23 ديسمبر، 2024 2:25 م

عذراً صدام حسين …لقد كنت على حق (6) هل أثبتت زينب وطنيتها لكم  .!

عذراً صدام حسين …لقد كنت على حق (6) هل أثبتت زينب وطنيتها لكم  .!

هل تتذكر أعوام  حربك مع إيران .. أيام الزهو والانتصارات الكل يرقص فرحاً لسفك الدماء , هل التقيت في العالم الأخر بمن قتلوا في تلك الحرب .؟

هل التقيت بعباس .؟  انه جارنا  عندما كن صغاراً .. انه أب لعائلة صغيره زوجه وخمسة أطفال صغار أربعة من البنات وولد وحيد  .

كنا صغاراً نلعب مع أبناءه  في الحي نراه عندما يخرج من بيته  سائراً مع رفاقه المتوجهين الى الحرب في الشرق ..  زوجته الجميلة زينب ترمي خلفه الماء وهي تتمتم بشفتيها .. لاأعلم بماذا كانت تتمتم ..كان إلقاء الماء خلف عباس يدفعني للفضول أن اسألها لماذا تلقين خلفه الماء ..فتخبرني لكي يعود عباس سالماً .!!

أبي  يقف بالقرب منا  في الشارع ساعة مغادرة عباس لمنزله إقترب من أبي  وأطفاله الصغار يُحيطون به ويتقافزون حوله يطلبون من أبيهم أن يجلب معه عند عودته  ما يفرحهم , عانق والدي وهمس في أذنه قائلاً له…  لقد تركت ولدي الصغير مريضاً أرجوا منك أن تطمأن على عائلتي  بين الحين والأخر  إن كانوا  بحاجة لشيء ما…. أتذكر عيني عباس  جيداً وهو يتحدث مع والدي  كانت  تلمع بدموع يحاول جاهداً أن يمنعها من أن تسقط أمام أطفاله الصغار وهم يدورن حوله , طمأنه والدي  وقال له  اذهب  ولاتخف  إن أبنائك كأبنائي فقط عد لهم بالسلامة , لا اعلم لماذا كان عباس متردداً بالذهاب هذه المرة , يسير بتثاقل وكأنه يريد أن يعود أدراجه…. وصل نهاية الشارع التفت إلينا رافعاً يده مودعاً الجميع وغادر…

 ذهب عباس لايحمل في جيبه سوى صوراً لأطفاله الصغار  ينظر في وجوههم ,  في الجبهة وفي سكون الليل يغمض عباس عينيه متمنياً أن تحمله الرياح إلى منزله …يتصور لحظه وصوله  ليلاً يدخل ليرى أطفاله نياماً يُحيطون بأمهم …يقترب من ولده الصغير الذي تركه مريضاً ليطمئن عليه …  ينحني ويقبل رأس طفله الصغير  وهو نائم  والدموع   التي حاول أن يمنعها يوما من أن تسقط  . تنهال على وجه ولده  ..يحاول إيقاظهم ..انهضوا ..انهضوا يا أولاد لقد عاد أبوكم ..انهضي يا زينب لقد اشتقت إليك ..انهضوا  إلا تسمعون .؟!

مرت الأيام ..كل الأطفال تلعب وأطفال عباس يلعبون وعينهم على الطريق متمنين عودة أبيهم في أي لحظة ليركضوا نحوه ويتلقفهم ويحملهم بيديه كما تعودوا أن يستقبلوه كلما عاد .

 أمي ترسلني إلى بيت عباس احمل بيدي ماجادت به يد والدتي من طعام لأطفاله…..اطّرق الباب  اسمع خطوات زوجته زينت وهي تهرول نحوه  تفتح الباب بسرعة وهي مبتسمة وكأنها تنتظر احداً …لكن سرعان ما تتلاشى تلك الابتسامة الجميلة  لتتحول إلى حزن كبير تنظر في وجهي ( خالة حسبالي عباس رجع ) حتى حفظت تلك الكلمات التي لازالت إلى أليوم ترن في أذني .

طال غيابه تحولت الأيام إلى أشهر وتحولت الأشهر إلى سنين وعباس لم يعد , كبرنا وكبر معنا أطفال عباس … يأسوا من النظر نحو نهاية الشارع  فوالدهم لم ولن يعود , كنا نسأل اطفالة متى يعود والدكم ..الكل يصيح سيعود …سيعود ويجلب لنا الألعاب كما وعدنا .!

