لا ريب أنّ عراق ما بعد 10 حزيران 2014, لا يشبه عراق ما قبل هذا التاريخ, إلا أنّ الإرادات متقاطعة حول ذلك العراق؛ فتذهب مجموعة لتقوية الدولة عبر التسويات والحلول الجريئة التي تحتاج لشجاعة نادرة بموازاة مواجهة عسكرية متقنة مع الإرهاب, ومجوعة ثانية كانت تمنع أي حديث سياسي قبل الحسم العسكري, وثالثة ترفض أي مواجهة مع الإرهاب إلا بعد أخذ ضمانات سياسية وشروط بات أغلبها معروفاً. بين تلك المجاميع الثلاث, برز دوراً جديداً, يبدو أنّه إنفصل عن المجموعة الثالثة, وذلك الدور لا تتبناه جهة واحدة, يرمي للتلاعب بالخريطة العراقية.
إرهاصات ما قبل المعركة..
معركة الموصل بدأت قبل موعدها بأشهر, إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار تلك الإرادات الأربعة وتأثيراتها على الواقع, فبينما القوات العراقية بجميع أصنافها, تستعيد المدن والبلدات, كان حراكاً سياسياً مكثّفاً بين أطراف كثيرة, ولعل محورها “التحالف الوطني” الذي كانت تنتمي إليه الرؤية الأولى والثانية -المعركة بموازة السياسية أو السياسية بعد المعركة- ويبدو أنّ هذا التحالف إستطاع بعد جهد كبير, أن يعيد ترتيب أوراقه ويجمّد خلافاته كشرط أساسي من شروط الإستعداد للمعركة العسكرية التي تستطيع قوى كثيرة إعاقتها, وككتلة أكبر يتحمّل “التحالف الوطني” مسؤولية كبيرة تجعله قادراً على توحيد الجهود أو تشتيتها, الأمر الذي ينعكس حتماً على القوى الوطنية الأخرى.
ومع أول علامات تغيّر سياسة التحالف الوطني, نضج الموقف السني وصار أكثر وضوحاً, لا سيما أنّ “القوى السنية” تتحمّل مسؤولية كبرى أمام جمهورها النازح, وأراضي ذلك الجمهور المغتصبة. لابدّ من الإشارة هنا إلى حقيقة مهمة, وهي تشتّت الساحة السنية وعدم تبنّيها لموقفٍ موحد, ويمكن القول أنّ تلك الظاهرة, تعد إنعكاساً حتمياً لصراع دول أخرى على إستخدام سنة العراق!.. وعندما وجدَّ السنة إرادة حقيقية في بغداد على الحوار وإدراكهم لخلفيات وأسباب مواقف الدول الداعمة, نجحت مجموعة كبيرة منهم بالتخلّص من الخارج والإنسجام مع موقف بغداد كخيار لا بديل عنه.
إنّ دلالات المشهد العراقي العربي, تشير إلى إلتقاء الأطراف في المنتصف وترجيح كفة “المعركة والحوار” التي تتبناها سياسية التحالف الوطني الجديد.
في عاصمة كورستان, توجد إرادة رابعة -عراق بخرائط مختلفة- تقوم على عوامل, كانت تحسب قوّة, منها شبه إستقلالية إقتصادية تحدّدها آبار النفط وتفاهامات مع أنقرة تضمن إستمرار التصدير والإستقواء على المركز بثمن ربما تدفعه الـ(بككه), فضلاً عن العوامل الأخرى التي تراكمت بمرور الزمن. بيد أنّ تلك العوامل أصبحت غير فاعلة بتزاحم بعض المشاكل من قبيل إنخفاض أسعار النفط, مواجهة حزب العمال مع تركيا, أزمة رئاسة الإقليم, التقاطعات الداخلية التي يتعلّق بعضها في أصل الموقف, إذ تميّزت أطراف كوردية بالإندفاع نحو المركز. التفاعلات السياسية الحاصلة في بغداد وبروز تحالف وطني جديد يُدرك كونه كتلة أكبر تتحمل مسؤولية مضاعفة, حسمت الجل الكوردي حول العلاقة مع بغداد, إذ رجّح التوائم مع المركز وتأجيل الخلافات والمضي بسياسية الأمر الواقع التي تحتّم خفض أسقف المطالب.
في ظل هذا المشهد, خسرت أنقرة حليفاً, وكسبت بغداد زخماً ستوظّفه لمعركة الموصل.أردوغان و الموقع في المعركة..!
