يا لها من (عربانة) باذخة بالحلم والظلم
حلم حققته كممثل في أدائي لشخصية (ابوسكيو) البغدادية بإحساس منْ مسّهُ السِحروالجنون ..
وظلم عاشته شخصيات– وشخصية أبوسيكيو منها- مختلفة الأحلام والخيبات والفقدان والتمنيّات في يومياتها الماضية وفي السجن عبرمسرحية (العربانة ) التي طرّزها الخلّاق الشاعر مظفر النوّاب كتابة وفعّلها بصرياً الفنان المسرحي باسم قهار…
من المحطات المهمة في حياتي هذا العرض ، سحر أو جنون أدائي لحبيبي أبوسيكيو أيقظه عشقي للمسرح وذاكرتي المزدحمة بالوقائع والتخييل والتي ساهم أيضاً في تشغيل أضوائها النوّاب وقهارعبر طاقة كتابية ، بصرية مختلفة ومجنونة في رؤيتها الجمالية والفكرية ..
بروفات أمتدت لشهور عديدة مع جمع من عشاق المسرح أدّوا كممثلين شخصياتهم بمحبة وجمالية وطاقة متميّزة –المغنية العراقية شوقية البصري والفنانة السورية رائفة أحمد والممثلة السورية حنان شقير ، الفنان العراقي صلاح هادي والشاعر شكر خلخال، وابرهيم الطاهر وايمان بلال وكفاح الخوص والشاعر موسى الخافور وصباح قادر وختامهم المسك الخالد الشاعر جمعة الحلفي- ويومياً لساعات طويلة كان النوّاب أريجها الذي يجعل كاست العرض في حالة من الوجد والتوجّهللحياة والمسرح ، كل بروفة والنص يتجدد ويتوالى الحدث ، كل بروفة وباسم قهار يتواصل بمقترحاته البصرية ويضع كاست العرض الديناميكي في مواجهتها وممارستها وتنفيذها ، وكممثل لدور رئيسي لم تكن مهمتي سهلة ، كنت أدخل صالة البروفات وخوف لذيذ يغمرني لكنه أيضا يجعلني متعثراً ومرتبكاً في بناء شخصية حبيبي البغدادي أبوسيكيو ، وفي البدء كان من الصعب أن أقنع باسم قهار في أدائي للشخصية ، لسبب بسيط لكنه عميق هو أن قهار في الأساس ممثل ويتقن مهنة التمثيل ولا يقبل إلا مضطراً أو لنقل لا يتحمل أي ممثل بعيد عن مرأة أدائه التمثيلي الذي أدركته وتفاعلت معه دون أن أستنسخه أو أقع أسير نشوته الساحرة ، بالعكس من ذلك صرت أحاول إستحضار مرآتي العاكسة لمشاعري الجسدية والصوتية الساخنة كي تولِّد وتؤسس شخصية حبيبي أبو سيكيو ، ولم يكن ذلك سهلا مثلما قلت ولذلك لمرّات حتى بعد إنتهاء البروفات يلازمني الخوف إلى حد الفوبيا وأدى بي هذا الأمر مرّة إلى تعمدي لعدم حضور البروفة التي كانت في صالة الحمراء بدمشق وجلوسي في مطعم لاتيرنا أغطي فوبياي بكوؤس من العرق ، عدم حضوري جعل المخرج باسم قهار أن يرسل كاست العرض إلى المطعم حيث أجلس فيه وكان ذلك موقفاً رائعاً منه وصفعة مؤدبة وجهتها أنا إلى نفسي حيث أزحت من روحي الفوبيا ودفعت بها لملازمة وبل معايشةالحبيب ابوسيكيو وخاصة بعد أن عقدنا إجتماعاً ثلاثياً أنا والنوّاب وقهارالذي (هددني) بحس مخرج حريص على سوية وجمالية حضوري كممثل والعرض عموماً بأنه سوف يضطر أخذ الدور لأداء دورأبوسيكيو ونهضت من رماد الفوبيا واليوم وأنا أعيش تلك اللحظات أغني :
من ينزل أول الدفو بنيسان
يهتز النبع
يمكن يخضِّر الضلع
يمكن بعد ، بالروح
يا ريحان
وصله تنزرع*
…………………..
