درسنا اللغة الروسية سوية في الكلية التحضيرية بجامعة موسكو للعام الدراسي 1959/ 1960 , و بعد التخرّج التحقنا سوية في كلياتنا للعام الدراسي 1960/ 1961 بنفس الجامعة , هو في كليّة الجيولوجيا وانا في كليّة الفيلولوجيا ( اللغات وآدابها) , وعشنا في نفس القسم الداخلي . في كلية الجيولوجيا كانت مجموعة رائعة من الطلبة العراقيين الموهوبين , وقد تميّز من بينهم بعض الخريجين , ومنهم ( حسب الابجدية ) – الشهيد الدكتور حامد الشيباني ( الذي اعدمه النظام البعثي في السبعينات لاسباب سياسية وكان موظفا بارزا في شركة النفط الوطنية ) , و المرحوم الدكتور عدنان عاكف , ومنذر نعمان الاعظمي ( الذي استمر بدراسته العليا في بريطانيا , واصبح شخصية سياسية وفكرية مرموقة في عالمنا العربي, ولازال هناك لحد كتابة هذه السطور).
منذ ان بدأت بكتابة سلسلة مقالاتي بعنوان – ( عن بعض العراقيين , الذين مرّوا بموسكو ) , كان اسم الدكتور المرحوم عدنان عاكف موجودا و قائما ومطروحا امامي , ,اذ كنت اتابع مقالاته الجميلة و المتميزة والحاذقة والذكية, وأضيف ملاحظة هنا او هامش هناك في دفاتر ملاحظاتي او في ذاكرتي, ولكني لم استطع ان اكتب تلك المقالة ضمن هذه السلسلة , لان سعة مواضيعه وتنوعها وعلميتها واسلوبها الساحر البسيط والعميق في آن , والذي يذكرنا بالتعبير العربي الجميل – ( السهل الممتنع) , كل هذه العوامل كانت تجبرني ان اؤجل كتابة الموضوع دائما كي استكمل كل الجوانب الضرورية واللازمة والمناسبة لذلك الموضوع , وفجأة , وبدون اي مقدمات , صعقت بقراءة خبر رحيله !!! لقد طلبت من اخيه الاصغر الدكتورالعاني عند اللقاء به (عندما كان يعمل في السفارة العراقية بموسكو) ان يخبرني متى سيكون عدنان بموسكو كي التقيه , ولكنه لم ينفّذ وعده مع الاسف , وهكذا لم استطع ان اراه عندما زار موسكو آنذاك , الا اني عرفت انه كان يتابع كتاباتي واخباري , كما كنت انا اتابع نشاطاته الفكرية الواسعة واخباره .
تميّز المرحوم عدنان اثناء دراسته في جامعة موسكو طوال فترة الدراسات الاولية في كلية الجيولوجيا (خمس سنوات ) والعليا ( ثلاث سنوات) بسموّ اخلاقه ونقاء روحه وبالتواضع العظيم والصدق في علاقاته , وكان بعيدا جدا عن عالم ( القيل والقال) الواسع الانتشار بين العراقيين بشكل عام مع الاسف, وكان طالبا ممتازا دراسيا , وكانت لغته الروسية راقية جدا , وكان متعاونا مع الجميع ومحبوبا من قبل الجميع ويحتفظ بمسافة مناسبة جدا بينه وبين الطلبة الآخرين , وتميّز – قبل كل شئ – بحبه وولعه لقراءة الكتب , بل وحتى ( التهامها!) كما علّق مرّة أحد الزملاء العراقيين, وهي صفة نادرة جدا جدا بين طلبة الدراسات العلمية البحتة , وكنت أتذّكر هذه ( الهواية !) عند عدنان كلما كنت أقرأ مقالة ممتعة بقلمه الرشيق , وأقول بيني وبين نفسي – ( لقد صقل عدنان موهبته الادبية الفذّة هذه في تلك القراءآت الهائلة ايام شبابه وباللغتين العربية والروسية !!!) , وأتذكر مرّة اني قرأت تعليقا طريفا جدا لابنته كتبته في صفحتها بالفيسبوك الى ابيها تقول فيه ما معناه – ( هل رأيت في المنام أمس بيلينسكي حتى بدأت تكتب بهذا الزخم ؟ ) , وهو تعليق يمتلك دلالة عميقة جدا – في رأي الشخصي – ويرمز الى تلك التقاليد الثقافية الاصيلة, التي زرعها القارئ والمثقف الكبير عدنان عاكف في نفوس افراد عائلته .
