عبد المنعم حمندي: معمار الصورة وإيقاع الفكرة

عبد المنعم حمندي: معمار الصورة وإيقاع الفكرة

حين نقترب من تجربة الشاعر عبد المنعم حمندي، لا نجد أنفسنا أمام شاعر يكتفي ببوحٍ وجداني أو صرخة احتجاج، بل أمام معمار شعري متماسك، يتخذ من اللغة جسراً نحو الرؤيا. لغته لا تُبنى على الزخرفة، بل على الصرامة في اختيار المفردة، والحرص على أن تكون الكلمة مشعة بقدر ما هي مقتصدة، هذه الخصوصية جعلت قصيدته تحمل طابعاً كثيفاً، أشبه بقطعة موسيقية لا يضع فيها أي نوتة عبثاً.

الإيقاع في شعر حمندي ليس مجرد وزن أو موسيقى خارجية، بل هو حركة داخلية للنص، تنبع من توتر الجملة وتقطّعها المدروس. نلمس هذا في “طواف في ناي” حيث يتحول الناي إلى رمز صوتي وروحي، يتردد صداه عبر النصوص كأنّه نَفَس ممتد. وفي “أول النار” يتخذ الإيقاع بعداً أكثر عنفاً، مشحوناً بالحرارة والغضب، وكأنّ القصيدة تلهب المتلقي بلهيبها.

أما الصورة الشعرية عند حمندي فهي قلب التجربة. لا يرسم المشهد بوصف مباشر، بل يفتحه على استعارات كثيفة: الغربة تتحول إلى “نهر بلا ضفاف”، والوطن إلى “دمعة لا تنطفئ”، والحب إلى “نافذة تزرع وردةً في الغد”. مثل هذه الصور تبتعد عن المألوف لتخلق دهشة معرفية، وتحوّل التجربة الشخصية إلى معنى إنساني عام.

النقاد الذين تناولوا تجربته أكدوا هذا البعد البنائي؛ فعبد الحسين صنكور رأى في شعره توازناً بين السرد والصورة، بينما أشار طلال سالم الحديثي إلى أن نصوصه تحمل “تاريخ الوردة”، أي أنها توثّق حضور الجمال في قلب المأساة.

بهذا المعنى، لا يمكن قراءة حمندي كشاعر عاطفة أو شاعر موقف سياسي فقط، بل كشاعر بنية شعرية متكاملة، تتضافر فيها الصورة والإيقاع والدلالة لتنتج نصاً يقاوم التبسيط.

قصيدته ليست للتسلية ولا للزينة، بل هي مشروع شعري متواصل، يبرهن أن الشعر ما يزال قادراً على حمل المعنى العميق في زمن التكرار والسطحية.

حمندي شاعر لا يؤمن بحدود الأجيال، بل بالشعر ككيان خالد، لا يشيخ ولا يموت. قصيدته موقف، ووعيه سلاح، وحضوره يبرهن أن الكلمة حين تصدر من القلب تصبح أثقل من الرصاص. لذلك ظل حمندي، طوال مسيرته، أميناً لفكرة أن الشعر ليس زخرفة، بل روح تقاوم الخراب وتؤنسن الوجود.