23 ديسمبر، 2024 10:16 ص

عراق السيسي أم عراق الحوثي

عراق السيسي أم عراق الحوثي

شكل الغزو الامريكي للعراق عام 2003 وانتفاضات الربيع العربي عام 2011 الزلزال السياسي والاجتماعي الأعنف الذي هز العالم العربي مطلع القرن 21 حيث سقطت أنظمة قومية شمولية وأنتهى معها عصر الدولة المركزية البوليسية ليحل محلها دولة الطوائف وفق مبدأ اعادة توزيع السلطة والثروة في المجتمع من خلال أفكار اللامركزية والفيدرالية ودعوات تقرير المصير وتكريس ثقافة المكونات وهو ما أدى الى نشوء الصراع بينها رافق ذلك ذيوع صيت الأفكار المطالبة بحقوق الانسان والأقليات واتساع نطاق الدعوات المنادية بالمزيد من الحرية والديموقراطية وهو مانتج عنه دول فاشلة تقودها حكومات ضعيفة سياسيا وتعاني من شرخ اجتماعي وانهيار أمني وأقتصاد متهاوي نتيجة تراجع معدلات النمو واقبال المستثمرين وأرتفاع نسبة البطالة والفقر بشكل يهدد وجود الدولة ومصير شعبها ، قبل أن تقوم أطراف محلية وفي غمرة الصراع باستغلال الأوضاع الداخلية المضطربة بمحاولة قلب الطاولة على الجميع وفرض سياسة الأمر الواقع أو مايعرف بمصطلح (الثورة المضادة) كما حصل في مصر في 30 يونيو 2013 واليمن في 21 سبتمبر 2014 ، فقد أضطر الجيش المصري وهو لاعب رئيسي في المشهد السياسي منذ ثورة يوليو 1952 الى التدخل ومساندة حركة الأحتجاج الشعبي المتصاعدة لانهاء حكم الاخوان المسلمين ومعها ثورة 25 يناير منهيا حالة من الفوضى والاضطرابات سادت الشارع المصري طوال 3 سنوات حاول فيها الاخوان خلال عامهم الأول والأخير في الحكم طمس معالم الهوية الوطنية المصرية ووضع أسس أخونة الدولة عبر اقصاء كل صوت معارض ولو كان من شركاء الثورة والنضال ضد نظام مبارك وهو ماتسبب بزيادة حالة الاحتقان السياسي وتصاعد مؤشرات قرب اندلاع الحرب الأهلية قبل أن يكون للعسكر كلمة الفصل .

أما في اليمن فقد كانت أخطاء المبادرة الخليجية والمتمثلة بمنح الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح الحصانة مع ابقاءه داخل البلاد وعدم شمول الحركة الحوثية والحراك الجنوبي ضمن اتفاق التسوية السياسية كفيلتين بايصال الوضع اليمني الى ماهو عليه اليوم ، فقد تجاهلت المبادرة القوة المتنامية لحركة أنصار الله الحوثية في الشارع اليمني وهي مامكنتها بالتعاون مع الرغبة الانتقامية لدى صالح ورجاله من قلب الطاولة على الرئيس عبدربه منصور هادي وحكومة الوفاق الوطني بالسيطرة على صنعاء في 21 سبتمبر 2014 وفرض سياسة الأمر الواقع بمحاصرة دار الرئاسة ورئيسي الجمهورية والوزراء في 19 يناير 2015 واختطاف مدير مكتب الرئيس واتخاذ الاجراءات الأحادية الجانب بالاعلان الدستوري و تشكيل اللجنة الثورية العليا لادارة شئون البلاد خلال المرحلة الأنتقالية في 6 فبراير 2015.

