أحزاننا تتواصل ، وهمومنا تتكاثف ، وقلقنا مزمن ، العالم يحتفل بالعام الجديد ، ونحن يتلبسنا القلق من قابل الأيام ، فبعد عشر سنوات لاهبة جرت خلالها أحداث جسام أرعبت المواطن وصحّرت الوطن ، دخل العام الجديد صاخبا مدويا تحتدم مفاعليه، وتنفتح خياراته مشرعة نحو المأمول والمجهول.
فما جرى خلال الأيام الماضية من أحداث أفرزت التظاهرات جدير بالقراءة المتأنية حتى لا نجمد في مربع الزمن فتضيع السنين وتهدرالموارد وتُطحن الأجيال وتتكرر المآسي في دورة كارثية جديدة على يد الإقطاع السياسي المعاصر.
الأحداث الأخيرة تبعث بحزمة من الرسائل ينبغي على أهل الفكر والرأي والساسة وعموم الشعب قراءتها جيدا منها:
– الرسالة الأولى: (إعادة تعريف الشعب العراقي ).
بعد كل ما مر به شعبنا المبتلى من كوارث بمختلف الأحجام والأنواع على مدى أكثر من خمسين عاما ، حتى خُيّل للذين لايدركون حقيقته ، أنه قد دُجّن وأسلم قياده ، مؤكدين بإصرار أنه أصيب بالعجز وفقد القدرة على الفعل وكبّله اليأس فلن يقوى بعد اليوم على رفع صوته فضلا عن أن يطالب بحقوقه ويندد بمن ظلمه . فجاءت التظاهرات فأسقط في أيديهم حين أذهلهم بذكائه ، وحسه الفطري ، ووعيه بوحدته الوطنية، وفرزه الدقيق بين خادميه وناهبيه. فوجب إعادة تعريفه وتوظيف مصادر قوته من أجل مستقبل أفضل.
– الرسالة الثانية 🙁 المؤسسات البعد الغائب).
بلد بلا مؤسسات من الطبيعي أن تمتد له يد الخراب ويعشعش فيه الفساد وتضيع الحقوق ويستنسر الأزلام ، فالمؤسسات صمام الأمان لأنها تدير الإختلاف السياسي والمجتمعي سلميا ، وتحفظ الحقوق ، وتمنع الفوضى ، وهي (البرلمانية التشريعية الرقابية ، والقضائية المستقلة ، والتنفيذية الكفوءة ) وعند النزاع بينهم تفصل ( المحكمة الإتحادية ) عند غياب المؤسسات يتغول الأشخاص ، وتهرب الأفكار الحضارية، وتتسع المتاهة لتغيّب الوطن والمواطنين.
يجب إعادة تشكيل المؤسسات وتعديل الدستور من قبل مختصين وخبراء ، كي لاتحتكر القوة بيد شخص أو حزب أو طائفة ( فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة).
– الرسالة الثالثة : (السياسة فكر وأداء).
غياب قانون ينظم العمل السياسي وتصحر العقل العراقي المعاصر والفقر الفكري المدقع وسطوة إغراء المال السائب ، ورغبة نرجسية جامحة في امتلاك المنصب الوجاهي بلا ركائز معرفية أو خبرة أو مهارة، أدى الى التسلق نحو الواجهة السياسية ظانين أن السياسة كلمات تلفظ في حلقات تليفزيونية بين حين وآخر، فجاءت صيحات المتظاهرين لتضع النقاط على الحروف عبر رفض من يُمثل عليهم ، ولم تؤلمه أوجاعهم يوما ، صرخات كشفت زيف المكياج ، وأظهرت الحقيقة ، وكشفت المستور.
لذا يتوجب خفض الإمتيازات المهولة التي يغرف منها النواب ، وضرورة إعادة النظر بضوابط الترشيح البرلماني حسب الإمكانات المعرفية والمهاراتية والخبرة والتزكية المجتمعية ، وغلق باب الفوضى الإدارية في العمل السياسي.
الرسالة الرابعة: (الدولة الخادمة والمواطن المخدوم).
الدولة مؤسسة قامت لتحافظ على كيان الوطن وحقوق المواطن عبر العقد الإجتماعي ( الدستور) الذي ينظّم العلاقة بين المواطن والدولة ، ويتعاقب على إدارة المؤسسة التنفيذية فريق حكومي ينبثق من قيادة سياسية بنّاءة عاقلة حريصة على صالح الوطن وكرامة المواطن، إدارة تحترم الديمقراطية بأبعادها الثلاثة : ديمقراطية الوصول الى السلطة ، ديمقراطية ممارسة السلطة ، ديمقراطية الخروج منها ، المحصلة لكل هذا النظام السياسي دولة خادمة لمواطن مخدوم.
الرسالة الخامسة: (تفعيل الرأسمال المجتمعي).
عاش كل منّا لنفسه فضاع الوطن وحل الخراب، فلدى كل شعوب الأرض مراكز تدريب وورش عمل ، ومؤسسات مجتمعية تدفع بالناشطين الفعّالين لصقل مهارات أبناء الوطن ، في حين بقينا وحدنا تفتك بنا الفردية ، تُحركنا (الفزعة) وتدفعنا ( الهبَة) لم نتدرب على الفعل المشترك أو تكامل الخبرات، لذا أصبح واجبا اليوم الإسهام بصناعة المجتمع المدني / الأهلي الموازي للجهاز التنفيذي .
الرسالة السادسة : ( تحويل الأزمة الى فرصة).
هذه الرسائل دعوة للتفكير، ومحطة للمراجعة ، وحافز لتحويل الأزمة الى فرصة ، عبر قراءة دقيقة لمفاعيل شعب أصيل إسترد رايته ، وبدأ يراجع ويمحص خياراته وسط أوضاع مرتبكة . إذ أننا اليوم على مفترق طرق يتحدد عبرها مصير الوطن ، في ظل صراع إقليمي محموم تتنازعه محاور شتى .
هما خياران لاثالث لهما ، إما أن نكون جزءً من مشروع يسهم في إرساء السلم والعدل والمساواة والتنمية في أرجاء الوطن كافة عبر الوعي العميق بالرسائل أعلاه ، أو نستدعي بسذاجة وبلاهة للجحيم، فيتشظى الوطن، وتستمر مأساة المواطن ، فالمرحلة خطيرة ، تستدعي أن نصغي جيدا لنداءات التعقل التي تفرمل العواطف ، وتعززالمناعة الوطنية. وحينها سيوصد الباب للأبد أمام المحاولات البائسة لإستدعاء الجحيم.
إضاءة : لا أقلق من عظم التحديات، ولكني قلق من ضعف القدرات. ومع ذلك لا أظننا بدعا من البشر، نحن فقط فى حالة عدم توازن وبحاجة لاستعادة هذا التوازن بسرعة كى نبدأ العمل.(د. معتز بالله عبد الفتاح ، أستاذ العلوم السياسية في جامع القاهرة).