لقد تحمل العراقيون خلال الخمسين سنة الماضية أعباء مواجهة واحد من أعتى أنظمة الاستبداد، ناهيك عن تبعات حروبه المشبوهة التي قادت عموم المنطقة إلى التصادم والتمزق، إذ انتهى الأمر بالاحتلال الأمريكي للعراق تحت شعار (سنجعل العراق منارة الديمقراطية في الشرق) حسب جورج بوش!! وبعد الأثمان الباهظة لسنوات الحرب والاحتلال والارهاب، ماذا كانت النتيجة؟
يقف العراق الآن على مفترق طرق، إذ تعمل حكومة المالكي بطريقة لا تثير إطمئنان غالبية العراقيين المتضررين من هيمنة الأحزاب الدينية عموماً وحزب الدعوة خصوصاً، على الدولة. وما يردده المالكي وقادة حزابه من إن الحكومة الحالية هي حكومة شرعية ومُنتخَبة ديمقراطياً، هو أمر صحيح شكلياً، أما من ناحية الجوهر فهو مصدر تساؤل وشكوك، وإلا كيف يجتمع الفساد المالي والسياسي مع الشرعية في نظام واحد؟! كيف تم تبديد أكثر من 600 مليار دولار دون أن يحظى العراقيون ببنى تحتية تليق ببلدهم؟
لقد انتخبك المواطنون لتحقيق العدالة وليس لنهب البلد! فكيف تكون حاكماً شرعياً ولص دولة في الوقت عينه؟! وفي علم السياسة لا يوجد مبدأ إسمه الديمقراطية من أجل الديمقراطية على غرار الفن من أجل الفن، بل إن الشعوب تختار الديمقراطية من أجل مضمونها الاجتماعية وهو تحقيق العدالة وضمان الحريات وتكافؤ الفرص، وكل هذا ليس غائباً فقط، بل ما هو موجود هو العكس تماماً، لذلك تدهور التعليم العالي والمهني وازدادت معدلات البطالة بينما أصبحت الصناعة والزراعة شبه ميتة لترتفع معدلات التجارة الخارجية لدرجات غير مسبوقة في تاريخ الاقتصاد العراقي، والسبب هو إن قادة الحكومة والأحزاب المتنفذة هم أنفسهم من يدير عمليات التجارة الخارجية التي تدر عليهم أرباحاً سنوية تُقدر بعشرات مليارات الدولارات!!
لقد أماتوا الصناعة والزراعة لترتفع باستمرار أرباحهم من التجارة الخارجية!! وهكذا ارتفعت وتيرة الفساد دون أن يُحاسَب المفسدون الكبار! بل تتم التغطية على مليارات الدولارات المفقودة من ميزانية الدولة في كل عام حيث تُقر الموازنة من دون حسابات ختامية لموازنة العام الماضي!! وهذا أمر لا يمكن حدوثه في أية دولة ديمقرطية لو كانت هناك سلطة قانون فعلاً !!
هذا يعني إننا أمام حكومة فاسدة ولا يمكن أن يجتمع الفساد والشرعية في حكومة واحدة لأن هذا ينقض ذاك. وإذا كان الحديث يدور منذ سنوات عن فضيحة إختفاء خمسين مليار دولار، فإن النهب المنظم للمال العام من قبل قادة الأحزاب المتنفذة جعل العراق بيد طبقة سياسية تريد الهيمنة على السلطة والثروة معاً، وفقاً لنصيحة أمريكية قُدمت للمالكي بعد انتخابات 2005 حسب مصادر مطلعة. وهذا ما أدى إلى إجهاض النظام الديمقراطي من داخله!!
ومقابل ذلك هناك من يشير إلى تراكم عوامل الثورة الشعبية التي يُرجح إنفجارها في أية لحظة، خصوصاً إذا تشبث المالكي بالتسلط على الجهاز الحكومي مرّة ثالثة بعد انتخابات نيسان (أبريل) القادم، لأن المجتمع العراقي لم يعد يحتمل مزيداً من الفساد وضياع الحقوق ناهيك عن عواقب الانفلات الأمني حيث يُقتل ويجرح آلاف الأبرياء شهرياً دون أن يُحاسب أحد من المسؤولين السياسيين أو الأمنيين!
