علاقة الموت مع العراقيين وطيدة ولقد تعودوا عليه من كثرة الحروب والمآسي التي مرّت عليهم طوال عقود طويلة من الزمن, ولكن حادثة عبّارة الموت في نينوى كان لها طعم مرّ يختلف عن كل الكوارث السابقة فالضحايا معظهم من الأطفال والنساء ذهبوا في أول أيام الربيع للاحتفال في جزيرة أم الربيعين المتنفس الوحيد لأهل نينوى بعد أن دمّر الارهاب محافظتهم بالكامل,استعدوا من أيام لهذه النزهة ولبسوا أجمل الثياب وكانوا فرحين وهم يركبون العبّارة وعيونهم صوب الجزيرة والألعاب ولايعرفون أن الموت ينتظرهم وأنهم لن يصلوا الى الطرف الآخر وستبقى السفرة والنزهة غُصّة في نفوسهم البريئة,دقائق معدودة لمن شاهدها ولكنها من المؤكد كانت طويلة جداً على الضحايا وهم يصارعون الموت ويصارعون أمواج دجلة الذي أحبوه دائماً وعشقوا مائه وضفافه وطالما تغنّوا بجماله وعطائه, ولكن هذه المرة كان حبيبهم غاضباً وقاسياً فابتلعهم في منظر مؤلم وقاسٍ لن ينساه كل العراقيين, وتجاوز عدد الضحايا أكثر من مائة غريق معظمهم من الأطفال والنساء اضافة الى عدد غير قليل من المفقودين, ولذلك من المحتمل أن يرتفع عدد الضحايا في الأيام القليلة الى عدد أكبر.
الفاجعة حدثت وأصبحت من الماضي ولكن يجب أن نتوقف عندها ولا نجعلها تمرّ مرور الكرام ويجب أن نشخص أسبابها الحقيقية ونحدد المتورطين والمتهمين في هذه الجريمة البشعة التي لاتقلّ بشاعة عن كل ما ارتكبه داعش وفي اعتقادي ان أهم أسباب الفاجعة هي:
ضعف هيبة الدولة وهذا هو أهم الأسباب لأن هيبة الدولة لو كانت موجودة لما تجرأ أحد على مخالفة أوامر الدولة وتعليماتها ولما تم الاستهانة بالقانون وبأرواح الناس البريئة ولما حدث التقصير في الأمور التي سنذكرها في النقاط التالية.
سوء الادارة من قبل الحكومة المحلية في نينوى ويشمل المحافظ ومجلس المحافظة بشكل أساس لما ظهر من تخبّط في التصريحات وتراشق في الاتهامات بين المسؤولين وضعف دورهم المطلوب في الرقابة على تطبيق القوانين والتعليمات والحفاظ على سلامة وأرواح المواطنين.
تقصير وزارة النقل ومؤسساتها التابعة وخاصة المرتبطة بقضية النقل النهري وعدم متابعتها شروط السلامة الواجب توفرها في وسائط النقل النهري من شروط أمان عامة ومن عدم توفر ستر النجاة وغيرها وانعدام المراقبة والمتابعة والزيارات الدورية وخاصة أن القضية ترتبط بحياة المواطنين وسلامتهم.
عدم امتلاك الجهة المستثمرة للجزيرة اجازة رسمية من قبل الحكومة المحلية وهذا حسب ماجاء بتصريحات المسؤولين في المحافظة بحجة أن المستثمرين مرتبطين بجهات حزبية متنفذة ويعتبرون أنفسهم فوق القانون وهذا حدث بسبب غياب هيبة الدولة.
تقصير من قبل وزارة السياحة ودوائرها التابعة لها لأنها لم تتابع شروط السلامة والأمان في المنشئات السياحية والظاهر أن هناك غياب للمراقبة والمتابعة ماجعل أصحاب الجزيرة وأصحاب العبّارات ينقلون على ظهورها أضعاف طاقتها الاستيعابية مستخفين بأرواح المواطنين بسبب الجشع والطمع مستغلين عدم وجود أية رقابة فعلية.
التقصير الكبير والرئيسي من قبل أصحاب الجزيرة المستثمرين الذين اعتبروا أنفسهم فوق القانون والرقابة بسبب انتمائهم لأحزاب متنفذة ماجعل طمعهم وجشعهم وتفكيرهم بالمال يدفعهم لاهمال كل التعليمات والتوجيهات وشروط السلامة والأمان والتي أدّت الى حدوث الكارثة.
تقصير من قبل وزارة الموارد المائية بخصوص التنسيق المباشر مع المحافظة ومجلس المحافظة والدوائر المختصة حول قضية المخاطر الناتجة عن زياد الاطلاقات المائية من سد الموصل والتي من المعروف أن حجم الاطلاقات عندما يصبح ألف متر مكعب بالثانية فهذا يعدّ معدل خطر ويجب توخي كل درجات الحيطة والحذر ومنها اغلاق المنشئات السياحية الموجودة على نهر دجلة ومنع استخدام المراكب والزوارق الكبيرة, ومابالك اذا كان حجم الاطلاقات المائية في يوم الحادث ألف واربعمائة متر مكعب بالثانية وهذا يعني أن هذا المعدل أكبر من معدل الخطر بكثير ولايكفي أن تقوم الوزارة أو ادارة السد بتوجيه كتب ادارية بالتنبيه على ذلك والمفروض أن تكون هناك متابعة مباشرة مع الجهات المختصة.
تقصير من قبل وزارة الداخلية في اهمال تجهيز الشرطة النهرية بأبسط المعدات اللازمة للتعامل مع هذه الكوارث وأهمها عدم تجهيزهم بأية زوارق نهرية ما جعل دورهم مفقود تماماً في يوم الفاجعة.
على الحكومة والبرلمان التعامل مع هذه الفاجعة بجدية كبيرة وعدم جعلها تمر مرور الكرام والاكتفاء بالتنديد وتراشق الاتهامات فالمطلوب اجراءات حازمة وشديدة مع كل من تسبب في ازهاق أرواح الأبرياء وعدم جعل القضية تسّوف كسابقاتها عن طريق التدخلات والضغوط الحزبية لأن الجميع ينتظر قرارات الحكومة, والأهم من هذا كله على الحكومة الاستفادة من هذه الكارثة في اعادة أوراقها ووضع استراتيجية كاملة ومحكمة لعمل جميع المنشئات السياحية وكذلك جميع المنشئات التي يرتبط عملها بتماس مع حياة المواطنين والتركيز على توفير وسائل وشروط الأمن والسلامة العالمية حفاظاً على أرواح المواطنين والتركيز على أن أن تأخذ كل وزارة ومؤسسة حكومية دورها الحقيقي في تفعيل هذه التعليمات والرقابة على تنفيذها ووضع الضوابط لمحاسبة المخالفين لها بشدة وقسوة, ولتكن حادثة عبّارة الموت جرس أنذار حقيقي يدق في أروقة كل وزارات ومؤسسات الدولة معلناً بقوة بأن حياة المواطن العراقي أغلى وأثمن من كل مصالحهم وفسادهم ومناصبهم وأحزابهم.