19 ديسمبر، 2024 7:02 ص

عدوى الأمراض المجتمعية والثقافية.. من وحي ( بغداد عاصمة الثقافة العربيّة)

عدوى الأمراض المجتمعية والثقافية.. من وحي ( بغداد عاصمة الثقافة العربيّة)

يحدّث التاريخ أن ما من مدينةٍ في العالم نالتها يد الخراب والهدم والتدمير كما أصابت بغداد عشرات المرات عبر مختلف العصور ، ثم نهضت بعد كل مصيبةٍ لتعود الى رقيّها ورفعتها وريادتها في مختلف المجالات. وعندما حدث ما أصابها إبّان الاحتلال ( المباشر ) الأخير كانت البداية كما حصل في كل مرّةٍ عبر التاريخ ، واستمر الهدم والتدمير والقتل خلال تواجد قوات الاحتلال الأمريكية والقوات المتحالفة معها تحت ذريعة عدم جواز مقاومة الاحتلال ( كسابقةٍ لم تحصل من قبل إلّا مؤخراً مع شعب فلسطين ، ورغم اعتراف إميركا أن قواتها هي قوات احتلال وتثبيت ذلك من قبل هيئة القطعان المتحدة ). نعم ، ضُرب قانون الهيئة المهزلة الذي يجيز ويشرّع للشعوب مقاومة الاحتلال عرض الحائط وفقاً لمصلحة مالكيها وبتوقيع العبيد من بقية ( الأعضاء!! ). ثم تبع ذلك الإحتلال غير المباشر الذي تم بموافقة العالم وهيئة قطعانه البائسة الضمنية تحت ظلال الصمت ، وبوجود العامل المساعد المتمثل بحالة التردي والتشتت العربي وضعف منظمته التي أصبحت أثراً بعد عينٍ ( على ضعفها المتوارث ) في ظل أنظمة حكم الانحطاط العربي الغير مسبوق ، ألا وهو الاحتلال الإيراني الذي تعزّز بنظام حكم يفتقر إلى أدنى مستويات الخبرة والمعرفة والقدرات ناهيك عن اللا وطنية المتناهية التي أنتجتها تربية التسول والعبودية والعمالة التي طبعت حياة من وُضعوا على عرش العراق الضحية – الفريسة.
نعم ، هي المرّة الأولى التي صَعُب فيها النهوض من الكبوة ، بسبب ما تلاها من تهافت شذاذ الآفاق الدخلاء واستمرار إصرار أسيادهم ( جيران كانوا أم أشقاء سابقين ) على استمرار الطعنات في خاصرة العملاق الضحية.
وكما أصابت استمرارية الإنحدار نظام الحكم وقيادات العمل السياسي ، وسرت لعنة ذلك الانحدار في مفاصل البناء والإعمار والخدمات والمؤسسات ، امتدت تلك اللعنة لتصيب مفاصل القضاء والتعليم والثقافة التي نخرها الفساد حتى اصبحت مهيئةً للتداعي مع أدنى حركة ، كما عصا سليمان ( عليه السلام ) – إن جاز التعبير -.
قبل شهور سمع العالم كله عن وزير التعليم ( الدكتور !! ) علي الأديب وهو يعمم على الجامعات أوامره لجامعات العراق باعتماد كتاب ( الخميني ) مادةً منهجيةً تدرّس رغم أنف العراقيين والعراق ، وقراره بالمصادقة على شهادات الدرجات العليا الممنوحة في إيران لمن لم يحصلوا على الشهادة الجامعية الأولية ولا حتى شهادة الدراسة الإعدادية ، مثالين من قائمة إخفاقاتٍ وانهياراتٍ تبدأ ولا تنتهي. كما فُجع العراقيون بمشاريع