عبير حسن علَّام: حين تُصبح الكتابة ضوءًا في ظلمة الخراب!

عبير حسن علَّام: حين تُصبح الكتابة ضوءًا في ظلمة الخراب!

في زمنٍ تزاحم فيه المعنى بِسلَّةٍ واحدة من قطاف الشعر، في زمنٍ يتكاثر فيه القول ويتناقص فيه الصدق، تنهض عبير حسن علَّام” بِوصفها صوتًا من الأصوات القليلة التي لا تكتب، بل تنزف، ولا تنسج صورها الشعرية، بل تستلُّها من نخاع التجربة. شاعرةٌ لا تنتمي إلى مشهدٍ ثقافي رتيب، بل إلى ذاكرةٍ تحترق وتُقاوم في آن. هي ليست فقط ابنة بيروت – المدينة التي لطالما رثاها الشعراء– بل هي نفسها بيروت كما لو خُلِقَت من ضلعها المجروح:امرأة من نارٍ ودم، تشتهي الحياة كما يشتهي الغريق الهواء.

في نصوصها لا نجد حبرًا، بل حطامًا يحاول أن يستعيد صيغته الأولى. عبير تكتب كمن يتوضَّأ بالوجع، تكتب بوعيٍ مرﱟ، لا يخدعه المجاز، ولا تهادنه الزينة البلاغية. كلماتها أقرب إلى مقاماتٍ ابتهالية تلهث خلف رؤيا لم تكتمل، خلف يومٍ ترتق فيه خيبتها بإبرة الشعر. تقف في عتمتها شاعرةًلا تستجدي النور، بل تُنقّب عنه في باطن اللغة. في عالمٍ هاربٍ من ذاته، تمسك عبير بالقصيدة كما يمسك الغريق برئةٍ ثالثة:

“وإن كنتَ تخطئ الضَّبط جهلًا بالسياقات،

فإنّي أتلمَّس الحركاتِ لإعراب وقتي في غيابك

كأعشى يتحسَّسُ عينَيه في الظلام” (من قصيدةٍ نثريةٍبِعنوان “ما تبقَّى” في مجموعة “دمشقي وأنت” – غير منشورة حتى الآن)

إنها شاعرة القلق النبيل، حيث تتحوَّل الحروف إلى كائنات قلقة بدورها. لا تستقرُّ في شكلٍ لغوي نهائي، بل تتململ من سطوة الصياغة، وتطمح إلى البوح العاري. تقول: “أمَّا الزمان والمكان، فلا تُنذرُ سحنتهما بخيرٍ، وعمَّا قريبٍ قد يحدث انقلابٌ كونيٌّ متفجّر احتجاجًا على ما آلت إليه لقاءاتُنا… أنقذني، أنقذ بعضنا” (نبض الأزرق – ص 39 و40) كأنَّها لا تكتب المستقبل، بل تحذّر منه. وفي موضع آخر، تُعرﱢي اللغة من زيفها، وتعيد بناءها كما يبني الناجونجدارًا في وجه الطوفان: “نعم، كانت حقيقةً. كانت يقينًا كالأوحد على بطاقاتٍ سافرت كثوابت مأجورة، وصاحبها في قاعة الوصول ينتظر المغادرة”(نبض الأزرق – ص 46).

عبير حسن علَّام” لا تكتب الشعر فحسب، بل تُقيم فيه. في كل نصﱟ، تفكّك اليقين، وتعيد ترتيب الخسارات، وتبني من هشاشتها قصرًا للمعنى. ولعلَّ سؤال هذه المقالة يتمحور حول هذا:
كيف تتحوَّل الشاعرة من ذاتٍ موجوعة إلى ذاتٍ مُؤسّسة لخطابٍ شعري يتجاوز التوثيق إلى التجلّي؟ وكيف تصوغ من حبﱟ مُنتهَكٍ، ووطنٍ منكوبٍ، وقلبٍ منهَكٍ، رؤيةً شعرية متماسكة، تقيمُ توازنها بين الانكسار والانتصار؟

الهرمل البقاعية: الأرض التي كتبت عبير قبل أن تكتبها هي:

لكلﱢ شاعرٍ جذرٌ أوَّل، مكانٌ لم يكن قد اختاره. لكنَّ المكان هنا اختارها، وربَّى فيها الشعر قبل أن تنطق الحرف. بالنسبة لـِ “عبير حسن علَّام، لا يمكن فصل التجربة عن الأرض التي كتبتها قبل أن تكتبها هي: مدينة الهرمل القريبة من بعلبكَّ، حيث تنفَّس الشعر ترابَه الأوَّل، وحيث حمل النهر _العاصي _ ما يشبه وصايا الطفولة والهدوء الأوَّل قبل العاصفة.

