18 ديسمبر، 2024 3:52 م

عرب وين .. طنبورة وين؟! 

عرب وين .. طنبورة وين؟! 

عندما كنت صغيراً ، كنت يومياً اجلس على ضفة شط العرب ـ في مدينتي الفاو الواقعة جنوب القلب، والتي كانت عبارة عن بساتين نخيل وأعناب ومزارع خضروات، إضافة الى صفاء الماء وعذوبته. كنت أتأمل الخضرة والماء والبواخر القادمة والذاهبة من والى موانئنا ــ الفاو ، المعقل، أبو الفلوس ــ بواخر مختلفة الأحجام والمناشيء تأتي وتذهب محمّلة ، إضافة الى زوارق الصيادين و(لنجاتهم) التي تمخر الشط ذاهبة في رحلة صيد أو قادمة بأنواع السمك ، ومنها التي تحمل التمر والملح والماء الى دول الخليج والهند وغيرها. التمر والملح كنا نصدرّهما وبأنواع هي الأرقى والأجود في العالم ، إضافة الى الماء العذب الذي تأخذه الزوارق من الشط لتذهب به الى حيث دولها. كنت أشاهد تلك المناظر الخلّابة لأعود واسأل أبي: ارى مراكب وزوارق كثيرة تأتي وتذهب ببضاعة أيضا ، ماذا تنقل والى أين؟! ليجيبني: يا ولدي انها تأتي بالبضائع التي نحتاجها للاستهلاك وتذهب بمنتجاتنا النفطية والصناعية والزراعية لتبيعها هناك. بمعنى إن صادراتنا وتجارتنا مزدهرة وعامرة في كل لحظة!

نعم.. كنّا نصدّر الكثير من المنتجات النفطية والصناعية والزراعية وحتى الماء العذب . وكانت مزارعنا وبساتيننا تنتج أفضل وأجود الأنواع المختلفة من كل شيء ، وصورة لبساتين أبي الخصيب والتنومة والسيبة والفاو تمنحك شعورا وكأنك في الجنة ــ حيث الفواكه متدلّية على ضفاف الأنهار وبين السواقي التي ينساب فيها الماء رقراقاً عذبا ، والشارع العام الذي يأخذك الى الفاو كان سفرة سياحية بين الخضرة والماء. كما إن المملحة الكبيرة كانت تصدّر الملح الى الخارج، ناهيك عن مصانع المعجون والمعلبات والبتروكيمياويات والحديد والصلب والأسمدة والورق والأدوية ــ كيماديا عراق ــ التي كان منتجها من أجود الأدوية لشتى الأمراض وكان منافسا قويا لمصانع عالمية تمتد خبرتها لعشرات السنين. فضلاً عن العديد من المصانع والشركات والمعامل التي يضاهي منتجها الإنتاج العالمي في المواصفات وتسد حاجة السوق المحلية وتصدر الى الخارج.

استذكرت أيام طفولتي وقد صرنا الآن نستورد كل شيء من الإبرة الى الطائرة، وحتى الماء العذب، بعدما كنا نصدرها وتقف البواخر والشاحنات طوابير لتأخذ منتجاتنا صارت تقف بطوابيرها لتجلب ما نستورده رغم سوء المناشىء وانتهاء صلاحية البعض منها.. صرنا نستورد من الدول التي كنّا نصدر لها نفس البضاعة!

توقفت معاملنا ولم تعد تدور ، رغم المحاولات الجادة من البعض لتشغيلها. وزراعتنا تدهورت نتيجة شحة المياه وعدم تشجيع الفلاح إضافة الى الاستيراد الذي صار على قدم وساق. صرنا الآن مستوردين ومستهلكين من الدرجة الأولى والممتازة طبعا ما جعل البعض يثرون على حساب جوع الآخرين، وينقسم المجتمع الى طبقتين فقط ــ أثرياء جدا وفقراء مدقعين، وكل هذا ناجم عن عدم الاهتمام بالزراعة والصناعة والتجارة وإشاحة الوجه عنها والبحث عن أزمات ومشاكل لإشغال الناس بها بعيدا عن أهم عامل في تطورهم وازدهار بلادهم!

إذا أردنا أن نطوّر بلدنا ونبنيه ونجعل من ناسه سعداء في كل شيء، علينا أن نضع الوطن نصب أعيننا ونبض قلوبنا ونسعى جادّين لبنائه وسعادة شعبه ، لا أن نفكّر في كيفية زيادة رواتبنا ومداخيلنا أولا ونضرب حياة الآخرين عرض الحائط فنصوت على الزيادة والبلد يمرّ بأزمة مالية واقتصادية كبيرة، ويظلّ البعض يردد وبصوت عالِ: عرب وين .. طنبورة وين؟!

نقلا عن طريق الشعب