
 وجاء عازف الكمان ( فالح  حسن ) يجر وراءه فصيل من العميان يبلغ عددهم 80 عازفا  .واتصل 25 مقلدا لسلمان المنكوب  و 40 مقلدا لعبادي العماري  , 15 مقلد  لحسين البصري و 3 لحسين سعيدة  .  وحضر (حاتم  البز ) ليقدم عرضا لموسيقى الجيش . تقدم الجيل الثالث من  صناع الفرح  وبزاخي العصور الغابرة  . واعداد  لا تحصى من مطربي  خلف السدة  الغير مقيدين  بأي سجل رسمي   .
 حضر  (سعيد بوردا ) ملك ألأناقة في المدينة  من  منفاه في بريطانيا  ليخيط  (79 ) قميصا  للعرسان  .  وتطوع  (50 )  حلاقا وحلاقة لتزيينهم . قدمت وزارة السياحة ليلتين في الميريديان  .
 واستطاعت الأيادي البيضاء  ان تحصل على كميات غير محدودة من الطعام الجاهز  تبرعت به مطاعم المدينة . وقدم اصدقاء المنظمة في  أربيل (عينكاوة )  شحنة من  الخمرة المحلية ( العرق ) بواقع أربعين  ألف زجاجة . وقدمت حكومة اقليم كردستان  كمية من الألعاب النارية ( متبقية  من أعياد  نوروز ) .  وابدى ( 25 ) فنانا عربيا رغبتهم في الحضور الى العرس والغناء  فيه مجانا  لكنهم تلقوا تحذيرات ونصائح  (من جهات  لم تكشف عن نفسها)  بعدم المشاركة .
لم يعد خافيا لأحد ان الحفل المرتقب هو تحد للأرهاب الذي استهدف المدينة منذ سقوط صدام  , ورسالة حادة لأيتامه وللتكفيريين . ان المدينة باقية  ومصممة على الفرح رغم سيل الأعمال الوحشية  .
غير ان اللجنة  المنظمة كانت تحمل رسالة  اخرى لا تقل قوة  عن  الرسالة الموجهة للأرهاب . هنالك عدو داخلي للمدينة يريد مسخها بالكامل . شئ يشبه الارضة ينخر في لبها الابيض النقي  في فترات الاستراحة بين مجزرتين .
فيما عدا الخطر الخارجي الذي يهدد بافشال العرس و المتمثل بهجمات الارهابيين  هنالك  تهديد داخلي  يتمثل ب (التيار الصدري)  الذي عمل منذ سقوط  النظام على بسط سيطرته على المدينة وفرض مزاجه  عليها . المدينة التي اقامها الزعيم عبد الكريم قاسم  ولم يجرؤ  حتى على وضع أسمه عليها  نزع عنها اسمها مرتين  : مرة على يد صدام والثانية على يد الصدريين . عبر الصدريون علنا  عن رفضهم لأقامة العرس .  وزعوا  بيانا من مليون  ونصف نسخة . الصقوه على الجدران  وحرصوا ان يوصلوه الى كل بيت في المدينة .
 كان الخوف من الصدريين له ما يبرره  فهم يستندون الى ذراع عسكري ( جيش المهدي ) ليس معصوما من الانفلات  . وانزعاجهم من الحفل أمر لايمكن تجاهله .  ورغم ان الدولة كانت تقف في صف العرس وتحميه  الا ان القلق بدأ يساور اللجنة . كانت طبيعة الارهاب الخارجي واعماله  لاتسمح  بالنظر الى الصدريين كعدو للمدينة   . المقارنة  بينهما فيها ظلم كثير . الوحشية المفرطة للأرهاب  تجعل من الصدريين حملان وديعة . كان من  الصعب أهمال الصدريين او معاداتهم  . كان لابد من التوجه لهم ومحاولة التفاهم معهم .