“كنتِ المدى حين الهمومُ تلبَّدت        

وكهرملي تشفي يتيمًا جُرﱢحا” (من قصيدة “بعلبك” – غير منشورة)

في الهرمل، لم تكن البيئة مجرَّد خلفيَّةٍ لمشهد الطفولة، بل كانت مناخًا نفسيًّا روحيًّا كاملًا، يهيّئ الداخل الإنسانيَّللانتباه، للقلق، للشفافية، وللدهشة الأولى. فالهرمل ليستسهلًا فسيحًا وخضرةً دائمة فحسب، بل هي حالة شعورية تشبه صلاة طويلة على حوافﱢ الصمت حيث تستيقظ المفردات من سباتها، وتتعلَّم اللغة كيف تتنفس قبل أن تُكتَب: “لم أعرف سواكَ كائنًا نهريًّا شجريًّا شجَنيًّا كمثل تماوج روح النسائم الألوهية في قريتنا المائية. (نبض الأزرق – ص 102).

إنَّ عبير _ابنة هذا المكان_ قد وُلدت شعريًّا من رحم تلك الأرض المستقرَّة على كتف النهر. المكان هنا ليس ديكورًا، بل عنصرٌ تكوينيٌّ، يعلّم الإحساس كيف ينمو، ويزرع في المخيّلة بذورًا أولى تينع لاحقًا في القصيدة. وربما لهذا السبب، يأتي نصُّها محمَّلًا بماء العاصي، وبتربة البقاع، وبسكون البيوت التي لا تبوح، بل توحي: “هل تطاول الحور قرب بيتي ليلقيَ سلامًا على سحر نومكَ بعد سفر؟

وهل تمرُّ بباب الليالي كما كنتَ حين الجنون اختمر؟

أخبرني عن بيتي، عن أهلي، عن وطني، عن ولدي، عن تربةٍ في حديقة أبي دفنتُ طيَّها كبدي”. (نبض الأزرق – ص 124).

وإذا كان المناخ النفسيُّ شرطًا أوَّليًّا في الإبداع _كما يقول النقَّاد_ فإنَّ عبير قد وُهبَت هذا الشرط منذ البدء، فحملت الطمأنينة المتأمّلة، لا السكون الخامل، وجاءت إلى القصيدة لا بصوت المدينة الصاخب، بل بصوت الأرض حين تُنصتُ لما لم يُقَل بعد.

البدايات النثرية: عبير حسن علَّام وميلاد الصوت من رحم الانكسار

لا تبدأ عبير حسن علَّام بالشعر من مقام العافية، بل من نقطة انكسارٍ حادﱟ، ومن شعورٍ مُتراكمٍ بأنَّ العالم لا يمنح اللغة حقَّها إلا حين تُنزف. بداياتها النثرية لا تبدو طارئة أو تمهيدية، بل هي التربة الأولى التي نبتت فيها قصيدتها الشعرية لاحقًا، بأسئلتها القلِقة، ومجازاتها الجريحة.

في مجموعاتها الأولى _وثمَّ في نبض الأزرق”_ تتَّضح ملامح هذه البداية بجلاء: نثرٌ يختزن من الشعر جرأته على الاقتراب من الذات، وعفويته المتوهّجة، وقدرته على تحويل العادي إلى كثافة وجودية. لكنَّها لا تكتب النثر على هيئة مقالة وجدانية، بل كشعرٍ يتخفَّى في هيئة السرد، كصرخة مشتهاة في جسد النص: “كم قلتُ في بلادةِ “إلى اللقاء”: إبقَ بعينيَّ هذا المساء”. (نبض الأزرق – ص 99)، “الوقت عرَّابُ الصمت” (نبض الأزرق – ص 128).

عبير لا تُخفي أنَّ البداية مع النثر لم تكن خيارًا جماليًّا بقدر ما كانت خيارَ نجاة. لقد كتبت _كما تشير في إهداء كتابها “نبض الأزرق”_ لأنَّ الألم “موغل في النزف”، ولأنَّالقصيدة لم تكن لتحتمل في بدايتها كل هذا الحِمل الثقيل. فكان النثر عندها هواءً أوَّليًّا قبل استواء الصرخة الشعرية.

لسنا كُتَّابًا إذًا، بل نحن مكاتيب.
من قال إنَّنا نَكتب!!؟
نحن نُكتَب… أقدارُنا تكتُبُنا…”( نبض الأزرق ص 146)

إنَّ نثر عبير الأوَّل يشبهها تمامًا: مشحون، مترجرج، صادق. لا يخاف من المباشرة حين تستدعيها الفجيعة، ولا يتحرَّج من الحنين حين تنطق به الذاكرة. ومن هنا، فإنَّ من يقرأ بداياتها يدرك جيّدًا أنَّ الشاعرة قد وجدت صوتها قبل أن تجد موسيقاها، وأنَّ اللغة عندها لم تكن تمرينًا، بل مرآة حقيقية لتموُّجات الروح.

