إستوقفني مؤخرا حوار على إحدى القنوات الفضائيه حول موضوع حيوي للعراق والعراقيين الا وهو المصالحه الوطنيه ودهشت لهشاشة فهم احدهم وتقييمه لأهَم أحلام النوم و اليقظة لدى العراقيين على إختلاف مشاربهم وقادني ذلك الى أن الكثير من العراقيين (بقصد ام بغيره) قد إختلط الامر عليهم وعندهم ولم يعودوا يفرقون بين المصالحة الوطنية كمشروع وبين تبويس اللحى، بل إن بعضهم يتعمد تقزيم هذا المشروع الوطني الكبير والمطلوب بإِلحاح، هذا إذا ما أُريد للعراق الاستقرار والانطلاق نحو المستقبل.
حفزني هذا الامر (وارجو أن يُحَفٌزَ آخرين) لكتابة بعض الخواطر عن هذا الموضوع المصيري للعراق وشعبه. وسأحاول في السطور التاليه أن اناقش الموضوع عن طريق ألإجابة على بعض الاسئله علها تسهم في فهم أعمق للمصالحة الوطنيه وتُيَسِر إدراك أبعادها، هذه الاسئلة هي: ماهي المصالحة الوطنيه؟ ولماذا نحتاجها؟ وكيف نحققها؟
للإجابة على السؤال الاول لابد أن نعرف أولاً أن مقومات المجتمع المتمدن والمتحضر الاساسية هي: العدل، التضامن الاجتماعي، تكافؤ الفرص، الحرية الشخصيه، توفر الخدمات التي تكفل للانسان كرامته وامنه. كل هذه العوامل تشكل في تقديري عناصر مهمه للسلم المجتمعي التي تقود بالتالي لتوفر مناخ الحالة التصالحيه والتراحميه بين أفراد ومكونات المجتمع مما يعني أن أي غياب لواحد او أكثر من هذه المقومات سيقوض السلم المجتمعي ويعرض المجتمع الى إضطراب في الفهم والممارسات تقود الى الاختلاف العميق وتخلق حالة التوجس وعدم التجانس مما يؤدي الى التخندق فالاحتراب. وهكذا تتزئبق المجتمعات ( نسبة الى تشظي كتلة الزئبق عندما ترتطم بجدار).
إستنادا الى ماتقدم نستطيع تعريف المصالحة الوطنية بأنها عملية إحياء مقومات المجتمع وتوفيرالارضية الملائمة و اللوازم الكفيلة لإزالة حالة التزئبق. وفي هذا الفهم تهيئة للاجابه عن سؤال لمذا نحتاج المصالحه الوطنية الحقه في العراق؟ فالعراق ارتطم بجدان الحروب والحصار لأكثر من عقدين ثم جاء جدار الاحتلال الذي أدت صدمته الى انهيار كافة مقومات المجتمع، فسقطت السلطة والدولة والمؤسسات وإنكسرت نفسية المواطن وإنعدمت الثقة المتبادله وغاب الامن والامان وأُهدرت الكرامة وهُمِش الشعب كله. وعليه فإن المصالحة الوطنية الحقيقية الشاملة هي حاجة مصيرية وهدف سامٍ نحتاجها لإعادة بناء اعمدة ومقومات المجتمع فعندها فقط نستطيع أن نحقق أهدافنا الاخرى في التنمية وبناء الجيش والمؤسسات وإقامة عراق خالٍ من الارهاب والارهابيين والبدء ببناء اجيال سليمةُ معافاة.
وهنا يأتي خاتم الاسئله، كيف تتحقق المصالحه؟
لعل اصعب مايواجه مشروع المصالحة الوطنية في اي مجتمع هو انحسار بل غياب ثقافة المصالحه والنقص في فهم معناها العميق والموضوعي، إضافة الى تضارب مصالح الطفيليين المنتفعين من غيابها لذلك لابد أن يمهد لمثل هذا المشروع بالتثقيف الذاتي والعام لاعداد الارض الصالحه التي ستزدهر فيها نبتة المصالحه المجتمعية والسياسيه. هذا أولاً وثانيا إن أي مشروع تاريخي وحيوي بهذه الاهميه يحتاج الى أن تتبناه قيادة متشربه بمفاهيمه وملتصقة بغاياته ومصرة على السير به الى أمام وتعتبره هدفا مركزيا ورئيسيا تتبعه أو تسير جنبه بقية الاهداف فمشروع المصالحه هو الهدف والوسيلة لتحقيق بقية الاهداف.
في التراث العالمي هناك تجربتين لقيادتين متباعدتين جغرافيا وتأريخيا ولكنهما متقاربتين إنسانيا حيث تبنت قيادة لنكولن في اميركا بعيد منتصف القرن التاسع عشر مبدا المصالحة الوطنيه في اعقاب الحرب الاهليه وانهت العبوديه والتجربة الثانية هي تجربة الاسطورة نيلسون مانديلا الذي استطاع بسياسته التصالحيه أن يجنب جنوب افريقيا الخراب رغم العذابات والاضطهاد الذي تعرض له.
عندما نتعمق في دراسة هاتين التجربتين نجد انه لم يكن للمصالحة المجتمعية أن تتحقق دون وجود راعٍ لها مؤمن بها ويتعبد في محرابها ويُسٌخِر لها طاقاته ويعايشها في كل أوقاته.
نحن في العراق ايضا لابد لمصالحتنا الوطنية من عرٌاب ( العرٌاب تعني الاب الروحي) يبشر بها في مجالسه ويتبناها في مواقفه السياسيه ويقدمها في سُلٌم أولوياته ويجعل من الموقع الرسمي وسيلة لتحقيقها.
عرٌاب المصالحة الوطنية هو المتصالح مع نفسه وغيره والمخالفين لرايه وهو المتفهم لمسببات التخندق والانعزال وهو الذي يستطيع ان يهيئ للكتل المتزئبقه الاقتراب والتصالح والإتحاد.
أيها القراء الاعزاء، في ضوء ذلك كله استطيع القول واثقا إنني لااجد في عراقنا بين السياسيين من تتوفر فيه سِمات وصِفات عرٌاب المصالحة الوطنية العراقية سوى الدكتور أياد علٌاوي الذي جعلها الهدف الاسمى في برنامجه السياسي والذي اصر على وضعها شرطا للتفاوض وهو الذي زرع اول بذورها في مؤتمر شرم الشيخ عام 2004 عندما كان رئيسا للوزراء.