عبد الله بن سبأ : الأكذوبة التي أسست الطائفية

عبد الله بن سبأ : الأكذوبة التي أسست الطائفية

قراءة في كتاب  عبد الله بن سبأ إشكالية النص والدور والأسطورة 

في تاريخ الإسلام المبكر، كثيرًا ما تمت الاستعانة بشخصيات هامشية أو غامضة لشرح التحولات الكبرى، وتبرير الفتن والصراعات التي مزقت جسد الأمة في لحظات التأسيس الأولى . 

من بين هذه الشخصيات التي تحوّلت إلى ( أسطورة تفسيرية )تقف شخصية عبد الله بن سبأ كأحد أبرز الأمثلة على هذا التوظيف التاريخي الذي اختلط فيه الواقع بالأسطورة، والسياسة بالعقيدة، والسرد بالتحريض .

الكتاب موضوع الدراسة يعيد النظر جذريًا في هذه الشخصية، لا من موقع الدفاع أو الاتهام، بل من موقع المساءلة النقدية الجذرية للمصادر التي صنعتها . 

فالروايات التي رسخت صورة ابن سبأ كعنصر يهودي اخترق الصف الإسلامي، وحرض على قتل عثمان، وأسس بذور التشيع لعلي، تبدو عند تمحيصها مجرد خيوط ضعيفة الغزل، مهلهلة السند، محمولة غالبًا على لسان راوٍ واحد مثير للجدل، هو سيف بن عمر التميمي. 

وهذا الراوي، الذي أخذ عنه الطبري أكثر رواياته في هذا الشأن، قد طعن فيه جمهور المحدثين، ووصموه بالكذب والضعف، بل بالتدليس المتعمد لأغراض سياسية .

لكن أخطر ما في أسطورة عبد الله بن سبأ ليس ضعفها السندي، بل وظيفتها السياسية .

 إذ شكّلت هذه الشخصية منذ القرن الثاني الهجري، أداة مثالية لكتابة سردية طهرانية عن الفتنة الكبرى، تُبرّئ الصحابة جميعًا من المسؤولية، وتُلقي باللوم على “عنصر خارجي” دخيل . 

إن تحويل الجريمة إلى مؤامرة، والفتنة إلى اختراق، هو في ذاته فعل سياسي بامتياز، يُراد منه إعادة ضبط ذاكرة الأمة، وتطهيرها من الأسئلة المؤلمة، وتحصينها ضد النقد .

ومع تطور المذاهب، وجدل الفرق، أُعيد تكييف هذه الأسطورة لتخدم أغراضًا طائفية صريحة، فتم ربط عبد الله بن سبأ بالتشيع، واختُزلت نشأة المذهب في فعل رجل يهودي متآمر .

 هذه السردية، التي تُنكر على التشيع أصالته التاريخية والروحية، هي في الحقيقة نوع من التنصُّل من الجرح السني الداخلي الذي لم يُعالج، بل تم إخفاؤه عبر اختراع “الشيطان” المناسب.

الكاتب، في تحليله، لا يسقط في فخ الإنكار الأيديولوجي المضاد، ولا يذهب إلى تأليه الشخصيات المعارضة لعبد الله بن سبأ، بل يحاكم الروايات بمنهج نقدي صارم، يعيد الاعتبار للتحليل السندي، ويستعين بمنهجيات معاصرة في تفكيك النصوص، أبرزها المقاربة السوسيولوجية للنصوص المؤسسة، التي تسأل عن السياق الذي كُتبت فيه الرواية، والمصالح التي تخدمها، والسلطة التي تحرسها .

والنتيجة التي يُفضي إليها هذا التحليل، لا تقتصر على نفي وجود الشخصية من الناحية التاريخية، بل تتجاوزه إلى كشف آليات “صناعة الأعداء” في النص التاريخي، وتحديد كيف تتحول الفتن إلى أساطير، والأساطير إلى سلاح أيديولوجي . فعبد الله بن سبأ ليس مجرد شخصية مهملة في الهامش، بل هو في الحقيقة “بطاقة الإعفاء الجماعي” التي منحها التاريخ الرسمي للخلافة كي لا يحاسب أحدٌ أحدًا، وكي لا تُقال الحقيقة كما هي .

في ضوء ذلك، لا يُمكن قراءة تاريخ الفتنة الكبرى، ولا نشأة الفرق، ولا حتى الخطاب الطائفي المعاصر، دون تفكيك هذه الأسطورة المحورية، التي ساهمت في تأسيس خطاب الإقصاء، وإضفاء الشرعية على القمع، وإعادة تدوير العنف باسم حماية الدين .

ربما لم يوجد عبد الله بن سبأ في التاريخ، لكن أثره في الوعي الإسلامي لا يزال قائمًا حتى اليوم . 

فالرجل، أو بالأحرى صورته، لم يكن سوى انعكاسًا لعجزنا عن مواجهة الحقيقة، ولفشلنا المستمر في كتابة تاريخ لا يحتاج إلى شياطين .

أحدث المقالات

أحدث المقالات