لقد ولدت عبير حسن علَّام شاعرةً من داخل النثر، لكنها لم تبقَ فيه. وإنَّما عبرته كجسرٍ لتبلغ القصيدة، لا بوصفها شكلًا أدبيًّا، بل بوصفها نبوءةً شخصية، ومنفًى داخليًّا، ومرقدًا للغائبين فيها.

بين النثر والقصيدة: عبير حسن علَّام تكتب سيرتها الشعرية بأثرٍ رجعي

قلَّما يعترف الشعراء في البدايات بـِ“الخطأ النبيل”، أو ما يمكن تسميته بجرأة التسرُّعِ الشعريﱢ. أمَّا عبير حسن علَّام، فتعترف به بشفافية من لا يخاف مواجهة نفسه. تكتب عن مجموعتَيها الأولى والثانية، لا بنبرة الفخر، بل بنبرة مراجعةٍ حقيقيٍة:
وسط البلد” و”دانيال أو صلاة استسقاء الحبيب” كانتا محاولتَين خجولتَين، لم أرضَ عنهما. وكان أستاذي البروفيسور علي مهدي زيتون قد نصحني بالتريُّث، ولم أستمع. اليوم، لو تيسَّر لي الوقت، سأعيد النظر فيهما.

هذا الاعتراف لا يُضعف الشاعرة، بل يعزز مكانتها النقدية؛ إذ نرى أمامنا ذاتًا شاعرةً لا تحتفي بالبدايات فقط، بل تفتّش عن شرعيَّتها. إنَّها لا تعتبر النشر مجدًا بل مسؤولية، ولا تنظر إلى النثر بِوصفه جسر عبور للشعر، بل بوصفه مختبرًا شعوريًّا وأدبيًّا أصيلًا، كان لا بدَّ منه لتتهجَّى ذاتها.

ومع كلﱢ ما كان، جاءت مجموعة العاشرة فجرًا، التي تشاركتها مع الشاعر السوري فادي حسن، منعطفًانحو صيغة أكثر اتّزانًا ونضجًا، تليها تجربة دمشقي وأنت.. ثمَّ كان الوصول الكبير في نبض الأزرق الذي ليس اسم كتابٍ فحسب، بل اسم الصفحة التي تختبئ فيها عبير من ضجيج العالم، وتطلُّ منها على ذاتها الأكثر نقاءً.

هي تكتب شعرًا نثريًّا، نعم. لكنها لا تكتب بتسرُّبٍ وجدانيفقط، بل بمساءلةٍ حادَّةٍ لمسارها كلّه. تقول عن نفسها:
أنا أكتب الشعر بشكلَيه: العمودي والتفعيلة. وقد أجمع قصائدي لاحقًا في ديوان. أمَّا الرواية، فهي الحلم المؤجل، القابع منذ 2003 في ذاكرة الكمبيوتر”!

بهذه الروح، تصبح الشاعرة نفسُها نصًّا مفتوحًا على احتمالات عديدة: نثرٌ يتخلَّق منه الشعر، وشعرٌ يعود إلى النثر ليُدوﱢن تفاصيل الطريق. وما بين هذا وذاك، تكتب عبير حسن علَّام سيرتها في الشعر، لا على الورق فقط، بل على ملامح كلﱢ نص صار أصدق من الذاكرة.

“إنَّها سنَّةُ الوجع، يا مُعلّمي

علَّمتَني كيف يشقُّ رحمَ الحزنِ الغناءُ

علَّمتني الكلامَ الجميل

علَّمتَني أن أغنّي للفرح

أنا لا أعرفُ، يا أبي

كيف يكون الرثاءُ”

ففي هذه المقطوعة النثرية الموجعة، تسير عبير بخطًى هادئة ولكن دامعة بين عتبات الرثاء، وتُفلت من النمط التقليديﱢ للمرثيَّات لِتُقدﱢم نَصًّا شعوريًّا قائمًا على تقاطع الذات مع الحضور الرمزيﱢ للأب، لا بِوصفه شخصًا غائبًا، بل بِوصفه مُعلّمًا ومُلهِمًا سكنَ اللغة والذاكرة.

