انتشرت في العراق منذ قيام الحكومة الوطنية الأولى مطلع القرن العشرين سيارات ذات الابدان الخشبية وأولها كانت سيارات ( الدوج ) الأمريكية وكانت تستخدم للنقل الشخصي كما الباصات ولكنها ليس بحجمها ، ثم في الخمسينيات دخلت سيارة الفولفو الخشبية وتكون اكبر من الدوج وفي البدء استخدمت لنقل الركاب والزائرين من المحافظات الى مدن النجف وكربلاء ، وعندما دخلت الباصات الحديدية والاكثر حداثة تم استخدام هذه السيارة لنقل المحاصيل الزراعية والفواكة بين المحافظات .
وكان بعضها وغيرها من انواع الباصات حين تستهلك وخصوصا في ابدانها تؤخذ الى الحي الصناعي في مدينة النجف ويُصنع لها بدناً جديدا ومنذ تلك اللحظة يتغير اسم السيارة ويطلق عليها لقب ( دَكْ النجف ) أين أن مسامير بدنها دُقَتْ بمطارق حدادي النجف.
لازمت الباص ( دَكْ النجف ) مسيرنا الاسبوعي من الناصرية الى الجبايش وبالعكس أثناء تعينننا كمعلمين في مدارس الأهوار ، وكانت تلك الباصات البدائية مثل هوة هائلة تحمل اي بشر يرغب في السفر وخارج قدرة كراسيها على استيعاب الركاب ، بحيث يكون في بعض المرات الواقفون أكثر من الجالسين ، وكان تراب الطريق الذي لم يزفت بعد يملأ جوف السيارة لكن لا أحد يسعل ويتضايق منه سوى نحن المعلمون الذي نفضل الذهاب الى مدرستنا ونحن نرتدي الدشاديش لأن الذهاب بالبدلة واغلبها تكون لونها أسوداً يعني ان تتحول الى لون ترابي وربما لا تصلح ثانية للارتداء.
بعض المعلمون كانوا يطلقون على ( دَكْ ) النجف بمركبة فضاء الأهوار لأنها في لجة الغبار الذي تثيره اثناء سيرها بموازاة مياه الاهوار تبدو كمن يطير بين الغيوم ، وبعضهم يسمها ( الحوته ) والاخر الاكثر تشاؤمنا يسميها النعش المتحرك .
الصورة داخل هذه الباص اثناء الطريق تُريكَ النماذج البريئة للحياة البسيطة ، فبعضهم يتحدث عن عسر جاموسته في ولادتها والاخر يشكوا من صعوبة التفاهم مع موظف دائرة الجنسية وآخر يتزلف لعريف شرطة جلس جانبه ويعده غدا بقدر لبن رائب وصحن قيمر ، وبعضهم يلتهون بلف سكائرهم أما نحن المعلمون فيكون مكاننا دوما جنب السائق ويسمونه ( السَدر ) تقديرا لنا ولأنهم يعرفون أن حديثهم وسط مركبة الفضاء لايعنينا .
مرة جلست قرب سائق السيارة أتأمل الطريق واضع على انفي منديلا ابيضا تخلصا من ( الطوز ) وهو ما يطلق على التراب الناعم الذي تثيره عجلات الباص ، وكنت اقضي مسافة الطريق التي تستغرق من 4 ساعات لان النازلين والصاعدين كثر بتأمل الطبيعة الجميلة لمدى الأهوار بين زرقة الماء وخضرة القصب ، ويومها كنت قد جلبت معي مجلة غلافها عليه صورة رائد الفضاء الأمريكي ( نيل ارمسترونغ ) الذي كانت قدمه اول قدم بشرية تطأ ارض القمر وكان هذا العدد صادر بمناسبة الذكرى السادسة لهبوط مركبة الفضاء ابولو 9 على القمر ، تأملها السائق وقال مستخفا بركابه : الجماعة الامريكان صعدوا للقمر ، والجماعة بعدهم يلفون تتن؟
شيخ جالس وسط الركاب انبرى له وقال بجلفتيه البسيطة : ( جا كون انت هيج فهيمه ، ما صعدت وياهم يا بو…نغفه )