10 أغسطس، 2025 10:18 ص

عدنان البراك… مسيرة النور والوفاء

عدنان البراك… مسيرة النور والوفاء

في تموز من عام 1935، حين صدرت أول صحيفة شيوعية في العراق، “كفاح الشعب”، بزغ مع الحروف الأولى عهدٌ جديد من الوعي والكفاح. ومن تلك الكوكبة التي سخّرت أقلامها في سبيل الحرية والعدالة، لمع نجم الشهيد عدنان عبد الله البراك، الذي لم يكن مجرد كاتب أو مثقف، بل مناضلًا آمن بأن الكلمة سلاح لا يقل مضاءً عن البندقية، وأن الصحافة هي درب من دروب الفداء.

ولد عدنان البراك عام 1930 في محلة الست نفيسة بالكرخ، بغداد. وما لبثت أسرته أن انتقلت إلى الحلة، حيث نشأ وترعرع بين ضفتي الفرات ونفحات التنوير. منذ صغره، اتجه نحو الأدب والفكر، فقرأ وهو في الابتدائية مؤلفات طه حسين ونجيب محفوظ، متشربًا بذور الحداثة والانفتاح، مما قرّبه إلى التيارات اليسارية والوعي الماركسي الناشئ.

كان قارئًا نهمًا، ومثقفًا شابًا ألقى أولى محاضراته عن الماركسية وهو في المرحلة الثانوية. عُرف في الحلة بذكائه وتفوقه، حتى أصبح يُدرّس أبناء الأسر المثقفة في بيوتهم، ويشغل موقعًا متميزًا بين شبابها. وبعد إكماله الثانوية بتفوق، التحق بكلية الطب في بغداد عام 1948، بالتزامن مع الوثبة الوطنية ضد معاهدة بورتسموث، التي شارك فيها بشجاعة.

في أجواء المد الطلابي اليساري، برز اسمه بين مؤسسي اتحاد الطلبة العراقي العام، وكان من أوائل من تولوا تنظيم العمل الحزبي بين كليات بغداد، وضم إلى الحزب أسماء بارزة لاحقًا في الفكر والقانون والاقتصاد. كما بدأ الكتابة في الصحف العلنية بأسماء مستعارة، وسرعان ما تحوّل إلى قلم حاد وواعي في “الأساس” و”الهادي”، محذرًا من القمع ومبشّرًا بالعدالة.

لكن السلطة لم تحتمل هذا الصوت. وبعد كشف أحد البيوت الحزبية، اعتُقل عدنان، وأصدرت عليه محكمة النعساني حكماً بالسجن عشر سنوات مع الأشغال الشاقة. عُذّب، قُيّد بالسلاسل، لكنه لم يتراجع. رفض إغراءات نوري السعيد بالعفو والدراسة في بريطانيا مقابل التوقيع على توبة سياسية. أجاب خاله الذي توسّط له: “اخترت طريقي، ولن أخون رفاقي مقابل حريتي.”

في سجن نقرة السلمان، برز دوره الفكري والتنظيمي، فحوّل الزنزانة إلى منبر للتثقيف والمقاومة، يختصر الأخبار من إذاعة مهربة، ويحرر المقالات والبيانات بخط يده على ورق خفيف يُهرّب داخل لفافات السجائر. وصفه رفاقه بأنه دماغ صحفي، حاد الفكرة، حسن الصياغة، ورصين العبارة.

بعد إطلاق سراحه إثر ثورة 14 تموز 1958، لم يفكر بالعودة إلى كلية الطب، بل كرّس نفسه للعمل الصحفي، فكان من أبرز المحررين والمعلقين السياسيين في جريدة اتحاد الشعب. كتب بصوته ولم يطلب مجدًا، حرّر افتتاحيات وتعليقات تُذاع بعد النشرة الإخبارية بصوت المذيع حافظ القباني، وكان صوته المؤثر يصل إلى كل بيت عراقي.

شارك في مؤتمرات دولية في الصين واليابان ممثلًا للطلبة العراقيين، ولم يكن مجرد مندوب بل حاملًا لهوية العراق التقدمي الحر. أشرف على تحرير مجلات وصحف عدة، وعمل مع قامات الصحافة أمثال الجواهري، وعبد الجبار وهبي، وسعدي يوسف، ورحيم شريف، وكان يُنظر إليه بوصفه دينامو التحرير، لا يغيب عن أي اجتماع، ولا يتأخر عن أي مهمة.

في شهادات رفاقه، يظهر عدنان البراك كما لو كان ناسكًا في محراب الكلمة. قليل الكلام، كثير الفعل. لا يُدخّن، لا يشرب، لا يلهو. زاهدٌ صلب، يرى في الصحافة مسؤولية وطنية لا وظيفة. كان مرجعية لعائلته، وملاذًا لإخوته، ومصدر ثقة حزبية لا غنى عنه.

لكن الظلام عاد في انقلاب 8 شباط 1963، وحلّت المجازر. اعتُقل عدنان من جديد، وتعرض لتعذيب وحشي، ومع ذلك لم يعترف بشيء. قال لجلاديه: “أنا رجل فكر، لا أملك ما يُخيفكم.” وفي يوم أسود، اقتيد مع 36 رفيقًا إلى قبر جماعي في الحصوة، وقيل إنه دُفن حيًا على يد الحرس القومي.

قال عنه أحد رفاقه: “كان يسير إلى الموت واثق الخطوة، صامتًا، مبتسمًا، كأنه يعلم أن اسمه سيُكتب بدمه، لا بحبر مقالاته فقط.”

وهكذا انطفأ جسده، لكن روحه ظلّت مشتعلة في ذاكرة الحزب، وفي ضمير كل من عرفه. بقي عدنان البراك شهيد الكلمة التي لا تموت، وحبرًا نقيًّا لم يمحُه التراب، ولا التجاهل، ولا تقلبات السياسة. إنه درسٌ خالد في أن الصحافة لا تكون حرّة إلا حين تُكتب بكرامة أصحابها، لا بإملاءات السلطة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات