سبق وكتبت عدة مقالات عن عقوبات الاعدام ومدى همجيتها وتعارضها مع حقوق الانسان التي اقرتها المواثيق الدولية والاعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948. وان استمرار النظام السياسي الطائفي في العراق على نهجه الدموي في تصفية خصومه من الطائفة الاخرى بشتى الوسائل ومنها عقوبة الاعدام، جعل العراق في منزلة اسوأ الدول التي تنتهج هذا النهج كما ستشير الى ذلك منظمة العفو الدولية في تقريرها هذا الاسبوع الذي اشارت اليه جريدة الاندبندنت البريطانية يوم 7/4/2013.
ذلك يدفعني الى الكتابة من جديد لغرض تسليط الضوء على جسامة هذه الجريمة (الاعدام) الصادرة من القضاء الاستثنائي الجنائي العراقي (محكمة الجنايات المركزية) المحرمة دوليا وبموجب المادة 92 من دستور دولة العراق الطائفية، الا انهم يتجاهلون ذلك لانه لا يحقق مآربهم الشريرة.
مهما كانت طبيعة القوانين العقابية في اي دولة متقدمة في دقتها في تحقيق العدل، فانها عاجزة تماما عن تحقيق العدالة لانها (القوانين) تأتي بقواعد عامة شاملة مجرده يجري تفصيلها وتطبيقها على كل قضية تبعا لظروف الجريمة والمجرم من قبل المحكمة الجنائية المختصة، ولهذا الغرض تأسست السلطة القضائية التي من شأنها تحقيق العدالة التي يعجز القانون المجرد عن تحقيقها، فما بالك في دولة طائفية دكتاتورية فاسدة كالعراق فرضت ما يسمى “قانون الارهاب رقم 13 لسنة 2005” الذي في جوهره قانونا لارهاب الشعب العراقي لمخالفته مبدأ الشرعية الجنائية “لا جريمة ولا عقوبة الا بنص” وهو مبدأ اقره القانون الجنائي الدولي وجميع دساتير دول العالم بما فيها دستور العراق الطائفي.
النص الجنائي يجب ان يكون دقيق للغاية وواضح ولا يقبل التأويل او الاجتهاد لكي لا يشمل افعال مباحة كما هو حال هذا القانون الجائر الذي اصبح الوسيلة الاجرامية السهلة بيد مليشيات النظام الامنية وقضاءه الاستثنائي لتطبيقه على اي فعل من الافعال المباحة بهدف تصفية خصومهم من الطائفة الاخرى ولدرجة اطلق على المادة (4) منه عبارة “4 سنة”..! اي انه جاء لاستهداف وتصفية طائفة السنة في العراق,
ان اغلب الدول في العالم قد الغت هذه العقوبة الجائرة لتكريسها النزعة الانتقامية وعدم تحقيقها العدالة والمنفعة المرجوة في المجتمع، واستبدلتها بعقوبات مختلفة اخرى قد تصل الى السجن المؤبد بناءا على دراسات ونظريات واحصائيات عبر قرون عديدة وعلى وجه الخصوص ما بعد القرون الوسطى، وبالرغم من تمتع هذه الدول باستقرار سياسي واقتصادي واجتماعي عالي المستوى وبتشريعات رصينة صادرة من سلطات تشريعية منتخبة من الشعب على اسس المواطنة واجهزة قضائية وتنفيذية في غاية الكفاءة والنزاهة.
ولو استقرأنا اهم الاسباب التي دفعت هذه الدول وعلى رأسها الامم المتحدة على الغاء عقوبة الاعدام لوجدنا اهمها تنحصر بما يلي:
1- كل انسان يحمل صفات مادية ثابتة يستحيل ان تتشابه مع اي انسان اخر منذ بدأ الخليقة وحتى فناء العالم فلا يمكن تشابه بصمات الاصابع واللعاب والعرق وبؤبؤ العين والدم …الخ، وكذلك فان الانسان يحمل من الصفات الوراثية من اسلافه التي من المستحيل ان تتطابق مع اي انسان اخر منذ ان خلق اول انسان ولحين فناء البشرية، وهذه الخصوصية الوراثية تجعل من سلوك اي انسان يحتلف عن الاخر ولا يمكن ان يتطابق الاخوة في السلوك، لان الاستعدادات الوراثية تدفع كل شخص ان يسلك سلوك يختلف عن الاخر وقد تكون بالضد من الاخر. كما ان العوامل الاجتماعية والبيئية والصحية تتفاعل مع العوامل الوراثية وتؤثر احدهما بالاخرى لكي تخلق من الانسان نسيج خاص في المجتمع.
لذا يلزم ان ننظر الى الانسان ككائن معقد التركيب للغاية، يتحدد نمط سلوكه داخل المجتمع تبعا لتأثير صفاته الذاتية وظروفه الخارجية. وان حرية ادراكه وارادته هي من اهم عناصر تحديد المسؤولية الجنائية، وهي تعتمد على مدى تأثرها باستعداداته الذاتية الموروثة ومدى تقبله للظروف المحيطة به، وتبعا لذلك فان جزء من مسؤليته الجنائية تتحملها الدولة والمجتمع من خلال اعادة تاهيله واصلاحه وبالتالي فان ازهاق روح انسان “باعدامه” عن ارتكابه اي جريمة ومهما كانت جسامتها، دون الاكتراث بالعوامل المذكورة اعلاه هو فعل قتل مع سبق الاصرار تحت غطاء “تطبيق العدالة”.
2- تبعا لما جاء بالفقرة الاولى اعلاه، استقرت السياسة الجنائية في العالم وفق احدث النظريات والدراسات بان من اهم اهداف العقوبة هي الاصلاح واعادة تأهيل المحكومين واعادتهم الى المجتمع كعناصر نافعة لكونهم يعانون من خلل في السلوك لاسباب وراثية ذاتية وظروف خارجية محيطة بهم التي تتحملها الدولة والمجتمع. فهل عقوبة الاعدام تحقق هذا الهدف (الاصلاح)..؟ واذا تجاهلنا تحقيق هذا الهدف..فماذا سنحقق من عقوبة الاعدام غير الانتقام بيد الدولة..؟
3- المحققون في الجرائم هم بشر، وكغيرهم يتميز اي شخص منهم بمميزات خاصة (نسيج خاص) ، قد يشكل هذا النسيج الخاص خطرا على حياة الاخرين من خلال ممارسته واجباته الوظيفية تبعا للعقد النفسية المتأثرة بمليارات العوامل الذاتية التي يحملها والظروف المحيطة به. فمن الممكن لبعض المحققين وفي اكثر الدول تقدما، كبريطانيا العظمى، ان يلجأ الى التلاعب بالادلة المادية التي تثبت براءة او ادانة المتهم، وهناك امثلة واقعية عديدة لا مجال للخوض بها هنا، ويمكنني القول ان المحقق يستطيع ان يستبدل الرصاصة المستخرجة من جسم المجني عليه او استبدال طبعات الاصابع او الدم او اي دليل مادي اخر وجد في مسرح الجريمة بادلة مادية اخرى لغرض الصاق الجريمة او ابعادها عن متهم معين. وان الدوافع لمثل هذ السلوك لا حصر لها، وقد تكون احيانا لاسباب سخيفة وتافهة جدا هي لاثبات المحقق كونه كفوء واكتشافه جريمة غامضة.
4- ما ينطبق على المحقق ينطبق على القاضي الجنائي عند نظره في اي قضية، فهو يخضع لاعتبارات عديدة كأنسان، لذا فان معايير تحقيق العدالة تختلف من محكمة الى محكمة اخرى. فلا توجد عدالة مطلقة، فالمتهم الذي يحكم بالاعدام عن جريمة قتل في محكمة جنايات معينة، قد يحكم بالحبس او البراءة عن نفس الجريمة في محكمة جنايات اخرى. وهناك قضايا عديدة تثبت ذلك عند الرجوع الى القرارت التمييزية.
5- العامل الاقتصادي يلعب دورا مهما في توجيه سير العدالة في اكثر دول العالم تقدما. فالمتهم الثري لديه الامكانية المالية في اعتماد المحامين الكفؤين للدفاع عنه وتحقيق افضل ما يمكن من عقوبات بحقه بينما المتهم الفقير يكون ضحية المحامين الجهلاء وقد يتسببون بكارثة عقوبة الاعدام بحقه.
6- تبين احصائيات المنظمات الدولية الانسانية، كمنظمة العفو الدولية، بان نسبة الجرائم الخطيرة، كجرائم القتل مع سبق الاصرار، هي اعلى من الدول التي الغتها من تشريعاتها الجنائية، وان العقوبات البديلة كالسجن المؤبد هي اكثر فاعلية في تحقيق الردع العام والخاص.