ورغم نضوج عوامل الثورة الشعبية نجد من لا يزال يدعو إلى إمكانية تطوير النظام الديمقراطي من داخله، وذلك من خلال المزيد من تسليط الضوء على السلبيات وجعل النقد السياسي يمتاز بالجرأة والصراحة داعياً إلى رفع الوتيرة المطلبية والعودة لمظاهرات الاحتجاج السلمية.
إن الدعوة للاصلاح ليست خطأً، ولكن أي مشروع للإصلاح السياسي لا بد أن يقترن بفتح آفاق واقعية لتطوير الثقافة الحقوقية للمجتمع السياسي داخل الدولة وخارجها، وإعادة تعريف وفهم المجتمع المدني ودوره في تطوير الحياة الديمقراطية، ولكن كيف ؟!
يجب أن يكون لدينا إطار قانوني لتحقيق الإصلاح وهذا ما ترفضه الاحزاب المتنفذة والتي تشكل قوام البرلمان، فقد عوّق ممثلو هذه الأحزاب الشيعية والسنية والكردية أقرار (قانون الأحزاب السياسية) لأن قانوناً كهذا في ظل نظام ديمقراطي لا يمكن أن يسمح بوجود أحزاب طائفية أو قومية خصوصاً وانها مرتبطة بمصالح قوى إقليمية ودولية عملت باستمرار على تفتيت وحدة العراق والعراقيين.
إن التحليل السياسي لا علاقة له بالتنجيم أو الأمنيات، بل يجب طرح اشكاليات الواقع كما هي كي نرى ما الذي يمكن أن يحدث لاحقاً. بعد انتخابات 2010 تشكلت حكومة توافقية بين جميع الأحزاب الفائزة. وبعد مرور سنة لاحظت الأطراف الأخرى تفرد نوري المالكي بالحكم وتصاعد معدلات الفساد إلى جانب انعدام الخدمات، فاتفقت، ولكلٍّ أسبابه، على سحب الثقة من المالكي وبالفعل أكتملت الاجراءت القانونية داخل البرلمان لسحب الثقة ولكن فجأة انفرط عقد هذه القوى وأصبح مشروع سحب الثقة في خبر كان!!
ولم يستطع أحد معرفة حقيقة ما جرى بوضوح إلا بعد أكثر من سنة حيث أوضح السياسي المعروف أحمد الجلبي لفضائية (البغدادية) قبل شهور، أنه عندما زار، مع عدد من السياسيين، الرئيس جلال طالباني، حيث أُثير موضوع تعطيل سحب الثقة، قال طالباني (الإجراءات كانت ستنتهي بسحب الثقة عن المالكي لكنني فوجئت بأتصال من قاسم سليماني –رجل المخابرات الايراني المعروف- إذ قال لي إننا نريد بقاء نوري المالكي رئيساً للوزراء) لذلك تعطلت أجراءات سحب الثقة رغم قانونيتها! وهكذا نجد إن الشرعية في العراق ليست للقوانين ولكن لأوامر الإيراني مرة والأمريكي مرة!
إننا نعيش مقلباً تاريخياً بالمعنى الخطير للكلمة، لأن تعقيدات كهذه ليست وليدة اليوم ولذلك ليس من السهولة الحديث عن بديل وطني ديمقراطي، فهذا البديل يتبلور عادةً عبر عشرات السنين بينما كانت الخمسين سنة الماضية تؤدي إلى نتائج عكسية، فقد تمكن نظام البعث (1968 – 2003) من تصفية المجتمع السياسي العراقي بمختلف تلاوينه لكي يقضي على المعارضين ويحول دون وجود أي بديل قد يشجع الجهات الخارجية التي أتت به إلى الحكم، على التفكير بتغييره، وبعد كل الحروب والخراب الذي حصل، وجد الأمريكان والإيرانيون الذين ألتقت مصالحهم في نقطة تحطيم العراق دولة وشعباً، وجدوا احتياطياً سياسياً يتمثل بأحزاب يقودها جهلة شرهين لا يميزون بين الكذب وبين الذكاء، أو بين المهانة للأجنبي وبين شروط اللعبة السياسية، وقد دلّت وقائع السنوات الماضية على جهلهم بعلم السياسية ومفاهيم إدارة الدولة بالمعنى الحرفي لكلمة جهل.
