في زمن كالذي نحن فيه وربما الراهن اسوأ, تجاوزت فيه نكبة التبعية والعمالة الخطوط الحمراء للسيادة, انذاك اختلط الفقر والجهل والمرض في احتفالية الموت اليومي البطيء وكانت “دار السيد مأمونة”, من وجع الهزيمة واليأس خضر ضابط وكبر وتبركن في بيئة وطنية ومن عتمة النفس الأخير أيقظ الفجر واشرق ثورة تموزية عام 1958.
كان شجاعاً كفوءً نزيهاً عادلاً صادقاً اعاد للوطنية العراقية روحها وللمشتركات المجتمعية قيمها واتخذ نهجاً ديمقراطياً يغذي فقراء الأمة بالعافية والحرية والحداثة وامل المستقبل في اطار وطني للتغيير والبناء والتقدم, ولد هذا الضابط من رحم استشهاده القادم ليتواصل مشروعاً وطنياً خالداً في ضمائر فقراء العراق.
سقى الذاكرة العراقية بزلال الثقافة الوطنية, مثقفون كانوا في صميم الثورة قبل ان يشرق تموزها, انه موعد الجميع مع الجميع في تيار وطني وضع الأقدام على طريق الحقائق التاريخية لحضارة ما بين النهرين, الضابط كان سومرياً بابلياً في العمق والحلم, اثث حاضراً لنهوض الأجيال وكان جريئاً يسابق الزمن في مواجهات قاسية مع جحافل الغروب الزاحف الى ساعة صفر المكيدة للأنحطاط والتخلف.
الضابط الوطني عبد الكريم قاسم يتصدر الملايين من فقراء الأمة ومعه قلوبهم وارواحهم وثقتهم, تيار ثوري فتي منهمك في بناء تجربته وحماية انجازاته, هناك في معسكر الشر والخيانات التقى الأنحطاط والأنحطاط واندمج القومي البعثي والديني السلفي والعشائري الكردي على سفينة التاريخ المزور وفي اوحال العمالة والخيانة تلطخ بعضهم في رذائل بعضهم واندمجت الحثالات بالحثالات, مؤامرة سوداء في قطار شباطي اسود فتح جرحاً اسوداً في الجسد العراقي.
وقع العراق جريحاً نازفا ثورته وزعيمه, استشهد التاريخ صائماً لا يملك غير شرفه ومشروعه وسرير ارضي, مطبخه (سفرطاس) وملعقة, كان غنياً في كل القيم ورحل كافقر الفقراء, انسحق حاضر ومستقبل العراق وتمزقت وتبعثرت اطراف الحركة الوطنية بين المعتقلات والتصفيات والأبادات الجماعية والأغتراب وتمزق معها المجتمع والهوية الوطنية, تواصلت نكبة الأنقلاب الشباطي مأساة عراقية وشلالات دم ودموع ومقابر جماعية الى يومنا هذا.
هذا الوطن الغني بجمال مكوناته وجغرافيته وبيئته وثرواته وارثه الحضاري, خذلته الطبيعة كما تخون نفسها احياناً فجعلته غنياً بالحثالات ايضاً, حثالات عروبية قومية وعشائرية كردية وسلفية دينية, جميعها امتهنت التبعية والعمالة منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921, من ذات الحثالات التي اسقطت المشروع الوطني لثورة الرابع عشر من تموز 1958 وافرغت رصاص خيانتها في صدر الزعيم الشهيد, يتناسل عنها الآن اخطر جيل من حثالات قديم البعث وجديد الأسلام السياسي فُصِّلَ لأكمال نكبة التمزق والفرقة والتقسيم.
ذات الوجوه الطائفية القومية استورثت المكيدة من اسلافها وتواصلت ابشع نكبة عرفها التاريخ العراقي الحديث, نكبة استهدفت العقل والوعي وتغييب الملايين عن واقعها, مزقت نسيج الهوية وافسدت قيم الأنتماء والولاء وشوهت الحميد من التقاليد والعادات المجتمعية, انها الجريمة التي لا يرتكبها الا الآراذل.
عندما تتعمق وتتسع الأنهيارات من داخل الدولة والمجتمع وتكتمل النكبة تولد معها طفولة التغيير وتنضج الضرورات الذاتية والموضوعية لنهوض الأنتفاضات والثورات الوطنية او الأصلاحات الجذرية التي سيوفرها هامش الديمقراطية من داخل صناديق الأقتراع, هذا ما يتجلى الآن في افق المشروع العراقي لثورة 14 / تموز / 1958 القابع في صميم الحراك المجتمعي.
ونحن نستذكر ثورة الرابع عشر من تموز 1958 الوطنية, بأسمها واسم قائدها وشهيدها الزعيم عبد الكريم قاسم, ندعو المثقفين الوطنيين حصراً للأهتمام اعلامياً بما يلي:1 ـــ الحراك الجماهيري: ليس لدينا بديلاً عن حراك الشارع العراقي الراهن ورغم تواضعه علينا ان ندعمه تياراً وطنياً والحفاظ على سلامته من تلوث الأنتهازيين والنفعيين وتجنب وضعه على طاولة الأسلامويين الأخطر في تعدد الولاءات وتلون الأدوار وثقافة الخذلان, اننا لا نملك غير سلاح الأعلام وعلينا ان نحسن استعماله ومثلما لا حياد بين الخير والشر فلا حياد بين الحراك الجماهيري وجبهة الأصلاح معه وبين حكومة صفقة غير المعلن.
2 ـــ الحشد الشعبي: من الخطأ الفادح خلط اوراق قواعد الحشد الشعبي كقوى طبقية وطنية مع قياداته الراهنة التي تسللت من مؤسسات فساد العملية السياسية ولا زال اغلبها حريصون على سلامة حكومة الصفقة, هنا وبالضرورة ان نعتمد حراكاً اعلامي تصل رسالته الى داخل صفوف الحشد لتوقظ فيه الذاكرة على انهم ابناء واحفاد شهداء المقابر الجماعية ولا زال فيهم جراح ثكلاهم واراملهم وايتامهم ومعوقيهم نازفة ارواحهم وقلوبهم وان العوز يذل عوائلهم فقط علينا ان نساعدهم في ان يدركوا ويستوعبوا حقيقة انتمائهم وولائهم لوطنهم ونجعلهم حذرين ازاء ما سيفرزه الواقع العراقي مستقبلاً.
3 ـــ جبهة الأصلاح: جبهة الأصلاح ولادة وطنية عسيرة من رحم مجلس نواب رئيسه ارهابي وقح, تتعرض الى عملية اجهاض من قوى تحالف الفساد والأرهاب, تحدت اخطارهم وتجاوزت كيدهم في حالة اصرار ومبدئية عالية كي تتواصل ظاهرة وتجربة وطنية يسند ظهرها حراك جماهيري واسع, علينا كأعلاميين ان نكون صريحين في مواقفنا, نحن الآن بين جرفي المواجهة فأما ان نكون على جرف جبهة الأصلاح واما ننحدر الى جرف عملية سياسية مكبلة (بمجمل رئآساتها وروساء كتلها) بملفات فساد وارهاب خطيرة, الترقب السلبي هنا هزيمة للقيم والمباديء وتشويه للمواقف الوطنية.