يحضر الأب، “سُهَيل“، كطيفٍ لغويﱟ وتربويﱟ، حيث تتَّكئُ المقطوعة على بنيتَين: الأولى وجدانية مُشبَعة بالحنين، والثانية معرفية تومئ لدور الأب كمصدر إلهامٍ في صناعة اللغة والحسﱢ الجماليﱢ. وهو ما يُضفي على النصﱢ عُمقًا يتجاوز الرثاء إلى استدعاء التجربة التكوينية للذات الكاتبة.

البُعد الصوتيُّ في النصﱢ يمنحهُ مفارقةً مؤلمةً بين النبرة الشفيفة العالية في بدايته، والنبرة الحيَّة اليومية التي تتكسَّر عندها الفصاحة لتتكلَّم اللهفةُ بالفطرة. ممَّا يمدُّ النصَّ بِبُعدٍ وجدانيﱟ صادق، يمنح اللحظة عمقًا إنسانيًّا غير مصطنع.

أقرأ النصَّ أدناه، وهو جزءٌ من قصيدةٍ نثريَّةٍ بِعنوان “ما تبقَّى” من مجموعة “دمشقي وأنت” غير المنشورة:

“وما زلتُ..

أقلّب قلبي عرانيس الشواء

في أتون الترقُّب..

ويدُكَ تشدُّ على شعري من خلفي

وتمسّد الرؤيا لتتجلَّى…

تُشهِدُ بُقعَك الغائرةَ في جسدي

أنَّ الأزرقَ سرمديٌّ

ووحدها الطريق

تغيب لتعود.

الثالثة حتفًا:

لا تنم قرب الفجيعة؛

فما زال الحبرُ أمواجُه تتلاطم

بانتظار عينيكَ لِتستكين”.

من الناحية الأسلوبية، جاء النصُّ مُشبَعًا بالصوَر الداخلية. لا يركن إلى الزخرفة أو الاستعارة الباذخة، بل يعمل على تأسيس مناخٍ تأمُّليﱟ حميم، حيث الألم لا يُصرَّحُ به بل يُهمَس، والغيابُ لا يُعلَن بل يُلمَح.

إنَّها قصيدةٌ تقوم على فقدٍ ناطقٍ، وتعيد ترتيب الغياب بوصفه استمرارًا للمعنى لا انقطاعًا عنه. ومع أنَّها تنتمي إلى قصيدة النثر، فإنَّها لا تغفل الموسيقى الداخلية، ولا تفرط في التشظّي، بل تحافظ على انسجامها البنيويﱢ والعاطفيﱢ حتى نهايتها.

الوطن كموتٍ مؤجَّل: قراءة في الحضور المتشظّي للوطن في شعر عبير حسن علَّام

حين نقرأ عبير حسن علَّام، لا نرى الوطن على هيئة نشيد أو نشرة أخبار، بل نراه شخصًا يحتضر في الغرفة المجاورة.. نسمع أنينه، نشمُّ رائحته، نكاد نلمس جلده المتصبّب بالفقد. الوطن عندها ليس فكرة، بل كائن يُحتَضَر يوميًّا.. ولا يُدفن، بل يُبعث في كل قصيدةٍ بِصورةٍ أكثر هشاشةً. وهكذا، يتحوَّل المكان _في شعرها_ من جغرافيا إلى تجربة حيَّة للموت المعاش؛ ففي قصيدة بيروت (غير المنشورة بعد) تقول:

والحرفُ يُقلِعُ من مداد جنونها

سُفنًا، حريقًا، أدمُعًا، وبِحارا

بيروت، لو عزَّ المنام بِحُضنها

فالنبض فيها يبتدي ويُوارى

والمُتعَبون المُشبَعون غيابةً

والعابرون التائهون سكارى

بيروت، يا أمَّ البلاد، ترفَّقي

بالسائرين _مدى البلاد_ حيارى

هنا، يتكشَّف الوطن لا بوصفه مأوًى، بل كمسرحٍ للتيه؛حيث يغترب الإنسان داخل مسقط رأسه، ويتيقَّن من أنَّالخرائط لم تعد تشير إليه. عبير لا تصرخ في وجه الغياب، بل تهمس وجعها بهمهمةٍ شبه صوفية، وكأنها تُصلّي في قلب الطوفان. فتكتب الوطن كما يكتب المصلوب جلده، لا كما يكتب العاشق معشوقه. في قصائد عبير حسن علَّام، لا يُستَحضر الوطن كرمز أو شعار، بل ككائنٍ يئنُّ في داخل الشاعرة. هو موضع الجرح، لا المجد.. وفضاء الخيبة، لا الاحتفال. الوطن يُكتَب لا عبر صيغته الجغرافية بل عبر ما يُحدثه من ارتجافٍ في الروح، ومن عزلة في الوجدان، فتخاطب بيروت على البُعد:

“روحي على شطآن سحرِكِ طفلةٌ

قد ضيَّعتني في الرمالِ سِوارا”

في كتابها “نبض الأزرق”، يبرز الوطن كمكانٍ متروك، كظلﱟ غادَرَ، وكذكرى موشومةٍ على خاصرة اللغة. وطن عبير ليس مكانًا تحتلُّه السياسة، بل جسدٌ تحتلُّه الذكرى؛ لذا تحضر بيروت ودمشق والمنامة لا كمدنٍ جغرافية بل كمدنٍ عاطفية/شعرية، تُحاكم فيها الذات علاقاتها المتعددة مع الفقد والغياب والانتماء: “أعيشُ في بلدٍ تستعجلُ شمسُهُ الرحيل فتهطلُ كآبتي باكرًا. وهذا يجعل الليلَ يفترشُ قلبي بِظلامه ويفترسُ بقايا الأمل”. (نبض الأزرق – ص 141).

يُفارق الوطن في نصوصها طمأنينته الرمزية ليُصبح زمنًامنكفئًا على ذاكرته، لا يتقدَّم ولا يُنسى. هو مكانٌ تعيشه عبير كموتٍ مؤجَّل، تهيّئُ له القصيدة حنطةً ونعشًا في آن. وهذه المفارقة هي ما يمنح خطابها الشعريَّ عمقَه؛ فهي لا تؤبّن المكان، بل تُعيد تعريفه من خلال الانكسار. من هنا يتداخل في قصائدها صوت الراوية مع صوت المدينة المهدَّمة، وتتماهى الذات مع الركام، كما لو أنَّها تكتب من قلب أنقاضها الشخصية:

“لا يستوي عالَمٌ والشامُ مُطرِقةٌ         إنَّ الشآم لَصوتُ الله لو سُمِعا

وفي هذا السياق، تنتمي عبير إلى سلالة الشاعرات اللواتي لا يُجدنَ المديح ولا يركنَّ إلى التغنّي، (فمثلها كمثل الشاعرة البهية “هبة علاء الدين” التي يقوم المعنى لها أيضًا قيام النبلاء للأبطال)، بل يختبرن الشعر كوسيلة لحمل الجرح، لا لمداواته. ولا ننسى الشاعر حسن المقدادالذي يجلس العالم كلُّه أمامه لكي يصغي! إنَّهم يكتبون عن بيروت، لا كرمزٍ رومنطيقي، بل كمن دفنَ أحبَّاءه فيهاوما زال يسمع صرخاتهم تحت التراب. ولذلك، فإنَّ التفرُّد لدى عبير حسن علَّام قائمٌ على حضور الوطن في كتاباتها ليس بِوصفه مرآةً للواقع، بل بِوصفه انعكاسًا داخليًّا لِما يشبه الموت المؤجَّل، الموت الذي نعيشه في كلصباح، حين ننجو من الانفجار لنقرأ عنه بعد دقائق: “تشويشٌ عظيمٌ:

صوتُ ارتطامٍ ضخمٍ وقرقعةُ أرواح…” (من قصيدة غير معنوَنة في مجموعة “دمشقي وأنت” غير المنشورة).

وبهذا، تنجح عبير حسن علَّام في إعادة موضعة ثيمة الوطن داخل التجربة الشعرية: لا بِوصفه مجالًا سياسيًّاأو أيقونةً ثقافيةً، بل كهوية روحية تعيد تشكيل المعنى الوجودي للشاعرة. فالوطن ليس خارجها، بل كامنٌ في رعشة يدها حين تمسك القلم.

الحبُّ ككسرٍ بهيﱟ: بين الانكسار والتجلّي في شعر عبير حسن علَّام

عبير حسن علَّام لا تكتب الحبَّ كترفٍ شعريﱟ أو عاطفة سهلة الهضم، إنَّما تكتبه بوصفه لحظة انخطاف كونية تنهض على حافة النشوة والسقوط. الحبُّ عندها ليس وعدًا بالسعادة، بل حقل تجريب للألم، للتجاوز، وللمعنى المتشظّي في مرايا الذات المكسورة. إنَّه ليس بداية، بل أثرٌ لما لم يكتمل: من نَص نبض الأزرق” أقرأ: وإن كانت قصَّتنا قد عمَّدها الصيفُ شغفًا ويحاول اغتيالَها الخريفُ على أعتاب الشتاء. ألم يتبقَّ سوى الربيع؟ فَلْنُجرﱢبْهُ إذًا. (نبض الأزرق – ص 66).