في العراق أطاح الاحتلال الأمريكي بالنظام العراقي السابق وحل معه مؤسسات الدولة السياسية والأمنية وعلى رأسها الجيش متسببا بحالة من الفراغ الأمني الذي سرعان مااستغلته الجماعات والميليشيات المسلحة والتي استفادت من ألية المحاصصة الطائفية التي بنيت عليها العملية السياسية وانتشار الفساد بكل مفاصل الدولة التي لم يتم بناء مؤسساتها السياسية وأجهزتها الأمنية بشكل وطني وأسلوب مهني لتعزز من وجودها وهيمنتها على الشارع لتكون الحصيلة هي نكسة حزيران 2014 التي سقطت فيها ثلث الأراضي العراقية وفي مقدمتها مدينة الموصل ثاني أكبر المدن العراقية بيد تنظيم داعش بمثابة نقطة تحول دراماتيكي في مسار الأحداث ورسالة واضحة لكلا من الولايات المتحدة وايران (الدولتان الأكثر تأثيرا في المشهد السياسي العراقي منذ عام 2003) بأن استمرار الوضع على ماهو عليه محال وان لامستقبل لهذه العملية السياسية العقيمة مع الصراع الشرس بين فرقائها على السلطة وسعي كل طرف للأستئثار بها وازاحة الأخر من طريقه رغم المحاولات الأصلاحية لحكومة الدكتور العبادي (والتي حملت مالاطاقة لأي حكومة به ويناصبها متطرفي السنة والشيعة العداء معا) والتي تتسم بالبطئ وعدم القدرة على احداث التغييرات الجذرية المطلوبة في بنية الدولة والنظام السياسي بشكل يحقق المصلحة العراقية العامة ويعزز من الجهود المبذولة لتوحيد الصف في مواجهة المتطرفين .

مع هذه الحالة المزرية تكثر الاجتهادات والأراء الساعية لاخراج العراق من أزمته السياسية العميقة مع صيرورة قناعة تامة لدى جميع الأطراف الدولية والاقليمية والمحلية انها لن تنتهي بالقضاء على داعش لأن جذورها سياسية بامتياز وهو مايدل عليه اختلاف كامل في وجهات النظر المتعلقة بادارة شؤون البلاد بين القوى السياسية الشيعية والسنية والكردية و تباين أيدلولوجيات وأهداف القوى المسلحة الفاعلة على الساحة العراقية والتي لايجمعها شيء سوى معاداة داعش ، حيث يسعى الجيش العراقي لاستعادة هيبته المفقودة بعد نكسة الموصل من خلال اعادة بناء وتشكيل وحداته وترميم عقيدته الوطنية والتهيؤ للمعركة الكبرى لاستعادة المدينة ، بينما تقاتل قوات الحشد الشعبي بدافع مذهبي لغرض الاعتراف بها كقوة مؤثرة لايستهان بها ورقم صعب في المعادلة العراقية على شاكلة حزب الله اللبناني وأنصار الله اليمنية ، في الوقت الذي تجتهد قوات

البيشمركة ذات العقيدة القومية في اعادة رسم خريطة اقليم كردستان العراق “بالدم” على حد وصف الرئيس البارزاني ، وتبقى العشائر السنية الحلقة الأضعف وهي الساعية لضمان تسليحها وتحرير أراضيها من داعش من جهة والامساك بها والسيطرة عليها من جهة أخرى .

مثل هذه الاختلافات والتناقضات ستؤدي حتما للصدام مستقبلا مع وجود مؤشر تجاذبات بين هذه القوى المسلحة في الوقت الحاضر وهو مايعني موجة عنف طائفي وعرقي جديدة .