ردّيلي الفرح ..ردّيت
معضد باب يبجيني وأحن حنّة حمامة بيت*
وصرت مهوساً كحمائم تحلق وتحن لملامسة سطح البيت–المسرح وبل السكن فيه وأنا أحاول إرتداء روح شخصية حبيبي أبوسيكيو وبتحد كبير تواصلنا نحن أسرة العرض مع البروفات وهي تبدأ في صالة ما وتتواصل حتى جلساتنا الليلية ، وقهار يبدي ملاحظاته على الأداء التمثيلي بالكلام المؤثر والفعل المحرّض للإرتقاء بالعرض وأبطاله المشاركون يحاولون كل وفق طاقته وتجربته في التعاطي والتفاعل مع مقترحات المخرج والمؤلف التحريضية والتشجيعية .
أكثر من العرض ويومياته تشكل عندي البروفات ساعات سعادة رائعة ، وبروفات (عربانة) مظفرالنوّاب هذه منحتني تلك الساعات السعيدة وفي أقصى درجاتها القلقة والصاخبة لا يتوقف ناقوس خطرها في رنين عدم رضاها أمام حركة ما ، مشهد ما ولكنها أيضاُ لن تمل في بحثها عن أفق يؤدي إلى الكشف واللإبتكار في كل مفصل من مفاصل البناء الجماليالبصري ، قلق البروفات المفرح عندي وعند قهار كان طاغياً حتى في أوقات الراحة أو فترة قبيل وجبة الأكل ، ففي إحداها ،في بيتي وعند ذروة سعادتنا لإنتظار أكلة (الدولة ) بدأتُ ومعي باسم قهار بالرقص على إيقاعات أغنية (أجلبنك يا ليلي إثنعش تجليبه) ، لم يقتنع المخرج قهار برقصي –وهو ضمن مشهد من مشاهد العرض- وصار هو يرقص بطريقة حميمية رائعة شجعت رهام صبري إبنتي وبحسها الطفولي بالمشاركة معه بالرقص ، وبدوري أنا دخلت نشوة (أجلبنك) محاولاً إتقان إيقاعاتها التي جاءت كموسيقى مشحونة بحس صوفي أجاد توزيعها الفنان الإستثنائي رعد خلف الذي وضع تعبيرات العرض الموسيقية بالكامل .
مسرحية (العربانة) حصدت 72 مادة إعلامية بين أخبار ووحوار ومتابعة ونقد ، لا أملك عنها-عربانة النوّاب- سوى هذه الصورة والبروشور ولكن ذاكرتي مزدحمة بيومياتها وبروفاتها وعروضها ، يمكن أن أتوقف عند بعضها ، ففي صالة الحمراء بدمشق كانت بروفات الأيام الأخيرة قبل العرض ، وفي مشهد ما وانا داخل غرفة السجن أتذكر أيامي السابقة ، أتحدث عن (عربانة الربِل) العربانة التي يجرها الحصان ، أوقفني المخرج باسم قهار وطلب مني ومن معي في غرفة السجن -الواقعة في الطابق السفلي من الديكور- الخروج إلى يسار مقدمة الخشبة وقال بتصميم فنان يحاول خلق المدهش: أريدكم تسوون هاي العربانة-لست متأكداً كيف ومن قدم هذا المقترح البصري!!