ذهب وفد الايادي البيضاء الى مكتب الشهيد الصدر لمقابلة الشيخ (حليم الكناني )  المسؤول الاول  . لم يخف الكناني أستنكاره  و سخريته . أعاد امام الوفد  قراءة فقرات من اعلان العرس . قرأ بصوت مرتفع  أسماء الغجريات والطبالين  والمطربين الذين اعيدت لهم الحياة   ومجاميع الزنوج الذين اوشكت الاجيال الحالية على نسيانهم ( على حد تعبيره )  وذكر أسم صباح (الزبيري)  واشار الى الخمرة (العرق) متسائلا عن الكيفية التي حصلوا من خلالها على  كل هذه  الكمية  من المنكر بعد ان  لعن (كامل الزيدي)  محافظ بغداد  شاربها  وساقيها وصانعها  . كانت اللعنة علنية وكتبت على ألواح كبيرة زرعت في ساحات العاصمة وبذلك تحققت  فريضة الأمر بالمعروف  . ولكي  يحقق النهي عن المنكر فقد قام  الزيدي بغلق  معمل (العرق)  في الكرادة .
((  ماذا تنوون بالضبط  ؟ , هل تريدون ان تعيدوا المدينة الى عهدها الوثني  ؟ . لقد اوشك الناس على نسيان كل هذه الاسماء  والمظاهر  . انكم تهدون كل ما بنيناه  منذ اول سقوط  النظام   ,  لم تبقوا داعرا ولا فاسقا  ولا سفيها الا وأحييتموه )).
كان على اللجنة ان تمارس اقصى درجات ضبط النفس للخروج بنتيجة ايجابية . لم يرد عليه احد . اكتفى ممثل الأيادي البيضاء  بالقول .
(( لكنهم  أبناء المدينة  ,  هل تنوون مهاجمتهم  كما يفعل الآخرون  ؟   ))
(( لن نهاجم أحدا  , حتى لو  كنا غير راضين فلن  نهاجم العرس , لا يمكن ان تمتد ايدينا لابناء مدينتنا .  لكننا نحمل نفس القلق الذي تحملونه .  هناك مجاميع كثيرة منفلتة وكلها تدعي  انتمائها للتيار الصدري ,  ونحن غير مسؤولين  عن المنفلتين   ))
..
كان من الصعب عزل المدينة بالكامل  واحاطتها بالكونكريت  . لذلك تم منع دخول العربات الا بترخيص . اكتفى  المسؤولون عن الأمن بأحاطة مركز العرس بالحواجز  الكونكريتية  وفي دائرة قطرها 500 مترا

يبدو ان هنالك حزمة من اعلانات العرس عبرت نهر دجلة ووصلت الى منطقة اللطيفية ,   ومن هناك نقلت على عجل الى الفلوجة  المدينة  العراقية التي احتلها الارهاب واتخذ منها مقرأ لصناعة الموت  ومدرسة للأباحية الدموية .  انتقل الأعلان من كف الى كف حتى وصل الى (ابو ايوب المصري )  وزير الحرب في دولة العراق الأسلامية   . هناك عرس  شيعي  دسم  . مليون ونصف سوف يجتمعون في مكان واحد .  بعد استطلاع  الموقع  وجدت ثغرات كثيرة يمكن الدخول منها . قدر فريق الاستطلاع ان هناك فرصة لهلاك ( 50  ) الف من (الروافض ) أذا  تم تجهيز  (25)  انتحاريا . كان مستودع الفلوجة لايكفي لتأمين هذا العدد  , وكان لابد من اللجوء الى  الأحتياطي الستراتيجي . اجريت الاتصالات مع الخلايا النائمة  وشيوخ الجوامع في العالم العربي  .
يجدر هنا ان نتوقف  قليلا عند التعديل  الذي صدر من (ابو عمر البغدادي)  أمير الجماعة  بخصوص عدد  الحوريات المنتظرات  في الجنة  . فبدل ان يكون الرقم  ثابتا (17  حورية )  اصبح متغيرا .  فقد اعتمد مبدأ جديد يحدد عدد الحوريات بعدد  الهالكين   الذين يأخذهم المنتحر في رحلته الى الجنة .  فلو اخذ معه  ثلاثة  فسوف تنتظره ثلاثة  حوريات  ولو أهلك مئة فسوف يجد مئة حورية تنتظره . اما اذا  أنتحر ولم  يصب أحدا بسوء  فسوف لن يجد من ينتظره  . نعم سيدخل الجنة  وسيكون خالدا  فيها ولكن فقط ليشرب اللبن والعسل بدون  حوريات  .