تصريحات الرئيس التركي تفصح عن أبعاد أخرى لموقفه من الحرب العراقية ضد الإرهاب عموماً, ومن معركة الموصل تحديداً. إذ تحدّث أولاً بتصميم على دخول المعركة شاء العراق أو أبى, معتبراً ذلك حق (مقدس) بأعتباره مدافعاً عن الأرث العثماني, ثم تبدّل الموقف عندما طلب دوراً في المعركة, معلّلاً ذلك بالدفاع عن أمن بلاده القومي. والأجراء الصحيح الوحيد المعلن الذي إتخذته أنقرة؛ إرسالها وفداً للتفاوض بهذا الشأن.
من عدم الإتزان ذلك, يتّضح أنّ أحد أسباب بحث أردوغان عن دور في المعركة؛ إنما محاولة إزالة بعض آثار الخسائر التركية في سوريا, الأمر الذي جعل أردوغان يبحث عن نجاح واحد في الخارج لإثبات أحقيته بتزعّم العالم الإسلامي السني!..ثمة حقيقة لا يمكن تجاوزها؛ الحلم التركي في الموصل, والذي جعل الموازنة السنوية تخصّص لــ(ولاية الموصل) ليرة واحدة, وهذا يعني أنّ أردوغان بات متأرّجحاً بين حلم الأرض أو الزعامة الإسلامية!..آخر القلاع الأمريكية..!
التجربة السورية جعلت أمريكا تعيد حساباتها, فقطر التي ضُخمت؛ إنكشف حجمها في أول سنوات الحرب. والمشهد في المملكة العربية السعودية يثير القلق بشكل كبير, فحرب اليمن والإقتصاد والصراع في سوريا ومشاكل العائلة, فضلاً عن نسبة مؤيدي داعش في المملكة التي تبدو مرعبة.
الأمريكان لا يتعاملون إلا مع الأقوى, والمشكلة التي تواجههم في المنطقة هي أنّ الأقوى يقف في خندق آخر. ولهذا تجد أمريكا نفسها مضطرة لدعم الأتراك بغية الإبقاء على توازن الرعب, وتركيا هنا تمثّل القلعة الأمريكية الأخيرة في الشرق الأوسط, وتحديداً المنطقة العربية وما يجاورها. وهذا ما يتيح لتركيا هامشاً من الحركة والمناورة, وهي تعرف تماماً قدراتها المحدودة في حسابات معقدة, أبرزها الأصرار على إنهاء داعش والتخلّص منه في العراق. أوراق عراقية..
وإذا ما أستثنينا التأثير الإقليمي والدولي في العراق عموماً, ومعركة الموصل خصوصاً؛ فالعراق يمتلك أوراقاً مهمة تجعله مالكاً للقرار في تحديد من يشترك في المعركة, وتوقيتاتها وكيفية الحسم, ولعل أبرز عناصر قوّة العراق, الثلاثي العسكري (جيش وشرطة, حشد شعبي يضم عشائر سنية, بيشمركة أعلنت ولائها للدولة) وهذا الثلاثي يمتلك خبرة كبيرة في الميدان تجعله قادراً على حسم المعركة سريعاً. والعامل الثاني, التفاهم السياسي الذي جاء بعد صراع طويل, أثبت رؤية “الحل الشامل”. ثمة عامل مستجدّ, وهو الرغبة الجماهيرية في المناطق المحتلة للتخلّص من داعش.
إنّ تفاعلات عناصر القوة العراقية لا تضمن بالضرورة الحسم العسكري السريع, غير أنّها تعكس قراراً عراقياً يُثبّت وحدة العراق بجغرافيته المعروفة ونظامه السياسي القائم, فقط تستدعي بعض النصوص الدستورية لإعطاء صلاحيات واسعة للمحافظات. وبمعنى أدق, سيناريو الفيدراليات الطائفية أصبح من الماضي, والعراق يمضي بنسقه المعروف على الأقل لسنوات قادمة.معركة الموصل محسومة لصالح العراق, وبعض الأطراف تحاول الإستفادة من النصر, لتُثبت أبوتها!..غير أنّ الموصل تنتظر صراعاً إجتماعياً ستعمل أطراف خارجية على تغذيته, وهذا ما يجب الإستعداد له وإدامة الحوار وصولاً لتسوية تاريخية تدّعم إنجازات الميدان.