- ، وفي دقائق قليلة حوّل الممثلون الرائعون أجسادهم إلى عربة (الربل ) ، أحدهم صار حصاناً وصهل وأخرين شكّلوا إطاريها اليمين واليسار وقرقعوا ، بعضهم جعل أجسامهم كمقاعد للجلوس وانشرحوا وأنا أمسك (اللجام) وأحركه كي يتحرك الحصان ، هوووووووو.. وتحركت العربة (الربل ) بنشوة غامرة جسدتها أصوات الممثلين والحوار الذي أتحدث به عن (حمدية) حبيبتي التي فقدتها مثلما فقدت الفرح في حياتي ، كان المشهد ساحراً بتكوينه البصري مثل الكثير من مشاهد العرض الذي تأسست حلوله البصرية والنصية عبر أسلوب تداخل الأزمنة وتبدلاتها السردية المتحررة من زمن الحدث المعتاد ، وعبر مونتاج سينمائي وإنتقالاته المكانية البصرية المازجة بين سحرالمتخيل وسيرِالواقع ، ففي المشهد الأخير للعرض يسحب المخرج قهار الحدث إلى فنتازية بصرية ساحرة حيث تظهرالعربانة التي لوّنها وطرّزها مظفر النوّاب بنكهة ونقوش ورسوم بغدادية ، تنطلق عربانة النوّاب وكأنها في حالة سكر راقصة يشاركها ويدفعها جميع الممثلون وأكون أنا (أبوسيكيو) واقفاً في داخلها أبث حنيني وحبي لشوارع وساحات ومناطق بغداد عبر منولوج شعري عذب وموجع ، هذا المشهد وصل فيه أدائي للشخصية في حالة إمتزجت لم أميّز فيها ما بيني كفاروق صبري الساكن في قلبه وجع الغربة وحنين وطن مضاع وبين شخصية (أبوسيكيو) الغارق في عثرات حياته الخانقة. .
كان ديكور العرض من طابقين توزع معظم المشاهد في فضائهما المتواصلين عبر درجين محكمين أمامي وخلفي ، فمشهد (أجلبنك) الذي رقصت فيه بتجلي وكأنني طير مذبوح ، كان في الطابق العلوي ، ومع الرقص أتحدث عن حياتي ، في نهايته أنزل عبرالدرج الخشبي الخلفي إلى الطابق السفلي مكملا حديثي كأي متصوف في حالة (الدروشة) لأدخل المشهد القادم مع من يشاركني في غرفة السجن الضيقة ، وحينما إنتقل العرض (العربانة) إلى اللاذقية لم نستطع نقل جميع تفصيلات الديكور ذات الطابقين وخاصة الدرج الخلفي الذي عوض عنه بسلم خشبي عادي، قمت ببروفات عديدة عليه لأنني الوحيد الذي أستخدمه في نهاية رقصة(أجلبنك) ، وفي يوم العرض الأول وبعد إنهائي لرقصة التصوف(أجلبنك) يعمّ الظلام في الطابق العلوي من الديكور ماعدا بقعة ضوء صغيرة تنير الطريق لي إلى الدرج الخشبي الخلفي ، لم أجده ، ما العمل ، كي أتواصل مع المشهد السفلي ، وفي لمحة من الغيبوبة اليقضة وجدت نفسي تحت وبين شخصيات غرفة السجن وإكتمل المشهد ليتواصل العرض ومشاهده تتوالى بإيقاع درامي متميّز دون أي إرباك أو تعثر ، وبعد تصفيق جمهور اللأذقية الساخن الراقي ، وبعد تحيته من قبل كاست العرض توجّه أحد عمال العاملين خلف الكواليس متسائلاً فيما كان الممثلون والفنيون يستمعون: ماذا حدث ، سمعت صوت إرتطام خفيف ؟ قلت له : قفزت من الفوق إلى التحت لأن (ماكو) درج !!! ضحكت وضحك الجميع فيما قدمي اليمنى بدأت تعلن ألمها وذهبنا للسهر على الساحل الأزرق اللاذقاني …..
*مقطع من قصيدة (الريحان )
* مقطع من قصيدة ( جنح أغنيده)
* هنا أحيي مديرية المسارح السورية بمديرها العام حينذاك الفنان الكبير أسعد فضة لتعاونهم الرائع الراقي مع كاست العرض.