هنالك ( 25 )  عربيا  سوف يشاركون بهذا العرس  بطريقتهم الخاصة :  الاردن  3 , السعودية  3  , مصر 2 ,  ليبيا 2 , الجزائر 2 , تونس  2  , السودان  2 , العراق 2  , فلسطين  1 , اليمن  1 , سوريا 1 , المغرب 1 , الامارات 1 , قطر  1 , الكويت 1  .  ( الأسماء متوفرة لم يريد ) .  يحمل كل واحد منهم بطاقة الدعوة  كي لايثير الشبهات  مكتوب فيها ( وبحضوركم يزداد الحفل بهجة وسرورا ) .  وسيأخذ  كل منهم موقعه بين الجمهور المليوني  .
انتقل الاشقاء العرب عبر الأردن وسوريا  الى الفلوجة ومنها وزعوا على   ثلاثة اوكار سرية  في الغزالية  وحي الجهاد  والدورة . ( أسماء الأدلاء  متوفرة   فقد القي القبض عليهم لاحقا  واعترفوا  بأدوارهم )  . من هناك  نقلوا الى محيط  مدينة  الثورة وزرعوا في الوقت المناسب بأنتظار بدأ الحفل رسميا .
هل نتوقف هنا ؟  لا شك اننا امام مشهد لم يعد خافيا على أحد فقد سجلته آلاف الكاميرات من فوق السطوح  ومئات الألوف من العيون التي بقيت مفتوحة  , وكل العيون التي غادرت  وهي  تحتفظ باللقطة  الأخيرة متجمدة  على شبكية العين . هنالك شئ أسمه الرقص . كان العرس على حافة الرقص  .  هناك مليون ونصف زوج من الاكتاف تنتظره  . شئ يشبه الديدان  التي  تدبي تحت الجلد .
خرجنا  أنا  وصديقي (راضي حسن)  من باص الخشب التي أتخذناها حانة  بعد  ان كرعنا  ليترين من الخمر ( العرق ) . وقفنا في ابعد نقطة عن مركز العرس . يمكن القول اننا وقفنا على محيط ما يجري . أتاح لنا موقعنا ان نرى ما جرى  بطريقة مغايرة تماما .
 بعد ان صعد عريف الحفل ( غالب حمود الأزيرجاوي )  ليشعل أول سهم من الألعاب النارية  , حبس الجميع انفاسهم بأنتظار انطلاق السهم . لكننا فوجئنا  بصعود عريف الحفل  وليس السهم  . كان غالب  أول  الصاعدين الى السماء . بل كان اسرع من السهم الناري . ولوهلة قصيرة جدا شعرنا أننا امام مفاجأة بهلوانية خبأتها  اللجنة  عنا  . شئ اشبه بعروض الافتتاح في الالعاب الأولمبية . حيث يمكن ان يطير كل شئ  . هل لعبت الخمرة بعيوننا ؟ . ارتفع  العرش الجماعي والموسيقيون  في زفة واحدة .  كانوا اشبه بطبق فضائي  يحمل أنوارا  .  رأيناهم بوضوح  ,( 79 ) زوجا من المصابيح  البيضاء ارتفعت الى السماء . لم يتشظوا بعد , لم تنفصل العرائس بعد . كانوا مايزالون كل  يمسك بكف الآخر  كأنهم يصعدون أول مرة قطار الموت في مدينة الألعاب . واصلوا صعودهم   حتى تجاوزوا منارة  (جامع الرضوي ) . اصبحت المدينة كلها تحت انظارهم  . عند هذا المستوى  بدأ تشظيهم  الى نجيمات صغيرة .  ثم  بدأت الألعاب النارية تخرج من أماكن أخرى . وتصعد النجيمات لتتبخر امام أعيننا . استطعنا ان نحصي خمسة وعشرين موضعا تخرج منها  الألعاب النارية .
كان من الممكن ان نواصل بهجتنا وشعورنا باننا امام عرض خالص للألعاب النارية  لولا موجة من الهلع  قد وصلت الى محيط الدائرة وضربتنا مثل أعصار . لم نكن أنا وراضي  بحاجة الى أعصار لقذفنا بعيدا  فقد كان سكرنا كافيا  لوحده   . كانت الموجة من القوة  بحيث قذفتنا لمسافة تزيد على  (15 ) مترا  ,  هذا يعني ان  قطر دائرة العرس تمدد  بمسافة اضافية مقدارها   (30 ) مترا  على الاقل   . غير ان ذلك التمدد لم يكن ممكنا في جميع الاتجاهات بسبب وجود الجدران  . من هنا تضاعف حجم الضحايا ليصل الى  اكثر من ( 50 )  الف  . كان لابد حسب قوانين  الامواج   ان تضرب الجموع الجدران ثم ترتد . هنا حصل  تداخل الاجساد وصعودها فوق بعضها والتحام الصراخ والبحث  الغير مجدي عن الهواء  والفراغ المستحيل  , حيث تحول العرس الى مطحنة كبرى   .  من الأفضل التوقف هنا  فاللغة  تبدو ركيكة وعاجزة عن اللحاق  بما يجري  .
