23 ديسمبر، 2024 7:08 ص

لطالما سمعت بعض العامة والخاصة يرددون قولا لا اعرف مصدره هو”حلال محمد (ص) حلال الى يوم الدين ” والكلام جميل ما دام يدور مدار الحلال ولم اسمعهم يكثرون بعامتهم ولا بخاصتهم من الجانب الاخر للقضية “حرام  محمد (ص) حرام الى يوم الدين”
   قيل ان الكثير من الشعر والتصوير (الرسم) والنحت وبعض انواع الفنون الاخرى قد حرمت بالفتوى الدينية المبنية على النصوص المقدسة  ولم يكن للعقل دور؛ عملا بالقاعدة الفقهية المشهورة ان (لا اجتهاد امام النص) فهي اذن قضية الاطلاق والتقييد  بين العام والخاص او بعبارة اخرى المطلق والنسبي في فهم الحكم الشرعي زمانا ومكانا.في بداية القرن الماضي كانت هنالك فتاوى لا اعرف ان كانت مكتوبة او غير مكتوبة وبنصوص قطعية ام كلمات هلامية بحرمة ارسال الابناء الى المدارس للتعليم غير الديني خاصة لكن الامر تغير فيما بعد عندما تغير الحرام الى حلال فالتحق الاولاد الذكور بالمدارس وانخرطوا لاحقا بالدرس اللغوي والعسكري والقانوني والطبي..اما الاناث فقد مضت فتاوى التحريم بحقهن مدة اطول الى ان سقطت من النواحي العملية  والاجتماعية..ثم بدأت قصة تحدي حضاري أخرى وهي قضية الاعلام العابر للحدود بموجات البث الراديوي التي غيرت كثيرا من الافكار والقناعات فيما بعد لقد تم تحريم هذا النوع من الاتصال بالجمهور كما تم تحريم السينما والاسطوانات من قبل الى الحد الذي قال به البعض من اهل الشان  عنها بانه سحر او انه من اعمال الجن …الى أن شاع هذا النوع  من الاتصال الى الدرجة التي تم فيها تحوير وتغيير الحرمة من مطلقة ابتداءا الى مقيدة انتهاءا فحصلت الاباحة للخبر والمحاضرة الدينية وتلاوة القران والمدائح الدينية قبل ان يتبعها الانشاد الديني ثم الوطني وهكذا الحال بالنسبة للتليفزيون ووصولا الى الانترنيت .
   اعرف شخصا انتفض حنقا عندما اخبرته وكنت شابا يافعا انذاك بان الانسان قد تمكن اخيرا من النزول والمشي على سطح القمر..قال لي حينها وكيف يحصل ذلك والله سبحانه قد توعد من يحاول ذلك بقوله (يرسل عليكما بشواظ من نار ونحاس فلا تنتصران) هكذا استدل الرجل…
لا اعتقد ان ايا من معطيات الحضارة الانسانية تستأذن قبل الدخول الى الميدان الاجتماعي او الاقتصادي او حتى الفكري لهذا فان ردود الفعل لا تتعدى كونها خاضعة لنظرية الاستجابة والتحدي لأرنولد توينبي..
هنا وجدت علي لزاما ان انقل بعض التعريفات الاصطلاحية الفقهية  لفائدتها في الموضوع:
تشير منظومة التشريع الاسلامي بوجود ثلاث مناطق للفعل الاجتماعي والفردي  هي الحلية والحرمة  وما بينها…المباح هو من الحلال دون كراهية او استحباب اي انه ما لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه والمحظور فهو ما يثاب على تركه و يعاقب على فعله  واما المكروه فهو ما يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله.
