18 ديسمبر، 2024 7:22 م

التأريخ شتاء عام 2014 المكان مدينة كركوك. الأوضاع العامة للبلاد حرجة بسبب الأعمال الإرهابية التي تشل الحياة. كنت في وضع مالي ليس بجيد وأنا أبحث عن عمل ما من شأنه اسنادي لأتحمل مصاريف العائلة والأطفال بعد أن ضاقت بي السبل. أخبرني صديق بأن إحدى الشركات بحاجة إلى مترجم يجيد اللغة التركية الأمر الذي يناسبني تماماً. سارعت إلى العنوان الذي وصفه لي وقدمت أوراقي.
كان هناك شخص واحد فقط قد تقدم إلى هذا العمل، ولحسن حظي أن هذا الشخص ذو قابلية ضئيلة ولا يجيد من التركية إلاّ شيئاً بسيطاً جداً ولا يمكن لمعلوماته هذه أن تسعفه أبداً. هذا المسكين لا يمكنه التنافس معي على الإطلاق، فأنا الذي أعمل في هذا المجال منذ أكثر من خمس وعشرون عاماً ولي العديد من المؤلفات المطبوعة والتراجم المنشورة في المجلات والصحف المعروفة. أنا خبير قضائي مترجم في محكمة استئناف كركوك وأحمل هوية خبير، وهذا المسكين جاء ليجرب حظه. أنا أشفق عليه للغاية لا سيما وقد سالته بعض الشيء بعد أن تحدثت إليه بالتركية ولم يتمكن من النطق الصحيح للكلمات. رغم ضحالة معلوماته فمن حقه وهو شاب وفي مقتبل العمر أن يتقدم للعمل وان يشق طريقه في الحياة.
اللجنة المعدة للاختبار أعطت لنا ورقة فيها سطرين باللغة العربية وطلبوا منا ترجمتها إلى التركية. ولغرض التحقق من قابلية كل واحد منا وضعونا في غرف منفصلة وقمنا بالترجمة. ليس من المعقول أن تعصى عليّ هذين السطرين وانا الذي لي باع طويل في الترجمة التي أقوم بها بكل عشق. لم تستغرق الترجمة سوى بضع دقائق حتى قدمت الورقة إلى أعضاء اللجنة الذين أجلسوني عندهم. بعضهم تعرف عليّ وأثنى على مقالاتي باللغتين العربية والتركية. والآخر قال أنه شاهد مسرحياتي وقرأ العديد من مؤلفاتي. استغرقت الصحبة في هذه الغرفة قرابة الساعة حتى دخل علينا المسكين الذي انتهى من ترجمة السطرين للتو. قال له أحد أعضاء لجنة الاختبار:
– أين كنت يا أخي لقد نسيناك تماماً؟!.
– كنت أترجم ما طلبتم مني ذلك.
ضحك الحاضرون وقد أشفقت عليه فعلاً. فهو شاب يبدو أنه طموح ويريد العمل ولكنه لا يملك الخبرة والمعلومات الكافية لترجمة حتى جملتين باللغة العربية.
على أية حال هذا شأنه فليس لي أن أترك العمل له فانا أيضاً بحاجة ماسة إلى هذا العمل خصوصاً بعد أن كبر الأولاد وأصبحت لهم مصاريف جدية.
اللجنة طلبت منا مراجعتها بعد يومين لغرض معرفة النتيجة. قالوا إذا كانت النتيجة إيجابية لأي منا فعليه الشروع في إكمال المعاملة لغرض البدء بالعمل. غادرنا المكان على أمل العودة بعد يومين.
لم أكن قلقاً قط بخصوص النتيجة. لكنني كنت أدعو الله أن يسهل أمر هذا الشاب الذي جاء يبحث عن عمل. قد يكون مسؤولاً عن عائلة أو يتحمل مصاريف أمه وأبيه أو ينفق على أقارب له.
انصرفت الساعات وانقضى اليومان وجاء موعد المراجعة. ذهبت إلى هذه الدائرة وأنا أحمل بيدي كل مستمسكاتي وشهادتي الجامعية. حملت معي كل النسخ الأصلية مع استنساخ لكل مستمسك عسى أن يطلبوه مني هناك، فأنا على عجالة من أمري للبت بالعمل وليس لدي أدنى خوف فأنا من سيحظى بهذا العمل دون شك.
يبدو هذا الشاب قد سبقني إلى مكتب العمل. ما أن دخلت الدائرة وجدته يتنقل بين غرفة وأخرى وهو يحمل بيده أوراقا مختلفة. ألقيت عليه التحية من بعيد وهو ردها بابتسامة وهزة برأسه. دخلت غرفة الإدارة وقد استقبلتني الموظفة بحرارة بالغة. بالطبع يكون الاستقبال حاراً فأنا من سيعمل لديهم في قادم الأيام وأنا أعتبر الآن زميلاً لهم. أجلستني الموظفة وأكرمتني بقدح من الشاي ثم قالت لي:
– يؤسفني أن أخبرك بأنك لم تكن محظوظاً في الاختبار. نحن واثقون بأنك على قدر عال من الخبرة والدراية ومن السهل عليك إيجاد فرص أخرى في مكانات أخرى. شكراً لحضورك.
بعد هذا الأسلوب المهذب فهمت أن الشاب الذي كنت أدعو له بالتوفيق قد وفق فعلاً وهو يحمل أوراقه الآن متنقلاً بين غرفة وأخرى لإتمام معاملته والبدء بالعمل.
وأنا خارج من الغرفة تقابلت مع هذا الشاب عند عتبة الباب. ركز النظر في عيناي التي تملئها الدهشة وقال لي بكل برود وهو يشفق عليّ بعد أن ثقلت موازينه وخفت موازيني:
– الله يوفقك عمي، إن شاء الله تلكي شغل أحسن من هذا.