22 ديسمبر، 2024 8:10 م

عراق ذو الوجهين

عراق ذو الوجهين

يواصل التحالف العربي قصفه الجوي والبحر لمعاقل حركة أنصار الله الحوثية والقوات العسكرية الموالية للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح بالتزامن مع ما أثارته تلك الضربات (وماترتب عليها من اعادة طرح موضوع تشكيل قوة عربية مشتركة) من عاصفة سياسية في العراق المتخبط في مستنقع الطائفية ، حيث اختلفت مواقف الكتل السياسية بين من رأها كمؤشر على عودة مفهوم التضامن العربي في مواجهة الأخطار الخارجية وفي مقدمتها المشروع الايراني وبين من اعتبرها عدوانا صريحا على الشعب اليمني بل وصل الأمر الى النزول الميداني لقلب بغداد والتظاهر احتجاجا على الحرب من قبل بعض فصائل الحشد الشعبي والتي عبر بعضها عن استعداده للذهاب للقتال في اليمن !!!

هذا النوع من الخلاف السياسي البرلماني الداخلي هو أمر اعتيادي وبديهي في أغلب الدول ولعل أقرب الأمثلة عليه الخلاف القائم بين الجمهوريين والديموقراطيين في الولايات المتحدة حول الاتفاق النووي مع ايران ومن الطبيعي أن يتعاطف الانسان مع بني جلدته عرقا أو دينا أو مذهبا ولا ضير في ذلك ، لكن الاستثناء يكمن في انعكاس هذا الخلاف الداخلي على المستوى الخارجي كماهو واضح في تصريحات كبار المسئولين العراقيين بخصوص التطورات الأخيرة ليظهر العراق متخبطا غير قادر على حسم أمره وظهر جليا في القمة العربية الأخيرة التي أستبقها الرئيس معصوم باعلان دعم العراق لمشروع القوة العربية المشتركة واستعداد بغداد للمشاركة فيها قبل أن يعلن الوفد العراقي تحفظه على بند تشكيلها على لسان وزير الخارجية ابراهيم الجعفري ، وأمتدت التناقضات الى عملية عاصفة الحزم ففي الوقت الذي عبر فيه العراق رسميا عن قلقه من تداعياتها ورفض العمل العسكري داعيا لاعتماد الحوار أساسا لحل الأزمة كان النائب الثاني لرئيس الجمهورية السيد أسامة النجيفي يتحدث في عمان عن دعمه لضرب الحوثيين ، مخالفا بذلك بيان وزارة الخارجية العراقية الذي أتسم بالاعتدال والموضوعية !!!

الموقف العراقي المتعدد الأوجه لم يكن هو الأول من نوعه فقد سبقه ذات الجدل حول الحرب السورية والتي وقف فيها رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي مع النظام السوري وتحفظ على تعليق عضوية دمشق في جامعة الدول العربية ورفض التدخل العسكري وتسليح المعارضة السورية بل وصل الأمر الى ذهاب مجموعات عراقية شيعية للقتال هناك و تسهيل مرور السلاح والعتاد الايراني عبر الأجواء العراقية دعما للنظام الذي كان قبل سنوات قليلة أحد أكبر داعمي الارهاب في العراق بحسب السيد المالكي نفسه بل تعدى ذلك لسحب السفير العراقي من دمشق (والتي ردت بخطوة مماثلة) عام 2009 !!! في الوقت الذي كان فيه السيد مسعود بارزاني رئيس اقليم كردستان العراق يسلح فيه المسلحين الأكراد ويدعمهم في معاركهم ضد النظام السوري خلافا لموقف الحكومة الاتحادية في بغداد !!

ان مثل هذه التناقضات الجوهرية تطرح أسئلة مهمة منها هل تكون ارادة الدولة هي العليا أم ارادة الكتل السياسية والجماعات المسلحة ؟ وهل تعتبر المصلحة الوطنية الجامعة هي الأساس في اتخاذ القرار أم تكون الغلبة لصالح مصلحة الطائفة والعرق ؟ وكيف يمكن أن نتخذ قرارا سياسيا موحدا في الصراعات الاقليمية ذات البعد الطائفي بشكل يراعي مصالحنا ويناسب خصوصيتنا ؟

