وصل نصرت الاعظمي الى موسكو في العام الدراسي 1959/1960 , وبعد دراسة اللغة الروسيّة لمدة سنة دراسيّة كاملة في الكليّة التحضيرية التحق في معهد بليخانوف الاقتصادي(اصبح هذا المعهد الان جامعة بليخانوف الروسيّة الاقتصادية), وتخرج هناك وحصل على شهادة الماجستير في العلوم الاقتصادية, بعد خمس سنوات من الدراسة . كان نصرت يعرف ان العراق لا يعترف بشهادة الماجستير السوفيتية هذه آنذاك , ولهذا سافر الى انكلترا واستطاع ان يحصل هناك على وثيقة انكليزية تعادل شهادته بالماجستير , وهكذا عاد الى العراق وتم تعينه تدريسيّا في الجامعة المستنصرية . وتشاء الصدفة ان يكون سمير عبد الوهاب الشيخلي طالبا لديه في الكلية . كان نصرت الاعظمي انسانا مرحا ومحبا للنكتة , ومرّة , عندما كان يجري عملية تدقيق حضور الطلبة ونادى اسم سمير الشيخلي , أجاب الطالب سمير بكلمة – نعم كما هو معتاد , نظر نصرت اليه وقال مازحا – ( انت شكل سمير؟ كان على اهلك ان يطلقوا عليك اسم عبود). ضحك الجميع طبعا على هذا التعليق, اذ ان شكل سمير الشيخلي كان ينسجم فعلا مع هذا التعليق القاسي ( يجب القول هنا ان هذا التعليق غير تربوي وغير لائق من جانب اي تدريسي , وقد شعر نصرت رأسا بالخطأ الذي ارتكبه , ولكن سبق السيف العذل كما يقول المثل) .
مرّت الايام والاعوام , ورجع حزب البعث الى السلطة عام 1968 واصبح سمير الشيخلي كما هو معروف وزيرا للتعليم العالي في تلك الفترة , وحدث مرّة ان زار الجامعة المستنصرية , واستقبله بالطبع رئيس الجامعة والعمداء , واثناء هذه الزيارة سأل الشيخلي عن نصرت الاعظمي وهل لازال تدريسيا في الجامعة, وأجابوه – نعم هو موجود عندنا , فطلب ان يستدعوه للحضور امامه. لم يكن رئيس الجامعة او العمداء يعرفون بالطبع سبب هذا الاستدعاء , وظنوا ان الوزير ربما يعرفه , أما نصرت فقد فهم سبب الاستدعاء طبعا , و( مات من الخوف !) كما أخبرنا بعدئذ, اذ انه ظن ان الوزير سيحاسبه على ذلك الحدث حسابا عسيرا , و لكن لم يكن امامه الا ان يذهب الى رئاسة الجامعة حيث يجلس الوزير, اذ لم يكن هناك اي مخرج آخر. عندما دخل نصرت الى القاعة , ضحك الشيخلي رأسا وقال – هذا هو الشخص الوحيد الذي حدد بأني ابن الشعب , وحكى للجميع قصة نصرت حول اسمه عندما كان طالبا لديه وهو يضحك , وضحك الجميع طبعا , وتبدد خوف نصرت ورعبه وساهم بالضحك مع الآخرين . قال الشيخلي لنصرت – ( انا الان وزير التعليم العالي فهل لديك اي طلب من الوزارة كي ارد لك ما قدمته لي من فضل ؟) , فقال له نصرت, متشجعا وسط هذه الاجواء الضاحكة – أتمنى أن أرجع الى موسكو ملحقا ثقافيّا للعراق , ففي موسكو قضيت مرحلة شبابي , فقال له الشيخلي – قدّم طلبا الى الوزارة بذلك وساوافق عليه حسب التعليمات المتبعة , اذ انك تمتلك المؤهلات المطلوبة فعلا لهذا المنصب الرفيع.
وهكذا تقدّم نصرت الاعظمي بعريضة الى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي يطلب فيها تعيينه ملحقا ثقافيا بموسكو , واحيلت تلك العريضة الى الوزير طبعا , ووافق عليها , وكان على نصرت ان يؤدي امتحانا – حسب التعليمات – في مادة اللغة الروسيّة بقسم اللغة الروسيّة بجامعة بغداد. استلم القسم الامر الاداري بذلك , وتم تأليف لجنة خاصة لاجراء الامتحان المذكور , وكنت أنا أحد أعضاء تلك اللجنة , ووضعنا الاسئلة حسب التعليمات دون ان نعرف اسم الشخص الممتحن ولا حتى موعد الامتحان , وعندما وصلت الاجابة , تبين ان الممتحن قد نسي تماما في الواقع معرفته السابقة للغة الروسيّة , وهكذا رسب في ذلك الامتحان.
زارنا نصرت بعدئذ , وتذكرنا أيام الدراسة في روسيا , وكان من الواضح انه قد نسى اللغة الروسية لأنه ابتعد عنها سنوات طويلة و كثيرة وتركها واقعيا , وقلنا له ان القسم مستعد لتدريسه من جديد , فتقدم بطلب الى وزارة التعليم العالي للسماح له باداء الامتحان مرة اخرى , وقد تم كل ذلك فعلا , الا ان النتيجة كانت سلبية ايضا رغم كل عواطفنا معه, وقد ترك نصرت محاولة تعيينه بعد ذلك , لانه فهم ان اعادة دراسة اللغة بهذه المرحلة من العمر مسألة صعبة جدا , ولم يشأ ان يعود الى الوزير و يطلب استثناء منه لتعيينه بغض النظر عن نتيجة امتحان اللغة الروسيّة.
رحم الله نصرت الاعظمي , الذي انتقل للعمل في احدى جامعات كردستان العراق عندها وتوفي ودفن هناك.
من كتاب – ( عراقيون مرّوا بموسكو ) , الذي سيصدر قريبا في بغداد عن دار نوّار للنشر.