الدكتور بشيرغالب الناشئ واحد من أعمدة العراقيين المقيمين في موسكو منذ أكثر من خمسين سنة , وهو يتميّز باناقته وضخامته وحركته البطيئة وثقته العالية بنفسه و ابتسامته الدائمة وعصاته التي يتوكأ عليها (والتي لا يهشّ بها على غنمه , ولكن من المؤكد ان له فيها مآرب اخرى , اذ انها تضفي عليه الهيبة والوقار ! ) . التقيته ( من غير ميعاد كما تقول وحيدة خليل في اغنيتها العراقية الشهيرة ) , و دردشنا طويلا , وها انا ذا اقدّم ( محضرا وجيزا !!!) لهذه الدردشة الجميلة, لاني أرى فيها جوانب طريفة (وربما مهمة ايضا) للقارئ المهتم بتاريخ العلاقات العراقية الروسية بين الشعبين بالذات, وبالتالي فانها تستحق التوقف عندها , وهي جوانب تنسجم وتتناغم مع اهداف سلسلة مقالاتي حول العراقيين الذين مرّوا بموسكو .
درسنا اللغة الروسية ( هو وانا) في العام الدراسي 1959 / 1960 في الكلية التحضيرية للاجانب في جامعة موسكو , الا انه وصل الى موسكو بتاريخ 10 /10 /1959 , اي يمكن القول انه من اوائل الاوائل بين الطلبة العراقيين آنذاك , اذ وصلت وجبتنا الكبيرة ( خمسون طالبا في طائرة واحدة من بغداد) بتاريخ 29 / 10 / 1959 , حيث كان اثنان من وجبته ضمن من استقبلونا حينئذ , هما المرحوم أحمد السماوي وتحسين ( نسينا كلانا اسم ابيه , ولا نعرف ايضا اخباره) , وضحكنا وقهقهنا عندما ذكرت لهم , انهما قالا لنا عندها في مطار موسكو, ان نناديهم الان بالروسية , فاحمد اصبح احمدوف , وتحسين – تحسينوف ( حكيت هذه الحادثة لاحد زملائي في قسم علم الاجتماع فقال انها مادة تصلح لتشريح نفسية الفرد العراقي !). وهكذا بدأنا نتذكر الزملاء القدامى , فحكى لي بشير , كيف زارهم المرحوم محمد علي الماشطة ( الذي وصل الى موسكو عام 1957 وشارك في مهرجان الشباب العالمي آنذاك , وبقي للدراسة بعد المهرجان , و كان يدرس في كلية الاقتصاد بجامعة موسكو) , وتحدّث معهم حول ضرورة تأسيس رابطة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفيتي , وكيف انهم جميعا وافقوا على ذلك وساندوا هذا المقترح , ويرى د. بشير , ان ولادة رابطة الطلبة هو تاريخ تلك الزيارة , او بتعبير أدق , ذلك الاجتماع بالذات , وقد أيّدت انا ما قاله , وذكرت له اننا كنّا نسمي محمد علي الماشطة (واضع اسس) الرابطة , وسألته رأسا , لماذا لم يبرز في مسيرة الرابطة الطويلة , ولم يرشح نفسه يوما في قياداتها ولجانها , فقال نعم , لاني كنت ولا زلت بعيدا عن السياسة , وقد حافظت على استقلاليتي , رغم اني صديق دائم للحزب الشيوعي , وهذا يعني , ان النشاط في الرابطة – حسب مفهومه – هو عمل سياسي , ولم أرغب بمناقشته حول ذلك المفهوم غير الدقيق , اذ ان العمل الحزبي يختلف عن العمل في المنظمات المهنية . تابعنا دردشتنا , وحكى د. بشير لي تميّزه بالدراسة , وحصوله على درجات الامتياز دائما , ثم رجوعه الى بغداد بعد تخرجه في معهد الطاقة عام 1966 , وكيف سنحت له الفرصة بالعودة لدراسة الدكتوراه عن طريق دائرة البعثات في العراق , وهكذا عاد الى روسيا عام 1967 , وبقي فيها منذ ذلك التاريخ ولحد الان , وسألته – هل اصبحت روسيا وطنا له , اذ انه يعيش فيها حوالي 60 عاما من عمره , فقال انه يحن اليها عندما يسافر خارجها , ولكن في الفترة الاخيرة بدأ يكبر , بل ويطغي عنده الحنين الى موطن الطفولة والصبا , اي العراق , وقال – ربما يحدث هذا بسبب تقدم العمر , فقلت له مبتسما – ما الحب الا للحبيب الاوّل .
انتقلنا بعدئذ في دردشتنا للحديث عن المهن التي مارسها طوال فترة حياته في روسيا , فحدّثني عن عمله مع الشركات الاجنبية في روسيا باعتباره ممثلا لها , وكيف انه سافر مرّة الى البحرين للتفاوض حول تطوير العلاقات بين الجانبين الروسي والبحريني , وكيف استقبله أمير البحرين نفسه , وحدثني ايضا كيف سافر الى استراليا للتفاوض حول صفقة لشراء اللحوم منها , اذ تبين انهم في استراليا يدمرون اللحوم الفائضة عن حاجتهم كي يحافظوا علي مستوى الاسعار… وحدثني د. بشير ايضا عن عمله في مجال الترجمة في بداية السبعينات , اذ تبين انه ترجم بعض الكتب العلمية عن الروسية , فابديت اهتمامي بهذا الجانب من نشاطه , لان موضوع الترجمة عن الروسية قريب من قلبي وعقلي , وسألته عن تقنيته في العمل الترجمي , فقال انه لا يستخدم اي قاموس عند الترجمة من الروسية الى العربية او من العربية الى الروسية , فتعجبت من هذا القول , ولم اتفق معه بشأن ذلك بتاتا, وقلت له ان هذا يتعارض مع المفهوم العلمي للترجمة , ولكن الخلاف طبعا لا يفسد للود قضية…