مسكينة زينب لم تترك احداً إلا وسألته عن زوجها , الجميع اخبرها  إن وحدته تعرضت لهجوم  استشهد من جراءه من استشهد وأسر من اسر وفُقد من فُقد …زينب تمنّي النفس أن يكون زوجها  ممن وقعوا في الآسر عسى  أن يعود يوماً .
يئست زينب من عودة عباس .. أرسلت لها الفرقة الحزبية في حينها كتاب شكر تقديراً لموقف عباس الوطني والبطولي  في الدفاع عن ارض الوطن ..!  فاضطرت بعدها زينب أن تستلم حقوق استشهاد زوجها فأطفالها كبروا وهم بحاجة لرعاية … أصبحت زينب زوجة شهيد   إستلمت النقود والسيارة ثمن عباس.!! وبدأ جميع  رجال الحي يحومون حولها محاولين إغوائها بحجة مساعدتها .. يحومون حولها كالكلاب المسعورة محاولين ان ينهشوا منها ما تطوله أنيابهم ..الكل طامع  بجمالها وبما تملك ..فزينب رغم ظنك العيش إلا إنها لازالت تحمل الكثير من معاني الجمال التي تغري كل من يراها … فكرت بالزواج لكن لا احد  يُقّدم على الاقتران بزوجة شهيد ..!!  الكل يريد أن يأخذ حاجته منها دون ان يُعطيها … طعنوا بشرفها وسمعتها  حتى اضطرت المسكينة أن تتزوج برجل مصري الجنسية  انتقلت معه وأولادها إلى حي أخر  دفعاً للعار عنها وعن أولادها ..!! اخذ منها هذا المصري ما اخذ وولى هارباً , لم يتبقى لزينب وأطفالها سوى راتب التقاعد  ليسدوا به رمقهم .

اندلعت حرب إسقاطك ياصدام وانهارت الدولة وانقطع عنهم أخر ما يعينهم على العيش  ..هدأت الأمور قليلاً وبدأت الحياة تعود تدريجياً   , ذهبت زينب لمراجعة دائرة التقاعد عسى أن تظفر براتب أطفالها  ..سألها الموظف أين استشهد زوجك قالت له استشهد في الحرب مع إيران … صاح بها الموظف ومن قال لك إن زوجك شهيد .. من اشترك بتلك الحرب  ليسوا شهداء ..!! احمدي الله إن الحكومة ستصرف لك راتبكم  لكن لا تكرري مرة أخرى أمامي إن زوجك شهيد انه قتيل  …!!  دمدمت زينب مع نفسها …قتيل ..شهيد .. أيّن كان فقط اصرف لنا الراتب

 كبُر ولدها وأشتد ساعده أصبح شاباً يحمل الكثير من صفات  والده …. أراد أن يُساعد والدته في إعالتها لإخوته البنات , بحث عن عمل فلم يفلح في ذلك … ولم يبقى له أمل سوى التطوع في صفوف الجيش الجديد..اخبر والدته إن شخصاً ما وعده بأن يعينه في الجيش مقابل مبلغ ألف دولار .. !! لم تكن ترغب بأن يعمل ولدها في صفوف الجيش فمأساة زوجها عباس لازالت شاخصتاً أمامها  …لكنها استسلمت تحت ضغط ولدها المندفع بروح الشباب و ضغط السنين  التي أنهكت مفاصلها وما عادت قدميها تعينانها على الوقوف … قبلت برغبته  وأخرجت قلادة ذهبية كانت تحتفظ بها  لتهديها لإحدى بناتها عند زواجها …باعتها وسلمت مبلغ الألف دولار لهذا الرجل لقاء تعيين ولدها في الجيش  , وبعد أيام دخل  ولدها إلى البيت فرحاً اخبرها انه قد تم قبوله وسيغادر غداً للالتحاق …….. زينب فرحة بولدها الذي اصبح رجلاً … عند عودتك سأزوجك   أجمل فتيات الحي … أريد أن أرى أولادك يملؤون علي البيت .

صنعت لهُ والدته  بعض الأطعمة وضعتها له في حقيبته ليأخذها معه عند التحاقه وفي الصباح خرج  يحمل حقيبته متوجهاً مع رفاقه السائرون نحو الغرب… رمت  زينب خلف ولدها الماء متمنيتاً له أن يعود سالماً

 اقترب مني ..عانقني وهمس في أذني  ( دير بالك على أمي والبنات ) وانطلق نحو نهاية الشارع التفت إلى أمه وأخواته  .. رفع يده مودعهم وغادر .

وقبل يومين توقفت عجلة امام بيت عباس تحمل فوقها نعشاً ملفوفاً بعلم عراقي .. ترجل منها شخص طُرق الباب فتحته  زينب  .. سلمها ظرفاً مقفل ما إن رأت زينب النعش حتى خرت على الأرض مغشياً عليها   , تجمع اهل الحي  حول  النعش … اقتربت من زينب اخذت الظرف فتحته ..وإذا به كتاب شكر .. مقدم الى زينب تقديراً لها وللموقف الوطني والبطولي الذي أبداه ولدها  في التضحية من اجل الوطن ..!! 

ياصدام .. إن رأيت عباس قل له أن لايقلق على ولده الصغير الذي تركه مريضاً .. لقد أصبح رجلاً وهو قادمٌ في الطريق إليه .
((يتبع))