نرى ان اغلب دول العالم التي تتمتع بانظمة ديمقراطية وقضاء محايد ومستقل ونزيه وتضمن حماية اقتصادية وقانونية مجزية للمتهمين قد الغت عقوبة الاعدام من تشريعاتها الجنائية، بينما نجد الانظمة الدكتاتورية والطائفية التي ينخر الفساد جميع مؤسساتها وان اكثر من 50% من شعوبها تحت خط الفقر وتمارس اجهزتها التنفيذية والتحقيقية شتى صنوف التعذيب الوحشي والهمجي في انتزاع الاعترافات من المتهمين الابرياء ما زالت متمسكة في عقوبة الاعدام مما يؤدي ذلك الى اعدام الالاف من الابرياء وخير مثال على ذلك ما يجري في العراق منذ عقود من الزمن بشكل عام، ومنذ الاحتلال عام 2003 ولحد الان بوجه خاص. ومن الغريب والمستهجن جدا يطل وزيري العدل وحقوق الانسان اللذان ينتميان الى احزاب طائفية تابعة للنظام لمباركة هذه الاعدامات والتوعد بالمزيد منها ويتجاهلون بانهم يشتركون بجرائم القتل العمد مع سبق الاصرار مما ستجعلهم تحت طائلة المسؤلية الجنائية.
كما ان مسؤلية السلطة القضائية قائمة لان القضاء هو الملاذ الاخير امام المظلومين في تحقيق العدالة من جور وظلم السلطات الاخرى في الدولة. وان كانت القوانين جائرة كما هو حال قانون الارهاب، فان دور السلطة القضائية ضروري وحاسم في تحقيق العدالة باللجوء الى السلطة التقديرية التي يتمتع بها القاضي في تخليص المظلومين من التهم الزائفة والعقوبات الهمجية.
القاضي يقتضي ان يتقيد بمبدا الشرعية الجنائية (لا جريمة ولا عقوبة الا بنص) ويمتنع من تطبيق قانون الارهاب الذي جاء بنصوص فضفاضة غير دقيقة مما تتناقض مع هذا المبدأ وذلك ما اشارت اليه المفوضية السامية لحقوق الانسان في الامم المتحدة وجميع المنظمات الدولية الانسانية كمنظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الانسان الدولية.
كما على القاضي ان يتقيد حرفيا بالمبدأ العام “الشك يفسر لصالح المتهم”. فاذا ما ساور القاضي الشك حول التهمة الموجهة للمتهم بنسبة اقل من 1% اكرر اقل من 1% فان هذا الشك من شأنه ان يبرئ المتهم من التهمة الموجهة اليه.
كيف يحكم القاضي بعقوبة الاعدام ولا يساوره الشك 100% وهو يعلم ان الاعترافات منزوعة من المتهم عن طريق التعذيب الوحشي والبربري واغلب المتهمين يعانون من اثار التعذيب اثناء المرافعة..؟!
كيف يحكم القاضي بعقوبة الاعدام اذا ما كان “نزيها” ولا يساوره الشك 100% وهو يعلم بان جميع مفاصل الدولة وعلى وجه الخصوص الاجهزة الامنية والتحقيقة ينخرها الفساد وتقلب الاسود ابيض وبالعكس..؟!
كيف يحكم القاضي بعقوبة الاعدام اذا لم يكن “طائفيا” ولا يساوره الشك 100% وهو يعلم ان نظام الحكم طائفيا وتقوده احزاب ومليشيات طائفية توظف جميع امكانياتها لتصفية الطائفة الاخرى بالصاق التهم المفبركة ضدها..؟!
كيف يحكم القاضي بعقوبة الاعدام ولا يساوره الشك 100% وهو يعلم بان من اجرى التحقيق مع المتهمين هم جهات عسكرية غير مؤهلة وغير مخولة خلافا لاحكام قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة1971 ..؟!
ماذا سيكون دفاع القاضي الذي اصدر احكام الاعدام جزافا وفق ادلة ومعايير باطلة ودون الاكتراث لتقارير المنظمات الانسانية الدولية وبالضد من الشرائع السماوية واحكام القانون الدولي الانساني وعلى وجه الخصوص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966، ولا يكلف نفسه حتى باستخدام سلطته باللجوء الى الاعذار القانونية المخففة وفق المادة 130 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 او الظروف القضائية المخففة المنصوص عليها بالمادة 132 من القانون المذكور رغم كل ما يجري حوله من ظلم واستبداد..؟؟!!!
ان احكام الاعدام هذه تشكل جرائم قتل عمد مع سبق الاصرار وسيتحمل من اصدرها المسؤلية الجنائية ان عاجلا او اجلا.. ولكم من التجارب موعظة يامن ابتلى بكم هذا الشعب المسكين.
* رئيس جمعية الحقوقيين العراقيين – بريطانيا