بهذا السطر وحده، تفكّك عبير اللغة العاطفية المستهلكة وتعيد تركيبها بمجازٍ ينضح بالصدق والحدس. فالحب هنا ليس خلاصًا، بل ورطة نجاةٍ مؤقَّتة، نجاة تغريك بالضوء ثم تدفعك إلى هوَّة أعمق. هذا التحوُّل من التوق إلى الخيبة، ومن الحضور إلى التلاشي، هو ما يمنح نصَّها بُعده الروحيَّ العميق، حيث تصير المشاعر طقوسًا للتطهُّر، لا للامتلاك: “سلامُ على نصوصكَ تستعرضُني بين قتلاها..”. (نبض الأزرق – ص 36).

لا تتكئ عبير على مفردات الحب الشائعة، بل تنقّب في الهامش، في ما بعد القبلة، في ما قبل الرحيل. فالحبيبُ في نصوصها ليس موضوعًا شعريًّا فحسب، بل هو شبحٌ دائم، نَفَسٌ خلفيٌّ في الغرفة، أو طيفٌ عالق في المرايا: “لكنَّه يكشفُكَ الكلام حين أدخل نصَّكَ حين ملء جفوني تنام: (…) أنت، يفضحك الكلام.

وأعود إلى نصوصكَ/ المراجع.. أقرأ.. أطالع. أتمحَّصُ حتى في الهمزات بعد القوافي والمطالع”. (نبض الأزرق – ص 31 و32).

والحبُّ يتحوَّل إلى مرآة للذات، للضعف البشري، للشفافية القصوى حيث كلُّ عاطفةٍ تُعرﱢي الكاتبة لا تُغطّيها: “فمتى ترمي على أيَّامي وأحلامي يمين الطلاق؟! ألم يحِنِ الوقتُ بعد؟ ألم تكتفِ من ارتشاف قهوتك على شرفة دمي كلَّ صباح؟” (نبض الأزرق – ص 42). وفي موضعٍ آخر،تكتب: كلُّ نقطتَين تراقصتا على آخر السطر استفزازًا شريكتان في القتل اليوميﱢ اللذيذ كموعدِكَ القريب البعيد الشهيﱢ العليل”. (نبض الأزرق _ ص35). إنَّه حبٌّ لا ينشد العناق بل يتلو مرثيَّته في حضرة الحضور نفسه. وكأنَّ كلَّعلاقة في نصوصها تحمل في نواتها نبوءة الانفصال، وكلَّلحظة قرب هي تمهيد لانهدامٍ داخلي. وهذا ما يرفع التجربة من كونها رومنسية إلى كونها تأمُّلًا وجوديًّا في معنى الارتباط والفقد: “فلأنكمشْ إذن كدرَّاجةٍ هوائيَّةٍ يتيمة العجلات مركونةٍ في ملجأ تُدركُ بِقدْرِ إدراكها وجودَها أنَّ الدربَ لن تواعدَها بعد اليوم”. (نبض الأزرق – ص 40).

عبير لا تبحث عن الحب بل عن جوهره المُوارِب، عن بُعده الخفي، وسيلةً لتعرية الذات. لذا، لا تستجدي العاطفة، بل تُعيد تشكيل شروطها. هي لا تكتب “أنا أحبُّك”، بل “أنا أتعرَّف إليَّ من خلال ما كنتُ أظنُّه حبًّا”، وكأنَّها تسأل:
هل الحبُّ هو الآخر، أم ما نكتشفه في أنفسنا من خلال الآخر؟

“أو فلْنَقُلْ ببساطةٍ أنَّني تذكَّرتُ فجأةً أنَّكَ بالأمس كنتَ وجه الفجيعة. (نبض الأزرق_ ص12)

بهذا المعنى، تصبح قصائدها نوعًا من التصوُّف العاطفي:تمرُّ من الجسد لكن لا تتوقَّف فيه، وتخوض في الوجدان لا لتستقرَّ، بل لتُفكّكه. فالقصيدة ليست رسالةً إلى الحبيب، بل كشفٌ عن أثره بعد الزوال. والكتابة عند عبير لا تشبه “أحبُّك”، بل تشبه “أنا نجَوتُ منك بالكاد، وهاك آثارك في لغتي”: “عدتُ أدراجَ الشوق.. وصرتُ بعد عامَين من مماحكة كتابة اللهفة والشغف أنثى من موجٍ وحصى. تجمعها أصابعُك وتنثرها عيناك. (نبض الأزرق – ص 51).

