قبل فترة من الزمن تعرض رئيس محكمة جنايات كركوك الى محاولة اغتيال بسيارة مفخخة نجا منه باعجوبة مع ثلاث كسور في فكه وجرح عميق في رقبته بسبب زجاج سيارته الذي تطاير عليه نتيجة الانفجار ، وفي يوم الاحد 1 / 7 / 2012 اوقفت مجموعة مسلحة رئيس جنايات نينوى حينما كان عائدا من محكمته بسيارته الوحيدة وشخص واحد من الحماية فقتلوهما معا بين نقطتين عسكريتين .
وهكذا مرت كل حوادث اغتيالات القضاة سواء من الشباب او شيوخ القضاء الذين لا يمكن ان يعوضوا كالقاضي المبدع حسن عزيز والانسان الرائع والمعلم الكبير عامر النائب والباشا ابراهيم الهنداوي …الخ ، حتى وصل عدد المغدورين من القضاة لاكثر من خمسين قاضيا .
وكان السبب المسهل للاغتيالات المتكررة للقضاة هو تركهم بلا حماية حقيقية ، رغم ان معظمهم يعمل في التحقيق مع الجماعات المسلحة من كل الطوائف والتوجهات ، ويحكم على من يثبت ارتكابه الجرائم الارهابية بالاعدام غالبا تطبيقا لحكم القانون .
فحماية القضاة – الذين يشغل بعضهم مناصب قضائية تعد من الدرجات الخاصة وبعضهم بدرجة وزير – اما غير موجودة اصلا ، او شخص واحد او اثنين على الاكثر ، وهم بلا اسلحة ، ولا اجهزة اتصالات ، ولا مركبات ، في حين توفر السلطة التنفيذية لوكيل الوزير عشرين فرد من الحماية باربع سيارات ، على الاقل احدها مصفحة ، واجهزة اتصال متطورة ، وتوفر للمدير العام خمسة من الحماية المسلحين ومركبتين ، غالبا احدها مصفحة ، واجهزة اتصال ، اما الوزير فله ثلاثين فرد من الحماية وثمان سيارات ، اثنين على الاقل منها مصفحة ، واجهزة اتصال جيدة ، وهذا هو الواقع النظري في السلطة التنفيذية ، اما عمليا فعدد الحمايات غير محدود والاسلحة بكل الانواع بضمنها الثقيلة ، الا ان الغريب هو ان هذه الضوابط التنفيذية تطبق في السلطة القضائية على رئيس مجلس القضاء فقط ، دون غيره ممن يشغلون منصب مساو لمنصب الوزير كاعضاء محكمة التمييز واعضاء المحكمة الاتحادية ، فهؤلاء بلا مصفحات ولا حمايات شبيه بما عند رئيس مجلس القضاء رغم انهم مثلهه موظفين بدرجة وزير ، درجات خاصة كرئيس الادعاء العام ونائبيه .
وبالامس حينما قتل رئيس جنايات نينوى اعتصم قضاة المحافظة احتجاجا على اهمال مجلس القضاء لهم وعدم توفير ابسط متطلبات الحماية اللازمة لهم في بيئة محشوة بالقتل والارهاب وانفلات الوضع الامني ، وقارن احد القضاة بين القاضي وضباط الشرطة وقادتها الذين يعملون بامرة القاضي ، وهم ليسوا الا اعضاء ضبط قضائي عنده ، فقال ان مدير شرطة نينوى يصل موكبه الى اكثر من عشرين سيارة مع حمايات مدججة بالسلاح الخفيف والثقيل ، واذا مر موكبه يأمر القاضي الذي يمر بسيارته الخاصة ( المطركة ) بالتوقف في محله حتى يمر موكب مدير الشرطة ، وكشف مدير الشرطة الغطاء عن الحقيقية في ذلك حينما قال :- ( ان مراجعي توفر لي الحماية الحقيقية ، اما مراجعكم في مجلس القضاء فهي ضعيفة ولا توفر لكم شيئا )
رائع هذا الكلام فهو ( مربط الفرس ) كما يقال ، لكن لماذا يتعمد مجلس القضاء منع توفير حماية حقيقية للقاضي ، ولماذا يصر على عدم توزيع ما يتوفر لديه من ادوات الحماية البسيطة للقاضي ويفضل ركنها ليأكلها التراب او ان يسلمها لموظفين صغار ، اذ استلم مجلس القضاء قبل حوالي شهرين ثلاثين سيارة مصفحة من بركات السلطة التنفيذية على الادارة القضائية لخدماتها الجليلة المعروفة ، كما استلم عدد منها مما تركته محكمة صدام بعد حلها من مجلس النواب ، وذبحت الذبائح احتفالا بهذه المكرمة السخية ، الا ان رئيس مجلس القضاء فضل ان تركن تلك السيارات في السرداب وقرب محل سكنه في المنطقة الخضراء على ان يوزعها لرؤساء واعضاء الجنايات الذين يريد القانون منهم التعامل بشدة مع الارهابيين بالحكم عليهم بالاعدام ، بينما ينتظرهم زملاء المحكومين في نهاية الشارع الذي تقع فيه المحكمة لينفذوا بهم ( اي بالقضاة ) حكم الاعدام قبل تنفيذ حكم بالاعدام بزملائهم الارهابيين الذي حكم القضاة عليهم بالاعدام .