وكمثال: قبل سنوات كان ابراهيم الجعفري (رئيس الوزراء السابق ورئيس أكبر كتلة نيابية راهناً) يلقي كلمة في جمع من أنصاره، حيث كان اللغط ما يزال مستمراً حول النظام العلماني، فقال الجعفري يبرر ذلك ( .. والعلمانية مشتقة من العلم فكيف نرفضها ..) أي إن الرجل لا يميز بين العلمية scientism وبين العلمانية secularism !!
ومثال آخر: انتشرت عبارة (منظمات المجتمع المدني) بعد 2003 بشكل واسع، إذ اقترن ذلك بتكاثر الجمعيات الخيرية ومنظمات حقوق الإنسان آنذاك، ولأن تلك المنظمات تتلقى مساعدات مالية من دول غربية وإقليمية ليست دوافعها سليمة دائماً، فقد أثارت أحياناً لغطاً وتشكيكاً، فوجدنا مثقفين يدافعون عن سمعة إتحاد الأدباء أو نقابة الصحفيين بالقول (نحن نقابة مهنية ولسنا منظمة مجتمع مدني)! وهنا نلاحظ التباساً وسوء الفهم، فلو عدنا إلى أي مَرجع أكاديمي حول مفهوم المجتمع المدني، لوجدنا إن التعريف المُتفق عليه هو إن منظمات المجتمع المدني هي جميع المنظمات غير الحكومية التي يتم الانتماء إليها تطوعاً، والتي تَعمل كوسيط بين المواطن وبين الدولة للدفاع عن حقوقه المدنية والسياسية وتخفيف قبضة الدولة عليه، وتشمل منظمات المجتمع المدني الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والنوادي الاجتماعية وكذلك الجمعيات الخيرية ومنظمات حقوق الإنسان، أي غالبية المنظمات الأهلية على مختلف اهتماماتها.
وحدث في اجتماع عقده رئيس الوزراء بعد إنتهاء (فترة المائة يوم) التي طلبها لتحسين إداء الحكومة بعد مظاهرات 2011، ودار الحديث بين المالكي وعلي الدباغ (الناطق باسم الحكومة) وصفاء الدين الصافي (وزير الدولة لشؤون البرلمان) حول بعض النقابات المهنية، وبدا إن الصورة غير واضحة عند المالكي حول النقطة المُثارة، فردَّ عليه الدباغ قائلاً (دولة الرئيس هذه نقابات مهنية وليست منظمات مجتمع مدني) فقام الصافي بتكرار العبارة نفسها فهزَّ المالكي رأسه علامة على تفهمه الأمر! وهذا يعني إن الهيئة العليا في الحكومة العراقية لا تعرف إن النقابات المهنية هي جزء من المجتمع المدني!! ولو أوردنا أمثلة أخرى لتأكدنا أن سياسيي ما بعد 2003 لا يملكون تصورات علمية عن أهم المصطلحات والمفردات المُتعلقة بإدارة الدولة!!
هذه هي نتائج المقلب التاريخي الخطير الذي تعرض له المجتمع العراقي جراء انقلابات الستينات ولم تفهمه الأحزاب الدينية لحد الآن، ولن تستطيع فهمه لاحقاً لأنها، كما أثبتت الوقائع وجه آخر لتلك الأحزاب الانقلابية التي أرهقت العراق دولةً وشعباً بصراعات عدمية متخلفة، وها هي الاحزاب الدينية تواصل نفس النهج في تكريس التخلف الحضاري عبر تزييف النظام الديمقراطي من داخله حيث الجهل يوفر أفضل المناخات لإعادة إنتاج الاستبداد.