تتنوع تركيبة العراق السكانية دينيا واثنيا ومذهبيا حيث كان من المفترض تكامل هذا الفسيفساء بصورة جمالية تغني الثقافة العراقية وتعزز مفهوم المواطنة وتكون زخما حقيقيا لبناء دولة المؤسسات لكنها تحولت لسبب رئيسي للتناحر والخلاف والصراع اللامنتهي على السلطة غير ان دول أخرى تمكنت من وضع معايير تعمل بموجبها ومبادئ تؤمن بها واستراتيجيات تعمل على تحقيقها تمكنها من التعامل مع القضايا الاقليمية الحساسة لدواعي مذهبية أو جغرافية ، فقد أقرت سلطنة عمان (ذات الغالبية الاباضية) أحدى دول مجلس التعاون الخليجي وصاحبة العلاقات الوطيدة مع ايران وأمريكا في آن واحد مبدأ عدم التدخل بشئون الغير وعلى أساسه أتخذت قرارها بعدم المشاركة بتحالف عاصمة الحزم رغم تأكيدها على دعم شرعية الرئيس هادي بينما كان منع الدستور الجزائري للقوات المسلحة من القتال خارج الوطن مبررا كافيا لرفض الجزائر المشاركة في عاصفة الحزم والتدخل العسكري في ليبيا وسوريا في الوقت الذي يتبع فيه لبنان سياسة النأي بالنفس عن مجريات الأحداث ذات البعد الطائفي في اليمن وسوريا رغم ضرب حزب الله ومجموعات سلفية لبنانية لهذه السياسة بعرض الحائط بانخراطهم في الصراع السوري ، بل ان وجود معايير محددة ومبادئ واضحة لاغنى عنها حتى للدول المتصارعة فايران والتي تتبنى مبدأ تصدير الثورة ترى ان مصلحتها تكمن في دعم التيارات الشيعية في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين فيما ترى السعودية من منطلق تزعمها للعالم الاسلامي السني بضرورة دعم التيارات والحركات السنية في مواجهة المشروع الايراني ودعم العلمانيين في مواجهة الجماعات الاسلامية السنية التي يستشف منها خطر محقق على العرش السعودي كالاخوان المسلمين وتنظيم داعش .

ان تحديد هوية الدولة ووضع خطط محددة لتحقيق هدف معين على المدى البعيد هما الكفيلين بتحديد المسار اللازم لاتخاذ الموقف المناسب من أي صراع سياسي أو عسكري اقليمي وفقا للمصالح الوطنية لا الانتماءات الضيقة وفي أطار فلسفة البراغماتية التي جعلت من السعودية رأس حربة الاطاحة بالرئيس المصري الاخواني محمد مرسي وحملت ايران لبناء علاقات بناءة مع علي سالم البيض وميشيل عون ومسعود البرزاني بمعزل عن الانتماءات المذهبية .

لقد جرب العراقيون مبدأ عدم التدخل وظل حبرا على ورق طوال عقدا من الزمن في ظل التدخل العراقي في الحرب السورية والتدخل الاقليمي الواسع النطاق في الشأن العراقي والذي حول البلاد ساحة لتصفية الحسابات الخارجية والحق يقال بأن هذا المبدأ ليس مناسبا لبلد بامكانيات العراق وفي منطقة تنتج خمس الانتاج العالمي من الطاقة وتنتشر فيها القواعد العسكرية الغربية وتقف على أبوابها دول متربصة مثل اسرائيل وتركيا وايران وهم اليوم مطالبين (أي العراقيين) بتحديد هوية دولتهم أولا فلم يعد العراق تلك الدولة القومية التي كانت قبل الغزو الامريكي ولسنا دستوريا دولة اسلامية شيعية تعتنق نظرية ولاية الفقيه كايران ولم نصل حقا لوصف الدولة المدنية مثل مصر وقطعا نحن لانقف أمام دولة علمانية تفصل الدين عن الدولة مثل تركيا ولا حتى نظام اسلامي سني يعتمد مذهب الامام أحمد بن حنبل رسميا كالسعودية (وفقا لأهداف بعض الجماعات المسلحة) بل نحن مزيج غامض يجب فك طلاسمه وتبيان ملامحه ، وانتهاج المهنية والعصرية في مؤسسات الدولة ومحاربة الفساد ثانيا ، واعادة بناء الذات العراقية المحطمة بمعالجة الأثار السلبية للحروب والطائفية والارهاب والاحتلال والديكتاتورية ثالثا ، والتأكيد على اللحمة الوطنية وهو مايقتضي الابتعاد عن المحاور الاقليمية والنأي بالنفس عن صراعات المنطقة الساخنة وحروب أقطابها الباردة ( والتي غالبا ماتدار بالوكالة ) والسعي لتوحيد العراقيين على قاعدة الدولة المدنية وتحت شعار “العراق أولا” رابعا ، حينها ستكون قراراتنا صائبة ونابعة من مصالحنا الوطنية ومبنية على أسس موضوعية في المرحلة الأولى ثم وضع الخطط الطويلة الأمد لتحقيق مانصبوا اليه سياسيا وعسكريا واقتصاديا وعلميا في المرحلة الثانية وهو مايتطلب تواجد رجال دولة في سدة السلطة لا أمراء طوائف.