لقد سلطت الأحداث الأخيرة في مصر واليمن الضوء وفتحت أبواب النقاش على مدى امكانية استنساخ التجربتين المصرية واليمنية واسقاطها على الواقع العراقي وهو ماتعززه معطيات ملموسة وتستعد له واشنطن وطهران فعلا من ان البلاد سائرة حتما في هذا الخيار بعد تعذر ايجاد حلول ترضي جميع الأطراف ، ففي الوقت الذي تفضل فيه دوائر صنع القرار في واشنطن انقلاب عسكري بقيادة وزارة الدفاع على الطريقة المصرية مع تردد أنباء ضبابية عن حملة منظمة لاقالة الضباط والطيارين الشيعة تحديدا من وزارة الدفاع بأوامر امريكية (مع الاقرار بضرورة عدم الابقاء على ضباط الدمج في المؤسسة العسكرية) وهو ماينبئ عن نوايا مسبقة لعمل ما حذر منه الفريق الركن المتقاعد وفيق السامرائي قبل أسبوعين ، في المقابل يرسم لنا تعليق المحلل السياسي الايراني أمير الموسوي المقرب من دوائر صنع القرار في قم وطهران (بأن العراق بحاجة لشخصية مثل عبدالملك الحوثي) عن استعداد ورغبة ايرانية مقابلة في قلب الطاولة على الجميع واستنساخ التجربة الحوثية في العراق من خلال قوات الحشد الشعبي والتي تأتي مبايعة بعض فصائلها للسيد نوري المالكي النائب الأول لرئيس الجمهورية والتحريض الممنهج في بعض وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي على اسقاط “الحكومة الأنبطاحية” في سياقها الضمني مع تكرار ذات الخطأ القاتل الوارد في الحالة اليمنية (حصانة صالح) والمتمثل باسناد منصب رسمي لرئيس الوزراء العراقي السابق وهو مايعني استمرار نفوذه في مؤسسات الدولة ومعه تأثيره على مسار الأحداث .

ومن هنا ندرك بأن خيار قلب الطاولة على الجميع بات مطروحا وبقوة لدى القوتين الفاعلتين في الملف العراقي مع وقف التنفيذ لحين الانتهاء من المعركة مع داعش وذلك لتعذر الحلول السياسية السلمية مع تشبت كل طرف بمواقفه التي يعتبرها مرتبطة بوجوده في هذا البلد ومصير أجياله القادمة ، وهنا لايفوتنا التأكيد على عدم اتضاح نتائج التجربتين المصرية واليمنية لغاية الآن فرغم تخلص المصريين من الحكم الاخواني الا ان القلق لايزال يساور الكثيرين حول مستقبل البلاد في ظل اقتصاد يعاني من ندرة الموارد وسوء ادارتها وسط أعمال عنف واضطرابات تثيرها تظاهرات الاخوان التي لم تتوقف ناهيك عن معركتها مع الارهاب التكفيري في سيناء شرقا وليبيا غربا ، كما ان المعجبين بالسيناريو الحوثي يغفلون عمدا عن مآلات الوضع اليمني المتجه على مايبدو نحو الاقتتال الأهلي والتقسيم في ظل استنفار القبائل السنية (المدعومة خليجيا) في وسط اليمن وشرقه وتلاقي مصالحها مع تنظيم القاعدة في ايقاف التمدد الحوثي في مناطقها في تكرار للتجربتين العراقية والسورية ورفض

السلطات المحلية في المحافظات الجنوبية الخضوع لسلطة الانقلاب في صنعاء وبدء العد التنازلي الحقيقي لاستعادة دولة الجنوب ، فلا الحوثي أدرك جيدا بان الوضع المحلي والأقليمي والدولي ليس كما كان قبل عام 1962 وهو غير مهيأ فعليا لتقبل فكرة حكم زيدي منفرد لليمن جاء نتيجة لانقلاب (الوسيلة المثلى للأقليات للوصول لسدة الحكم) ولا متطرفي الشيعة في العراق تعلموا درس عام 2003 وهو ان النجاح الحقيقي لا يتمثل في كيفية الوصول لسدة السلطة بقدر مايتمثل في النجاح باقامة نظام حكم وطني تعددي يرسخ الوحدة الوطنية ويسعى لتوفير الأمن والاستقرار والتنمية للشعب .

يوما بعد يوم تتسع الفجوة بين النظرتين الأمريكية والايرانية حول مستقبل العراق بشكل يغدو معه هذا البلد غير قابل للقسمة على كليهما كما كان منذ العام 2003 والأيام وحدها كفيلة بالاجابة على سؤال من يربح بلد الخاسر الوحيد فيه هو شعبه المغيب والذي يؤمن بعضه بحقه الألهي في الحكم الذي لايمكن التنازل عنه ولو اتبع سياسة الأرض المحروقة في الوقت الذي توقفت فيه عقارب الساعة وتعطلت آلة الزمن لدى بعضه الأخر عند أحداث سقيفة بني ساعدة قبل 1400 عام فقاد بذلك الوطن الى حتفه ؟؟!!