الكتابة كنجاةٍ وجودية: عبير حسن علَّاموطقوس الخلاص بالحبر

في فضاء الشعر الذي تكتبه عبير حسن علَّام، لا تكون الكتابة مجرَّد أداة تعبير أو وسيلةً لتجميل الألم، بل هي فعل نجاة روحيٌّ، طقسيٌّ، يوازي التنفُّس حين يضيق الصدر عن الحياة. إنَّها لا تكتب لتبوح، بل لتتطهَّر، لتصمد، لتشهد على ذاتها وهي تُبعث من الرماد:

“وقتٌ لِعروجٍ آخر

وقتٌ للفيض

قد تُجهَضُ ألفُ مُشافهةٍ

لكنَّ النبض

يبقى لِتغوص هويَّتُنا

مهما ابتعدت..

في عُمق الأرض

(من قصيدة غير منشورة، بعنوان “سوناتا العودة”).

هنا لا تكون الكتابة “هروبًا من الذاكرة”، بل حفرًا فيها، تصفية لحسابٍ مؤجَّلٍ مع الخسارة. هي طريقة عبير في أن تقول لنفسها: “أنا هنا، ما زلت، رغم كلﱢ ما عبر”. فلا توجد قصيدة دون نُدبة، ولا نُدبة دون أثر، وكلُّ أثرٍ في قصائدها هو شهادة حياةٍ مكتوبة على عجل؛ لأنَّ الموت قد يأتي بدون إذن:

لِذا تُكمِل في قصيدتها سوناتا العودة”فتهتف:

“وقتٌ لِنجيعٍ يأتي

في دورة صخبٍ مُمتدﱢ

ليست تخبو، ليست تقفُ

لكن لو طال بنا النزفُ

سنعيدُ الوردَ لسلَّتهِ

ونعيدُ البيتَ لبنيته

ونعيدُ الطفلَ لدميتهِ

هل ينسى العنف!!؟”

تتجلَّى القصيدة عندها ككائنٍ حيﱟ. وليست نتاجًا فنيًّا فحسب؛ إنَّها رفيقة الغرق، وأحيانًا قارب النجاة الوحيد.تكتب وكأنَّها تجرح الورق لتسمح للنور أن يمرَّ، لا بالكلمات، بل بما تتركه الكلمات من أثرٍ جارح: “وقال: “اكتبي..” وانسلَّ في دمي. حفرَ في العمق حتى استقامَ له ما يريد… فسحب كلَّ الدﱢماء وغاب”. (ما بعد “نبض الأزرق”).

اللافتُ أنَّ عبير لا تبحث عن البلاغة الجوفاء، ولا تنساق وراء بريق اللغة المصنوعة. بل تنحت جُملَها كما يُنحتُ الحجر:ببطء، بتروﱟ، بشيء من الألم المخبَّأ تحت الأظافر. اللغة عندها ليست لباسًا للمعنى، بل جلدٌ ثانٍ يُسقط عنها قشرة العادي واليومي، ليكشف عن توتُّرٍ داخليﱟ هو ذاته جوهر النصﱢ والفكرة كما في: “لم أعرف شاعرًا كأنت.. يقبضعلى المعنى بِتمكُّن الخالقِ من خَلقِه، وتأتيه اللغةُ طائعةً في خفَّة الراقص على أطراف أصابعه على الجمر”. (نبض الأزرق _ ص102). لِذا تتحدَّث عن نفسها: “عن امرأةٍ يظنُّها القُرَّاءُ تتلاعبُ باللغة، وهي التي تتأرجح على شاهقاتِ وجعها لُغَةً”. (نبض الأزرق _ ص110).

تلك التحوُّلات الداخلية التي تُنجزها الكلمة ليست مجرد استعارة، بل تمثّل تجربةً روحيةً عميقة: الكتابة لا تُجمّل الجرح، بل تجعله مُشِعًّا. والقصيدة لا تمسح أثر الوجع، بل تعيده على هيئة معنًى يُحتمَل.

ولعلَّ هذا ما يجعل كتابة عبير تشبه صلاةً صامتة، أومناجاة داخلية بين الذات وظلالها. إنَّها لا تخاطب الآخر بقدر ما تستعيد ذاتها من عمق الانهيار. وحتى النصوص التي تبدو موجَّهةً لحبيب أو غائب، يكون الصوت العميق فيها هو صوت الذات وهي تعيد تكوين ذاتها بعد كلانكسار: “الحياة ستتفنَّن في قتلكَ يوميًّا بِعبثية القلق… حتى تُدركَ في النهاية أنَّ الحقيقة لا يملكها أحد”. (نبض الأزرق _ ص174).

الكتابة، إذًا، ليست ترفًا ولا مهنةً، بل هي ضرورةٌ وجوديةٌ، بِلغةٍ لا تهادن ولا تجمّل، بل تواجه وتُعرﱢي وتُبلّغ. وتصرﱢح بذلك إذ تقول: “أنا لا أمتهن الكتابة. هي جراحي تنزف حروفًا”.