ولم يوزع معالي رئيس مجلس القضاء من السيارات المصفحة غير عدد محدود منها بلا شفافية وبسرية تامة ، وتسربت المعلومات عن ان احدها منحت للناطق الاعلامي باسم مجلس القضاء الذي لم يحكم بجناح بعوضة منذ ان تفضل عليه القائد القضائي الضرورة بلقب القاضي ، وهو يعمل حاليا في مقر مجلس القضاء في عمل اداري بسيط داخل المنطقة االخضراء، لكنه عمل مهم لتلميع الصور البشعة لممارسات الادارة القضائية ومجلسها المسيس ولتغطية الحقائق وايهام الرأي العام باشياء ما انزل الله بها من سلطان ، اما المصفحة لثانية فقد منحها رئيس المجلس الموقر لموظف اداري بسيط من المقربين عليه لا احد يعرف طبيعة عمله لكنه يعمل في المنطقة الخضراء . اما قضاة التحقيق واعضاء ورؤساء محاكم الجنايات الذين مهمتهم الحكم بالاعدام على الارهابيين والذين يعلمون في منطقة حمراء قاتمة فأن الغبار العراقي المقدس اولى بالسيارات المصفحة منهم ، ليأكلها بثواب روح السيد رئيس مجلس القضاء الاعلى عالي المقام ، الذي يرفض عزرائيل ازاحته من صدر القضاء العراقي ، الذي اوصله بحكمته الكلاسيكية وسياسته الانبطاحية للسلطة التنفيذية للحضيض .
ان امتناع الادارة القضائية برئاسة معالي القائد القضائي الضرورة عن توفير حماية حقيقية للقضاة هو شراكة مع الارهابيين في قتل القضاة عن طريق تسهيل مهمتهم في اغتيالهم بجعلهم اهدافا سهلة المنال ، وهو جزء من سياسته لضمان اخضاع القضاة في مملكة للخوف لا يتنفس فيها احد ولا يعترض فيها احد ، اذ سيأتي نقل قاض مغضوب عليه الى منطقة ساخنة اٌكٌله حينما يكون بلا حماية لانه يعرف انه هدف سهل جدا لمن يريد قتله ، اما اذا توفرت له حماية حقيقية فلن يكون النقل مؤثرا فيه .
ان قتل قاض واحد هو خسارة كبيرة للعراق ، اذ لا يمكن توفير بديل عنه مطلقا ، الا ان الحكمة خلف توفير حماية للقضاة ليست حماية القضاة انفسهم فقط ، بل هي لتوفير الحماية للعدالة ، ولضمان سيادة القانون ، فكيف تريد من قاض ان يحكم على ارهابي بالاعدام وزملائه في نهاية الشارع سينفذون بالقاضي حكم الاعدام قبل ان ينفذ بالمحكوم عليه ، والكل يعرف ان بعض القضاة غير المحميين في المناطق التي يسيطر عليها الارهابيون اضطروا الى مجاملتهم تجنبا لشرورهم على حساب القانون .
وفي النهاية فلا يسعني الا ان اكرر:- ان ترك القضاة بلا حماية حقيقية هو شراكة في قتلهم ، وتورط في ارهابهم واستمرار اخضاعهم وخرق استقلالهم ، وهو من جهة اخرى دعم للارهابيين من خلال توفير فرصة افلاتهم من يد العدالة ، اما بقتل القضاة وجعلهم عبرة لغيرهم من زملائهم القضاة ، واما بترك القضاة بيدهم لاخضاعهم واضطرارهم ( اي القضاة ) الى مجاملة الجماعات المسلحة خوفا منهم وتجنبا لشرورهم !!
وللحديث بقيه …