كَانَ يَستهويني الجلوس على دَكة جامع السيد عباس شُبَر, في محلة السَيمَر, بمحافظة البصرة, كنت اذهب مع أبي كل مغربيه, ليؤدي فريضة المغرب والعشاء بهذا الجامع, أنا لم أكن اصلي في حينها, فلم أكمل الخامسة من عمري, ولكن كانت الصلاة تدور بمخيلتي كدوران الأرض حول نفسها, مع فارق العمر بيننا.
أجلس هادئاً كعادتي انتظر فراغ ابي من اسقاط واجبه العبادي, وفي تلك الاثناء كنت الهو مع دكة الجامع التي كانت مائلة ومرتفعة قليلاً مثل( السرسيحة ), وفي أحد الايام مَرّ بالقرب مني جارنا الذي يكبرني بثلاث سنين تقريباً, قال لي هل تذهب معي لنشتري “شيخ سملة” من الدكان الذي يقع بناصية الشارع, وجدت العرض مغرياً فلم استطع مقاومة ” الشيخ سملة” وطريقة تناوله الظريفة, ذهبت معه ونسيت وصية ابي بعدم مبارحة المكان مطلقاً, اشترينا ” الشيخ سملة” ورجعنا الى الجامع فإذا هو مغلق لانتهاء وقت الصلاة..
ذهب الناس لمنازلهم فانبت نفسي وشعرت بالخوف, قال لي جاري لم الخوف لنذهب للبيت فأبوك قد ذهب الى البيت أيضا حين وصلت الى البيت طرقت ألباب.. فتحت لي والدتي الباب وهي ترتجف على غير عادتها, وتخاطبني (اين كنت كل هذه الفترة)..!, ما ان بدأت اجيبها حتى شعرت بحرارة كف ابي على خدي, وهو غاضب وعيناه تقدح شراراُ, حاولت امي حمايتي دون جدوى, أبي يريد ضربي “بالصوندة”, وأمي تحاول منعه, كان لدينا حديقة تتوسط فناء الدار, فرحت اركض هارباً من ابي وهو يلاحقني, عله يغير رأيه ويعدل عن ضربي..
في النهاية تمكن من الامساك بي واخرج السيكارة لـــ”يجويني” بها, قالت له امي ألا يكفي الضرب دعه, قال لها والدي لايمكن ذلك لقد حلفت ان”اجويه” بيده, وفعلاً جواني بيدي( وكال حتى تبقى ذكرى ومتعيدهه بعد وتروح من غير ما تستأذن ) ادركت حينها اني ارتكبت خطأ كبيراً بمخالفة اوامر ابي.
لم يمض عام حتى غادرنا أبي, مظلوماً شهيداً؛ احببت اثر تلك”الجوية” أقبلها كلما اشتقت إليه, ذهب أبي بجسده فقط, ولكنه خلف لنا منهجاً وميراثاً كبيراً من القيم الانسانية وصفاء القلب, سرنا على خطاه قدر المستطاع, بطبيعة الحال كان حازماً شديداً, وبنفس الوقت يمتلك من الدعابة والمرح ما يغطي به بلدي, ذهب مع من ذهب من ابناء البلد النجباء دفاعاً عن العقيدة والحرية, رافضاً أي صورة من صور الظلم والمهانة.
كان هو وأمثاله من خيرة أبناء العراق اللذين ضحوا بأنفسهم من أجل هذا الشعب والوطن, فلم تكن تلك الدماء لتعطى من أجل ان يتخلف الشعب, ويرجع عدة سنين الى الوراء, او من أجل صناعة دكتاتوريات معاصرة تقتات على امتصاص دماء الفرد شيئاً فشيئا, لن يعود الزمن باجترار حالة الماضي من جديد, ولكن تبقى الحكومة الجديدة افضل من السابقة, رغم التفجيرات والموت شبه اليومي, الا ان ذوي الشهداء والمظلومين يعرفون جيداً مكان وزمان موتاهم, ويحافظون على طقس زيارتهم, وعمل ذكرى سنوية لهم, أما انا فسأظل اجتر أحلام الصبا باحثاً في عالم البرزخ عن مكان وزمان استشهاد والدي.
لله دَرُكَ يا بلدي اشتاقَ لك ابناؤك ففتحت ذراع المنايا لهم, واشْتَقتَ لِمنْ ابعدتهُ عنك سنوات الغربة والحرمان, ونكل بك البعض تنكيلا, ولكنني مازلت اهرب من صنوف التنكيل اليومي في بلدي, الى القُبلة التي اضعها على مكان (جوية أبي)…!!