ذاكرة الجسد، وخرائط الغياب في شعر عبير حسن علَّام

حين تكتب عبير حسن علَّام فإنَّ الجسد ليس غائبًا عن النص، بل هو النصُّ ذاته. كلُّ سطرٍ يُقال من داخل عظمٍ ارتجف، أو عصبٍ ارتبك، أو قلبٍ أعياه الخفق. إنَّ الجسد في شعرها ليس سطحًا للحكاية، بل هو الدفتر السرﱢيُّ لِكلﱢما لم يُقل: “عن امرأةٍ تُخرِجُ الشمسَ من أعلى خاصرة رُكبتها حين تشاء وتطفئ وهجَ قلبِها حين تشاء كي لا تكتويَ جفونُك بما اقترفت عيناك”. (نبض الأزرق _ ص108).

هي لا تكتب عن الغياب، بل تُجسّده، تمنحه نبضًا، تشكّله بملامح من تعرف، أو من فقدت، أو من كانت يومًا. الغائب عند عبير ليس خارج النصﱢ، بل يسكنه، ويتنفَّس داخله.وفي حضوره المتكرر، تتشكَّل خرائط متداخلة من الحنين والندم والشكﱢ، وأحيانًا من توقٍ لا يُفهم ولا يُروى. أنظر مثلًا إلى هذا المقطع: “أن يبكيَ صوتُك، ضحكُك، همسُك، نفَسُك… حتى اختناقِ الروحِ ضَحِكًا.. وذكرياتُكَ معها تهطلُ على شقوقك فتحرقُ ترابَك”. (نبض الأزرق _ ص86).

هنا تُعيد عبير تعريف الفقد، لا كخسارةٍ خارجيةٍ، بل كاقتلاعٍ داخليﱟ، كأنَّ الغياب يسلخُنا عن أنفسنا ويتركنا عراةً إلَّا من صوتٍ خافتٍ كان يومًا نحن: “إنّي الآتيةُ من صِفر البداية بعدما أحرقتُ نارًا أحرقتني وانتشيتُ من رمادي. (نبض الأزرق _ ص67)

هل ترى؟ الغياب ليس لحظةً تُذكَر، بل موقع ألمٍ في الجسد، أثرٌ ماديٌّ يُقاس كأنَّه جرح. إنَّها لا تتأمَّل الفقدَ بوصفه مأساة، بل بوصفه تجربةً حسّيَّةً تنقش نفسها في خلاياها، فتتحوَّل القصيدةُ إلى صرخةٍ ناعمةٍ من تحت الجلد: “وأنا التي لم ألزَم طيلة حياتي دورَ المستمعة في صمت، أقف على خطﱢ النار لأستمعَ كصديقةٍ على الحياد إلى آثار حروفهنَّ الأولى في دمِك”. (نبض الأزرق _ ص102).

وتلك خصوصية عبير: إنَّها تكتب الجسد لا باعتباره أنوثة، بل باعتباره ذاكرة. جسدها يحتفظ بما لا يقوله الكلام، وما لا تبلغه الفكرة. إنها تدوﱢن الحبَّ والخذلان والشكَّ والانتظار كأنَّها تُسجّل درجات حرارة داخلية لتجربةٍ بشريةٍ فريدةٍ!

وما بين هذا كلّه، تسكن اللغة _تلك اللغة التي لا تُراوغ، ولا تستعطف، ولا تجامل، بل تأتي _كما هي_ خامة نقيَّة، متعبة، صادقة، مبلَّلة بما لم يُغسل بعد من الذاكرة.

في شعر عبير حسن علَّام، نحن لا نقرأ نصوصًا.. بل نمرُّ بتجربة حسّية، شعورية، وجودية. هي لا تُقيم في اللغة، بل في حدود ما بعد اللغة، في تلك المساحة التي يتقاطع فيها الألم بالجمال، والغياب بالحضور، والأنوثة بالنجاة.

كلُّ قصيدةٍ من قصائدها هي مرآة مشروخة، لكننا نرى فيها أنفسنا. وهذا ما يمنح كتابتها ذلك النبض النادر: أن تكون خاصَّةً جدًّا.. ومع ذلك، نعرفُها كأنَّها كُتِبَت عنَّا.

عبير لا تكتب لتقول شيئًا، بل تكتب لتُبقي شيئًا من ذاتها حيًّا في هذا العالم المتآكل. وفي كلﱢ ما كتبت، يبقى سؤالٌ مفتوح: هل نكتب لنعيش؟ أم نكتب لأنَّنا لم نعُد نعرف كيف نعيش بدون الكتابة؟

في شعرها، نجد الجواب.
وفي الألم، نجد المعنى.
وفي المعنى، نجد عبير.