18 ديسمبر، 2024 11:24 م

عراق ما بعد الاتفاق الإيراني السعودي

عراق ما بعد الاتفاق الإيراني السعودي

مقدما، ينبغي أن نعترف بأن السعودية تنوب عن جميع العرب الآخرين المتضررين من السلوك الإيراني العدواني المستمر منذ أعوام، والذي كلفهم الكثير من الدم والمال والجهد وراحة البال.

كما أن إيران تضع وراء ظهرها قوىً عديدة أخرى عربية وغير عربية تريدها أن تكسر شوكة خصومها العرب السنة في العراق ولبنان وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين.

وقد ثبت في العشرين سنة الماضية أن العراق، أكثرَ من غيره من مناطق التصادم العربي مع إيران، قد تحول إلى منطقة كسر عظم عسكري وأمني ومخابراتي ومالي وثقافي ومذهبي بين المعسكر الإيراني الفارسي والمعسكر السني العربي، وأصبح من يستطيع فرض سيطرته الكاملة عليه سيضمن الغلبة في المواقع الملتهبة الأخرى.

ولكن محللين وكتابا ومعلقين عراقيين كثيرين، رغم هذا الواقع العصي على التغيير، راحوا يبشرون بانفراج مؤكد وقريب في العراق سيعجل به البيان الصيني الأخير.

طبعا، لا أحد يملك دليلا على أن السعودية قد وضعت العراق ضمن قائمة الدول التي تطالب إيران بعدم التدخل في شؤونها.

نعم قد يتحقق انفراج معين في اليمن. وربما في لبنان. وحتى في العراق قد يقدم النظام الإيراني على ضبط فصائله المسلحة وأحزابه العراقية، ويجبرها على التوقف عن شتم السعودية وحلفائها، وعن إرسال الصواريخ والمسيَّرات إلى موانئها ومطاراتها، وقد يوعز لحسن نصر الله بالتوقف عن تهريب المخدرات إليها عبر سوريا والأردن، وذلك فقط ضمن الفترة القصيرة المحددة لاختبار النوايا.

ولكن الموثَّق والمجرَّب منذ سنين طويلة أن هذا النظام، بدون مليشياته وصواريخه ومسيَّراته، وتعدياته على الملاحة الدولية، وتهديداته بغلق المضايق ومنع مرور النفط والغاز الخليجي، لا يمكن أن يعيش. وعودتُه إلى دولة المسالمة والمهادنة انتحار.

ومن يحلم بأن يترك العراق ويجعل علاقته به ندا بند، وجارا بجار، ودولة بدولة، لا يعرف الجغرافيا ولا يقرأ التاريخ.

فإن أهمَّ فرائض إيران الخمسة في العراق هو عدمُ السماح بقيام دولة حرة في سياساتها وقراراتها، ولا ترضى لمواطن عراقي مستقل ديمقراطي وطني نزيه، سني أو شيعي، عربي أو كردي، مسلم أو مسيحي، أن يكون رئيس جمهورية، أو رئيس حكومة، أو رئيس برلمان، أو قائد جيش، أو وزير داخلية أو مالية أو نفط من خارج إرادتها القاهرة.

ومن المشكوك فيه أن تعطي هذه الصلاحية لغيرها، تحت أي ظرف، وأية ذريعة.

هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى من غير المنتظر أن تتخلى فصائلها المسلحة، حتى لو أمرها وليُّها الفقيه، عن هيلمانها وجبروتها ومكاسبها. وقد تلجأ إلى القيام بأنواع مبتكرة من افعالها التخريبية لتخلط الأوراق، وتُفشل الصلح الإيراني السعودي، ثم تتهم بها (الطرف الثالث) الملثم المجهول، مثلما دأبت على فعله كثيرا في حالات عديدة، عندما تضطر لذلك. 

فليس سهلا على المافيات العراقية التي تعيش على تهريب النفط والسلاح والمخدرات أن تغلق أبواب رزقها، بسهولة، وتقبل بالهزيمة، وتتهيأ لملاحقات قضائية مؤكدة ضد قادتها المتهمين والمُدانين بارتكاب جرائم ومخالفات يعاقب عليه القانون، خصوصا وأنها ممسكة بمفاصل أهم الأجهزة الأمنية والقضائية والمالية الحساسة، وقادرة على فعل ما تريد.

