من أروع العبارات التي وقفت عندها طويلاً قول ابن حجر العسقلانيّ رحمه الله: (من تكلّم في غير فنّه أتى بالعجائب)!
وعبارة ابن حجر يمكن استعارتها لتوصيف بعض ما يجري من توزيع وظيفي في العراق حيث إنّنا، ومنذ العام 2004، أمام عمليّة تدوير لذات الأشخاص في مناصب الدولة الداخليّة والخارجيّة!
في العرف الدبلوماسيّ تُعدّ السفارات والقنصليّات والسفراء بمثابة وجه الدولة التي يمثّلونها، وليس مجرّد (وظيفة دبلوماسيّة توافقيّة) من حصّة هذا الحزب، أو ذاك.
لاحظنا في السنوات الماضية أنّ العديد من رجال أحزاب السلطة، ودون حصولهم على أيّ مؤهّلات علميّة، أو فنيّة، تسنّموا عدّة مناصب حسّاسة، وحينما نحاول الاعتراض، ولو عبر بعض النقاشات مع بعض السياسيّين، نجد أنّ بعض المتحزّبين يدافعون عن هذه الآليّة لأنّ منْ يُدافعون عنهم هم جزء من منظومتهم الحزبيّة، ولهذا نراهم يدافعون عن هذا النمط الوظيفيّ الخاطئ، والمدمّر، ولو على حساب انهيار بنية الدولة العراقيّة!
وبعيداً عن تحديد الأسماء المقصودة من الكلام، فإنّ وجبة الدبلوماسيّين التي رشّحت مؤخراً لتمثيل العراق في بعض الدول القريبة والبعيدة كسفراء تجبرنا على الوقوف عندها، ووضع مئات علامات الاستفهام والتعجّب، لأنّ غالبيّة هؤلاء لا يمتلكون مؤهّلات كافية لتمثيل العراق في المحافل الدوليّة، بل ولا يمتلكون حتّى المؤهّلات الأوّليّة لمناصب أقلّ بمراتب كثيرة من هذه المهمّة الوطنيّة التي تقترن بالعراق؛ لأنّ الدبلوماسيّ هو ممثّل الوطن في المحفل الذي يتواجد فيه!
المعيار الأبرز في تنصيب جميع هؤلاء هي (حصّة) أحزابهم في العمليّة السياسيّة، وكأنّهم يصلحون لكلّ المناصب، وأنّ العراق ليس فيه سوى هؤلاء الذين يتقلّبون في مناصب لا تمت لإمكانياتهم بصلة، من حيث الاختصاص، أو اللباقة واللياقة المطلوبة لمثل هذه المهام الرسميّة!
ونحن يمكننا تقبّل أنّ أكاديمياً مخضرماً يكون سفيراً، أو أنّ ضابطاً كبيراً يكون ملحقاً عسكريّاً، أو أنّ أديباً مثقفاً يكون ملحقاً ثقافيّاً في هذه الدولة، أو تلك، لكن لا يمكننا تفهّم أنّ ناطقاً سابقاً باسم إحدى الحكومات السابقة، وهو متّهم بقضايا فساد ماليّ وإداريّ، وسبق أن صدرت بحقّه مذكرات اعتقال لهذه الأسباب، نجده اليوم يمثّل العراق كسفير في دولة مهمّة وحسّاسة في المنطقة!
المزعج أنّ تعيينات السفراء، ومنذ عشر سنوات تقريباً، تثير أزمة متجدّدة في الأوساط السياسيّة والشعبيّة، ورغم ذلك، الذي يريده (الكبار) هو الذي يكون، وكأنّهم ينفّذون سياسة: ” تريد أرنباً خذ أرنباً… وتريد غزالاً خذ أرنباً”!
وخلال الأيّام الماضية اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعيّ موجة سخريّة كبيرة بعد أن ذكرت إحدى الشخصيّات غير المؤهّلة لأيّ عمل دبلوماسيّ، أو لأيّ درجة خاصّة أنّه سيكون سفيراً للعراق في إحدى الدول العربيّة، وكأنّ هذه المناصب هي مناصب ترويحيّة، وليست مهمّة وطنيّة لتدعيم علاقات العراق مع الدول الأخرى، التي تمتاز- في غالبيّتها العامّة، ومنذ العام 2003- بالهشاشة، ولهذا ينبغي اختيار الشخصيات المميّزة لهذه الوظائف حتّى نرتقي بعلاقات العراق مع دول العالم المختلفة.
حينما يكون السفير، أو القنصل واعياً ومهذباً، ويمتلك جملة من القيم الوطنيّة والإنسانيّة يمكنه أن يؤدّي واجبه في إبراز صورة الوطن وخدمته، وبموازاة ذلك في مساعدة وخدمة أبناء الجالية في البلد المتواجد فيها!
السفير، أو القنصل الذي لا يفقه حقيقة مهمّته النبيلة ينبغي أن يُعلّم، وكافّة موظّفي السفارة، أو القنصلية، أنّهم خيمة للمواطنين في تلك البلدان، وليسوا ممثلين لأحزابهم، ويتعاملون مع الناس بهمجيّة لا مثيل لها!
وظيفة العمل الدبلوماسيّ خدمة الوطن والناس، وهذا لا يُذكر اليوم إلا في بعض السفارات والقنصليّات العراقيّة، وإلا فإنّ الكثير منها عبارة عن محطّات ترفيهيّة رسميّة لموظّفين (دبلوماسيّين) ضاربين للقيم الإنسانيّة في تعاملاتهم مع المواطنين، وهذه السلوكيات السلبيّة ستغذّي حالة الاقتلاع والاغتراب، أو الهروب من الوطن!
ينبغي على حكومة بغداد، ومجلس النوّاب- إن كانوا حريصين على بناء الدولة- استبعاد السلك الدبلوماسيّ عن التفاهمات الطائفيّة والقوميّة، وتقديم الكفاءات الوطنيّة لهذه المناصب الدقيقة.
فهل سيفعلون؟