ويبدو ان منطقة الحرام بموجب لنصوص الشرعية  هي منطقة ضيقة جدا الامر الذي دعى الفقهاء الى ملئ مناطق التشريع الاخرى بالفتاوى التي تصيب تارة وتخطئ  تارة اخرى وهذا امر طبيعي اثبته الوقائع التاريخية ولا ينكره الفقهاء انفسهم فقد حلى للبعض غير القليل منهم تزيين اخطائهم الفقهية الى الحد الذي اوجبوا فيه استحقاقا من الحسنات بموجب اجتهاداتهم الخاطئة
والغناء حاله حال (الابتلاءات)الاخرى من الامور التي شاع فيها راي الفقهاء بالتحريم وذلك تفسيرا للاية السادسة من سورة لقمان في ضوء السنة النبوية كما ورد في كتب التفسير:   ومن النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ” 
   يدافع بعض الفقهاء عن آرائهم الفقهية في احيان كثيرة بالرجوع الى مفاهيم العلم الالهي والقوة الربانية التي غالبا ما يدعون او يلمحون بالانتماء لها وتارة اخرى ان لم يلزم اتباع الاولى بالرجوع الى علة التشريع على ان هذه العلة لا تخدمهم كثيرا في جميع الاحيان الامر الذي يجعلهم يعودون الى المفهوم الاول. وهذا امر يتجلى بوضوح عند تناول موضوع العبادات خاصة فلا تبدو علة التشريع واضحة ازاء جميع الممارسات والطقوس العبادية بنفس قوة الاقناع .  
هناك اشكالات وتحديات عملية كثيرة قد تواجه بعض الفقهاء عند تناولهم لموضوع الغناء منها تعريف الغناء الموجب للحرمة والأطلاق والتخصيص ونسبية الزمان والمكان والموقف من منظومة النقل والتفسير كما ان النظر الى علة التشريع نظرة معاصرة (حضاروية) هو تحدي لا يقل اهمية عن غيره مما ذكر وما لم يذكر.
فالغناء العراقي اجمالا ربما كان بكاءا منغما  يقتضي الانفعال حد العويل والكلمات (الشعرية )فيه هي شكوى ورثاء وتذمر وجزع  وكلها مما تستوجب الشفقة على المغني والشاعر والموسيقي والمستمع .
لطالما بكت الامهات وهن يستمعن الى اغاني داخل حسن وحضيري ابو عزيز وغيرهما وهم يغنون للولد الذي ذهب ليحارب في حروب الشمال في خمسينات وستينات وحتى سبعينات القرن الماضي ولطالما بكى المبعدون المهجرون العراقيون وهم يستمعون الى اصوات ياس خضر وكوكب حمزة وسعدون جابر ولكلمات مظفر النواب في حن وانا احن والطيور الطايرة ومحطات ومحطات اخرى..علة التطريب ولهو الحديث قد لا تكون موجودة وان وجدت باعتبارها لهوا فان الافعال اليومية كلها عدا الممارسات الدينية (كالصلوات الخمسة) ستكون من لهو الحديث !.
تشمل الدراما نوعي النشاط الفني التراجيديا (المأساة) والكوميديا(الملهاة) فهل يكون الغناء العراقي بموجب هذا الوصف نوعا من انواع الكوميديا …من المؤكد ان لا أحد يقول بذلك.
يتذكر المثقفون من الجيل السابق عملا تليفزيونيا ابداعيا عنوانه عبود يغني فماذا غنى عبود في ذلك العمل..لقد غنى ع الويل ويلي اون ..انه غناء الانين فأي ملهاة كوميدية.  
لقد اتفق الفقهاء اجمالا على قول بن مسعود ثلاثا بان لهو الحديث هو الغناء وبموجب التعريف لكنهم هل يتفقون ان الغناء العراقي بصورته التقليدية هو غناء.هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فقد واجهت الفنيون الايرانيون ابان الثورة الاسلامية مشكلة فنية هو مشكلة الفواصل بين البرامج فالموسيقى هي ضرب من الغناء او بالعكس فماذا يصنعون بالانتقال والتحضير للبرامج الاذاعية والتليفزيونية.
لقد اشكل بعض هؤلاء الفقهاء بقراءة القران الكريم ذاته عندما تناولوا قضية (الارجاع) في التلاوة القرآنية فاعتبروه تطريبا لا ينبغي الاستماع اليه ولني لم اطلع على فتوى بتحريمه فلعلهم وضعوه تحت صنف المكروه.
ربما سيدخل عبود النار بفعل تعاطيه الخمرة بموجب النصوص الدينية ولكن هل سيحاسب لانه غنى..وأنّ وبكى على مأساته؟ افتونا بالاطلاق لعل الله يرحمكم.