يعيش العراق الآن في عموم شؤونه وتقاليده وصراعاته الداخلية ، مرحلة ماقبل الدولة، حيث تتحكم التقاليد العشائرية وتعلو شؤون القبيلة وسننها وفروضها بينما تنخفض اعراف الحياة المدنية والحضارية ، المسنودة بتاريخ من تطور الوعي الإجتماعي وفقه القانون المدني وتشريعاته .
تراجع دور القانون وإنحنائه لفروض الأحزاب السياسية الحاكمة وضعف إرادة جهازالحكومة الأمني وفساده وهزال عناصره ،أعطى القوة للقبيلة والمرجعيات التي كانت تستظل بهاتين القوتين المسؤولة عن حفظ الأمن والحقوق للمواطنين جميعا ً، كما اطلق العنان للعصابات المسلحة في تمثيل صريح للميليشيات المسلحة التي تملكها أحزاب السلطة .
نحن الآن أزاء مجتمع منقسم تتحكم فيه قوة السلاح وقوة العشيرة ثم الأحزاب ثم المرجعيات الدينية، واقتراب كل منهم الى مركز السلطة التي حولت كل مجهوداتها للتنافس على المال والنفوذ والامتيازات، في ترجمة وافية لمنطق الغاب،اذ يهيمن القوي على الضعيف ويصادر حقوقه وحرياته بل حتى حياته، دون رادع أو مخافة من عقاب أو حساب لسلطة وقوانين الدولة .
سقطت الدولة العراقية على نحو تدريجي خلال ثلاثة عشر سنة من حكم المحاصصة السياسية واحزابها السياسية الطائفية والعرقية ، بينما بقية شعارات الديمقراطية والحرية وإدانة الدكتاتورية والنظام السابق، شعارات تطلق بموازات الشعار الطائفي والدعوة للإنفصال ، وسلوكيات تهدف الى تحطيم كل مرتكزات الدولة والمجتمع في ظل توليتاريات دينية فاشية واحزاب تتلفع بالمذاهب الطائفية وتستحضر كل أنواع الخرافات والتخلف والإستهانة بالانسان والعقل .
واقع الحال في العراق يأتي ، كما يرى البعض، ضمن المخطط الأمريكي بعد غزو الكويت ، والوعد الذي حمله ( جيمس بيكر) وزير الخارجية الأمريكي لطارق عزيز في عام 1991، حين ابلغه بأن امريكا ستعيد العراق الى عصر ماقبل الدولة ، اذا لم ينسحب الجيش العراقي من الكويت، لكن غياب الحكمة والبصيرة السياسية جعل العراق يتنقل على رصيف الخسائر والعودة الى ماقبل الدولة .
السبب الاخر ان الأحزاب والقوى السياسية التي حملها الإحتلال الأمريكي للحكم في العراق، بعد سنين من التشرد وحياة اللجوء والإذلال ، هذه الأحزاب لم ترتق للمستوى الأخلاقي والوطني الذي يمكن ان يناظر التجربة السياسية في المانيا واليابان عقب احتلاليهما من قبل امريكا نهاية الحرب العالمية الثانية …!
من يسأل عن معالجة هذه الإشكالية العظيمة وإنقاذ الوطن والمواطن، نقول باختصار ؛ ان المشكلة بنيوية عميقة في تكوين النظام والدستور وتوزيع ادوار الحكم والسلطة، ولابد من اعادة النظر والتغيير في كل قواعد الدولة وقوانينها وطبيعة حكومتها،ووضع تحريمات صارمة لحماية حقوق الوطن والمواطن ، وتنظيم شؤون البلاد وفق برامج تسريع اعادة العراق – الوطن الى مصاف الدولة الحديثة .
* المقال مجتزأ من دراسة تبحث في ” عراق ماقبل الدولة ..”
[email protected]