القوانين التي أُقرّت بهدف تجزئة وتشضية المجتمع العراقي بقدر ما تثير الاشمئزاز في نفس كل من يمتلك ذرةً من الشرف والغيرة بعد الوطنية والانتماء للعراق والتسمّي بالقوانين الوضعية والشرائع السماوية ، على يد ما يسمى بوزير ( العدل!! ) الشمري الذي مزق القانون وحكم عليه بالإعدام وهو يصدر أحكام الإعدام بالمئات والألوف دون أن يرفّ له جفنٌ ، ليصبح بذلك وصمة عار في جبين العدالة وحكومات الغفلة في عراق حمورابي ، وليضيف ذلك الى وصمة العار التي لحقت بالقضاء العراقي على يد الرفيق المناضل مدحت المحمود مسوّغ ومشرعن قطع آذان العراقيين كأكبر وأغرب حكمٍ أصدره النظام البعثي البائد!
الأمرّ والأدهى هو ما حدّثني به أحد الآثاريين العراقيين النجباء وهو يعتصر ألماً عن الجرائم الخفية وليست المعلنة كما التي أشرنا اليها .. يقول هذا الآثاري أن الحكومة العراقية قد تعاقدت مع جهة أمريكية متخصصة في ترميم الوثائق الأثرية أثناء تواجد قوات الاحتلال في العراق وإشرافها على إدارة شؤونه على ترميم الأرشيف اليهودي العراقي الذي أصابه ما أصاب المتاحف ومحتوياتها وكل آثار العراق ( والذي يُعَدّ أكبر وأضخم أرشيفٍ يسطّر تاريخ وتراث يهود العراق ومن أهم الوثائق النادرة في العراق والعالم نوعاً وحجماً ). تم التعاقد بين الطرفين على نقل هذا الأرشيف بعنايةٍ فائقة الى الولايات المتحدة على أن يتم ترميمه لديها على أيدي أبرع المختصين بهذا الشأن في العالم ، ثم يتم إعادته إلى بغداد خلال مدة العقد التي حُددت بخمس سنوات تنتهي في ٢٠٠٩ ثم تم تمديدها بالاتفاق الى عام ٢٠١٠ لأسباب فنية تطلبتها عمليات الترميم فائقة الدقة. بعد انتهاء مدة العقد بفترة جاوزت العام وعدم إعادة الأرشيف شكلت الحكومة العراقية لجنة لمتابعة الأمر وإستعادته الى العراق برئاسة وكيل وزير الثقافة المدعو ( طاهر حمود الموسوي ) وعضوية مدراء عامين من مجلس الوزراء وأمانته العامة والوزارة قامت بزيارات مكوكية بين بغداد وواشنطن لعدة شهور إنتهت بصمتٍ مطبق واعتبار تلك الزيارات للتفسح وصرف فوائد الإيفادات كمساعدة للّجنة بسخاء ، ولحد الآن وبعد مرور خمس سنوات على انتهاء مدة العقد لم يعاد هذا الجزء النادر والمهم والثمين الى العراق ، بل ويبدو أن اللجنة ومن ورائها الحكومة قد تنازلت عن استعادته كما تنازلت عن كل حقوق العراق والعراقيين مقابل مكتسبات أعضائها بل وربما باعته كما باعت العراق لأعداء أرضه وشعبه مقابل الجلوس على كراسي المسؤولية – ولو كعبيدٍ – ونماء أرصدةٍ في البنوگ كحلم كان يراود هؤلاء النكرات بعد أن قضوا حياتهم عبيداً متسكعين في شوارع إيران والخليج العربي وسوريا ولبنان ودول العالم الأخرى يأكلون لقمتهم مُغمَّسةً بالذل والهوان والعمالة والعبودية.