ولا نعني هنا القوى الشيعية الحاكمة وحدها، بل إن من السنة العرب العراقيين من هو أكثر إصرارا على مواصلة الإخلال بالأمن، وتخريب أية محاولات صلح وسلام تحرمهم من مناجم ذهب القوة والمال والزعامة والنفوذ.

فسنة إيران المستفيدون من حاجة الحرس الثوري لأحزابهم وعشائرهم لابد أن يفعلوا الكثير لمنعها من التخلي عن خدماتهم، وهم قادرون، بما تجمَّع لهم من مال وسلطة ومنتفعين.

كما أن سنة السعودية وقطر والإمارات والكويت وتركيا سيفعلون كل ما في وسعهم لئلا يخسروا سواقيَ الدعم المالي والسياسي والإعلامي التي جعلت لهم قيمة لدى إيران، وفرضتهم شركاء على وكلائها الحاكمين في العراق.

والشيء نفسه يقال عن كرد العراق، وعن كرد تركيا وسوريا المتحصنين داخل الأراضي العراقية، والمستفيدين من ضعف الحكومة المركزية، ومن صراع الإرادة والمصالح بين جمهورية أربيل وجمهورية السليمانية، من جهة، وبين حكومة كردستان وحكومة بغداد، من جهة ثانية.

ولا ينبغي أن ننسى دور الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في إبقاء هذا الصراع دائرا بين المعسكرين، عشرات السنين، وقدرتَهما على السماح أو عدم السماح بإعادة العافية إلى الدولة العراقية التي أغرقتها مخابراتهما في صراعات القوى المحلية فيها، والتدخلات الأجنبية المتوطنة في مفاصلها من زمن بعيد.

شيء آخر. إن الانفراج الوحيد الذي يريده العراقيون، ويتمنون أن يكون التوافق السعودي الإيراني هو البوّابة الواعدة بتحقيقه، والذي ثار التشرينيون من أجله، وقدموا خيرة شهدائهم لانتزاعه من شلل الحكم الفاسدة العميلة، هو حكمُ الشعب الذي ينبثق عن انتخابات نزيهة وعادلة وشفافة لا تستطيع القوى الدينية أو العسكرية أو المافيوية، الداخلية أو الخارجية، أن تلغي نتائجها، وتُغيّر مسارها وفق مصلحتها وإرادتها.

وفي هذا الشأن لابد أن نتذكر ما فعله الولي الفقيه الإيراني بالدولة العراقية وثرواتها وعلاقاتها الخارجية وشؤونها الداخلية كلها، على مدى السنين الماضية، وكيف تمكن من فرض أعوانه على مؤسساتها الأمنية والمالية والنفطية والتربوية والثقافية لابتزازها وجعلها درَّة مستعمراته التي تعينه على عقوبات الأمريكيين والسعوديين الخانقة. وليس متوقعا أن يرمي هذه البيضة الذهبية من يده إرضاءً للسعودية أو الصين.

كما لا ينبغي أن ننسى الفاعل الأكبر الثاني الوليّ الفقيه العراقي علي السيستاني الذي يعني قيامُ دولة الشعب الحقيقية إلغاءً لسلطتِه التي كان، وما زال، آمرَها ومُطاعها في كل شأن من شؤون الدولة ومقدراتها وسياساتها. وفي أحيان كثيرة تجاوزت سلطته سلطة إيران وحرسها الثوري وخلاياه النائمة والصاحية كلها.   

وسجله موثق ومحفوظ وطويل وثقيل في تسيير دفة الحكم في العراق، بدءاً بكتابة الدستور واختيار رؤساء الحكومة وإقالتهم، وتقرير الكتلة الأكبر التي لها حق تشكيل الحكومة بغض النظر عن نتائج الانتخابات والفائز الأكبر فيها، وانتهاءً بفتاواه التي أجاز فيها سرقة النفط والمعادن الأخرى، واعتبر أموال المصارف مجهولة الصاحب، ومن حق الشيعي أن يتصرف بها كما يشاء، بعد دفع خُمسها.

إن على أصحاب النوايا الحسنة المنتظرين حدوث إنفراج محتمل في العراق يجلبه التوافق السعودي الإيراني الأخير أن ينتظروا طويلا، مع الأسف الشديد.