مقالات الدكتور عدنان تتميّز قبل كل شئ بالنظرة الساخرة الذكية والطريفة بالرغم من انه يتناول فيها مواضيع علمية كبيرة ومهمة جدا او سياسية حادة تقف امام المجتمع العراقي اليوم , فقد كتب مثلا في التاريخ العلمي العربي ( حسب التعبير الدقيق والحاذق والصائب للاستاذ صائب خليل ) مقالات عميقة ومبتكرة بكل معنى الكلمة , ولكنه استطاع ان يمنحها اطارا مرحا و( خفيف الظل!!) ان صحّت التسمية , وهي موهبة نادرة بين الباحثين , منها على سبيل المثال وليس الحصر مقالة بعنوان – ( من شرم ( بفتح الشين والراء والميم) الشيخ ) , وهي مقالة مهمة وعلمية ( دسمة !) يمكن ان يكتبها شخص متخصص في العلوم الجيولوجية فقط بمستوى الدكتور عدنان ليس الا , وهناك امثلة عديدة اخرى في مجال التاريخ العلمي العربي , اشير هنا فقط الى عناوينها , اذ لا مجال للتحدّث عنها اكثر من ذلك في اطار مقالتنا هذه , والعناوين هي – ( اللهم ارزقنا بعصر جليدي جديد ) , و – ( الذي رأى على ظهر جبل سمكة ) , و – ( قوموا انظروا كيف تزول الجبال ) , و – ( المسلمون الاوائل وكروية الارض ) وهي مقالة بثلاث حلقات , و – ( الكندي رائد علم المعادن ) , و – ( اناث وذكور في عالم المعادن والاحجار) , وغيرها . ولا نريد ان نتوقف هنا عند مقالات ذات مواضيع اخرى , مثل المقالات السياسية او مقالات رثاء ووداع صادقة وجميلة ومؤثرة لبعض الاصدقاء الراحلين ( مثل مقالته بعنوان – ذكريات من غرفة مهدي محمد علي ) , و كل هذه المقالات تمتلك نفس الاهمية , اذ انها تحمل نفس النظرة العلمية والموضوعية والجمالية التي تميّز بها , ولكننا نود اختتام مقالتنا بالاشارة ( والاشادة ايضا) بكتاب ترجمه الدكتور عدنان عاكف عن الروسية بعنوان – ( الحياة الروحية في بابل ) للباحث الروسي كلشكوف , ونشرته دار المدى عام 1995 , ويقع في 183 صفحة . ان طبيعة هذا الكتاب تبين – بلا شك – الثقافة الموسوعية للدكتور عدنان اولا , وارتباطه الروحي الاصيل بجذور الحضارة الرافدينية ثانيا , وباختصار , فان الدكتور عدنان عاكف استطاع ان يشيد لنفسه مكانة لائقة بموهبته في صرح تاريخ الثقافة العراقية المعاصرة.
وداعا ايها المتخصص المتميز الكبير في علوم طبقات الارض , يا ابن جامعة موسكو البار ورافع رايتها العلمية الحقيقية. وداعا ايها الكاتب العراقي الاصيل , الذي وظّف موهبته – وبكل تواضع العلماء – لانارة طريقنا القومي والوطني شبه المعتم . وداعا ايها السياسي – القديّس , والذي وجدته مرّة يبكي في غرفته بجامعة موسكو نهاية الستينات بسبب الانشقاق في حزبه الشيوعي!!!