استذكرت ذلك وغيره الكثير الكثير وأنا أستمع الى صديقٍ كان يحدثني عن الإخفاقات التي اعترت اختيار بغداد عاصمةً للثقافة العربية لعام ٢٠١٣ ميلادي والتلكؤات والفشل الذي أحدثه سوء إدارة الثقافة العراقية والمستويات الهزيلة والفارغة للقائمين عليها واستهتارهم الناتجة عن جهلهم وانتمائاتهم الحزبية التي جعلتهم سائبين دون رقيبٍ أو حسيب مع غياب الوازع الذاتي الأخلاقي وانعدام الإحساس بقيمة وحجم المسؤولية وتجرُّدهم من أدنى معاني الانتماء للوطن ، بعد الحسرة على فشل الحكومة العراقية في إظهار مدينة أمير المؤمنين (عليه السلام) النجف الأشرف كعاصمة للثقافة الإسلامية لعام ٢٠١٢ ميلادي والإخفاقات الفضائحية التي حصلت بشأنها بسبب تكالب حثالات الحكومة وأحزابها المبرقعة بالدين كذباً وزورا على ما خصص لذلك الحدث التاريخي الكبير.
وكجزءٍ من تلك الإخفاقات كان الحديث عن احتفالات ( بغداد عاصمة الثقافة العربية ) التي أقيمت مؤخراً في بغداد ، التي سنذكر مفردةً واحدةً من مفرداتها التي لا تحصى كمثالٍ للانحدار الذي أصاب الثقافة العراقية في الصميم ، وكنموذجٍ لما يحصل لتلك الثقافة التي لم يعد فيها ما له علاقة بالعراق وثقافته التي طالما أضاءت أشعتها ظلمات المعمورة وأبهرت العقول بعظمتها ورقيها وحيويتها، وبالتالي كصورةٍ لما يحصل للعراق كله في ظل حكم الغُرَباء وذيولهم ممن وفدوا عُمّالاً لأسيادهم الحاقدين على هذا العملاق الجريح وتاريخه وثقافته وقوّته المستمدّة من وحدة أبنائه عبر العصور ..
هذه المفردة تتمثل في أن القائمين على تلك الاحتفالات أبَوا إلا أن يعبّروا عن أمّيتهم وجهلهم وغبائهم بأن يختاروا المدعوّين اليها ليمثّلوا ثقافة العراق ومثقفيه في المهجر من صنفهم وطينتهم ومستواهم ، متجاهلين الشخصيات والقامات الثقافية والعلمية والفكرية السامقة التي ملأت عواصم الدنيا مهاجرةً بعد أن حلَّ محلها الجهَلة والنكرات والسفهاء في أروقة الثقافة ومراكز المعرفة والعلوم ، وما فعلوه بتصفية كفاءات العراق قتلاً وتهجيراً لإخلاء ساحته لموجات الانحدار والخراب.
ومن ال( نماذج ) التي استُضيفَت في هذه المناسبة – مثلاً – إلى بغداد من الولايات المتحدة :-
١- المدعو جابر شلال ، شخص أمّي لا يمتلك أية شهادةٍ دراسية متلون كالحرباء ، معروفٌ بولائه المطلق سابقاً لحزب البعث وعمالته لأجهزة النظام البائد ، وبولائه المطلق لقوات الاحتلال منذ أيامها الأولى في العراق ، ثم بولائه المطلق للحكومات التي توالت بعد الاحتلال المتوّج بالولاء لحزب الدعوة والمسوّق لجرائم دولة ( القانون!) كمُستأجَر للعبث باللحمة العراقية المعروفة . من كفاءاته وقدراته المعروفة إقامة مجالس الدروشة والموالد النبوية ومجالس عزاء الأئمة عليهم السلام ، وإقامة حفلات الغناء والرقص والمجون والسُكر ، لا يخفي نفاقه وتمسّحه لأية جهةٍ تقوده شخصيته الهزيلة المتلونة لاسترضائها. لم يدّخر جهداً في إذكاء التفرقة وبث روح الطائفية بين العراقيين استجداءً لرضى أية جهةٍ تدعم توجهات التفتيت على اختلافها وتناقضها الى حد استئجار مأجورين لكتابة قصائد شعرية ومقالات ونشرها بأسمه مقابل ثمن!
٢- شخص يدعى كاظم الوائلي ، شاعر مغترب ، أو مغترب شاعر بشكل أدق لإنه كتب الشعر مبتدئاً في المهجر ، يذهب به الخيال إلى أنه من عمالقة الشعر العراقي بما يربو على رموز الشعر أمثال النواب وگاطع وعريان السيد خلف ، ويدّعي أنه خبير عسكري ، وكل علاقته بذلك أنه رافق القوات التي دخلت العراق بصفة ( دليل ) ، كما يعتبر نفسه مثقفاً لكونه يتكلم الانجليزية، ويرى أن هذا هو المعنى الكافي للمثقف!!! لا يمتلك أية شهادة دراسية جامعية أو يمتلك أي شئ من المعرفة والأفق الثقافي ، ويعتبر أن لبس الأقراط ( التراچي ) كافياً لأن يجعله مثقَّفاً ، لذلك ترى على أذنيه ثقوب الأقراط . شخصية مثيرة للجدل بشكل يتجاوز كل حدود اللياقة والشكل المُعتاد مظهراً وتصرّفات.
٣- طالب دراسات عراقي شاب يدعى ( هيثم ميّاح ) مستمر بالدراسة لنيل الدكتوراه في القانون ، وهو مختلفٌ من حيث المستوى عن سابقَيه ، لكن الغريب هو أن يتم اختيار طالبٍ شاب لا علاقة له بالشأن الثقافي مع وجود كم هائل من المفكرين والمثقفين الأساتذة الذين يحملون أعلى الشهادات ولهم باع طويل في العمل الثقافي والأكاديمي والفكري والنشر والتأليف وبشهرتهم في مجالات تخصصاتهم على أعلى المستويات لهذا الحدث بالذات!

كما كل الذين إطلعوا على هذه الجزئية مما يحدث للعراق في كل مناحي الحياة ، وثقافته كأحد الجوانب المهمة ، نتساءل : هل هذا قدر العراق في الانهيار والانحدار لتُنتخب لتمثيل ثقافته المهاجرة تلك النماذج في مناسبة بهذا الحجم وهذه الأهمية؟ هل عقِمَ العراق وثقافته الى هذه الدرجة ، وهل وصل الصلف والاستهتار الى إغفال كل العمالقة من مثقفيه في المهجر ليُمثَّل بهذا الشكل البائس؟ أو ليس ذلك يعني تعمّد الإساءة لحضاراته وتراثه وتاريخه؟ أفتوني في رؤياي!!!

أحدث المقالات

أحدث المقالات