 رحت ابحث عن راضي  . أمسكت  بكفه وسحبته الى باص الخشب . صعدنا الى هناك  وبدأنا رحلة  التضاؤل .  اصبحنا نصغر . بدأت أبعادنا تتضاءل تدريجيا .  تركنا الأجساد في الخارج  تطحن بعضها . تركنا المجزرة  مثل أعصار مدمر يتمدد في كل الأتجاهات  .  وبدأنا رحلة الذهاب الى الصفر الوجودي . كان لابد ان نكون اصغر ما يمكن ,  أن نصبح صفرا كي لا يبقى لدينا ما نخسره  .
بعد ساعة من المجزرة  زف  موقع في الانترنت البشرى للعالم الأسلامي  وعززه  بفيلم يصور الحادث ويكشف أسماء المنفذين  والنتائج الباهرة  التي تحققت . كان من الصعب وضع رقم محدد للضحايا بسبب الاعداد الهائلة من الجرحى الذين  ينتظرون دورهم في الموت  .
 (الأيادي البيضاء)  لم تبتر كلها  . بقي منها مايكفي لأقامة عزاء جماعي  . انتظروا حتى  يفصح الجرحى  عن موقفهم  ويستقر رقم الضحايا عند  (56)  الف  . عندئذ شرعوا   ببناء حاتط في نفس المكان  لتسجيل الضحايا  , بلغ طول الحائط  ( 250 )  مترا  وارتفاعه  مترين . صبغوه بالأسود . ووضعوا طباشيرا  الى جانبه .
تقاطر ذوو الضحايا  . وقفوا في طوابير طويلة يخطون بالطباشير أسماء ضحاياهم . جاء الناس للتعرف على اسماء الضحايا  والجناة  . وضعت اللجنة  اسماء ال ( 25) عربي في أعلى الجدار . كان هنالك خارطة  تؤشر موضع  وقوف هؤلاء السفراء في العرس وحصاد كل منهم   . جاء  (حنظلة النجدي ) من السعودية   في المرتبة الأولى  حيث وصل عدد ضحاياه ( 3500) مما يعني حسب الدالة الجديدة ان هناك   (3500) حورية تنتظره في الجنة  . والثاني  من تونس ( أبو دجانة التونسي ) برقم ( 2500 ) . والثالث اليمني ( ابو براء العدني )   برقم  ( 2000).
 ذهبنا انا وراضي لنكتب اسم (وهران )  عروس قطاع 20  وأسماء أهلها  ,  حيث لم يبق منهم  سوى أختها ( جميلة ) التي دخلت في غيبوبة  ,   وقبل ان نخط أسمها على الحائط   فتشنا عن أسم القاتل فظهر أنه  ( ابو حفصة الجزائري )  , لكنه لم يأخذ وهران لوحدها بل  أخذ معه عريسها  وأهلها  وجميع العرسان البالغ عددهم ( 79)   , وجوقة المغنين والراقصين في المنصة وما يحيط بها ,  انتبه راضي الى شئ  كان غائبا عن بالي . سألني ان كنت أفكر بما يفكر فيه في تلك اللحظة  ,  فقد وجد جسرا غريبا يربط القاتل بالضحية . يربط وهران بأبي حفصة الجزائري .
 يتفلسف راضي حسن  في احلك الظروف . ترك بقية الجدار وظل مسمرا امام ( ابو حفصة الجزائري ) . سألته بماذا تفكر  ؟ قال ان لديه شعور قوي بأن ابو حفصة  يعرف وهران  وانه أحد تلاميذ  والدها المعلم فليح الساعدي . وانه زميل لها في المدرسة الابتدائية  ويجلس  معها في نفس الصف  .
((  سوف أتحرى عنه . لايمكن ان يكون ما جرى محض صدفة   . ان البشر يميلون الى اللقاء بطرق مختلفة  )