لقد ارتفعت اصوات , وترددت نداءآت , وانطلقت شعارات تطالب باعتبار الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم شهيداً . ان هذا المطلب لا يرفع من شأن عبد الكريم قاسم في الدنيا , اما في الآخرة فان اعماله هي التي تقرر ما اذا مات شهيداً أم لا .
ليس كل من مات مظلوماً , ولا كل من قتله رفاقه هو شهيد , فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون , وهي درجة عالية جداً لا ينالها الا من مات في سبيل الله , وليس في سبيل منصب او كرسي .
لقد عاصرت هذا الرجل وعشت عهده منذ يوم 14 تموز 1958 حتى مصرعه يوم 9 شباط 1963, سمعته يخطب وشاهدته يحي الجماهير بكلتا يديه .
لقد كانت الزعامة هاجس قاسم الاول , وعندما تأسست حركة الضباط الاحرار وتشكلت اللجنة العليا للضباط الاحرار لم يكن قاسم منتمياً للحركة بل هم الذين اتصلوا به لانه كان آمر لواء , وعندما وافق صار رئيساً للتنظيم بحكم القدم العسكري وليس بالانتخاب او لأي سبب آخر .
منذ هذه المرحلة المبكرة اجرى قاسم تحركات مريبة وغير مبررة من دون اطلاع اعضاء اللجنة العليا عليها , فقد اتصل بالحزب الشيوعي عن طريق صديقه رشيد مطلك الذي لا تربطه اي علاقة بالضباط الاحرار , واتصل بالحزب الوطني الديمقراطي عن طريق محمد حديد , وفي كلا الاتصالين كان اسمه هو المتداول من دون الاشارة الى وجود لجنة عليا للضباط الاحرار وقد قام بتسريب معلومات خطيرة حتى ان الحزب الشيوعي كان على علم بساعة الصفر يوم 14 تموز .
لقد تم احتلال بغداد ومحاصرة قصر الرحاب واسقاط النظام الملكي يوم 14 تموز1958على يد العقيد الركن عبد السلام عارف الذي كان يقود اللواء العشرين في الوقت الذي كان فيه الزعيم الركن عبد الكريم قاسم في منصورية الجبل على رأس لوائه التاسع عشر .
كان الاتفاق قد تم من قبل جميع اعضاء اللجنة العليا للضباط الاحرار على تشكيل مجلس لقيادة الثورة بعد نجاحها , الا ان كل من قاسم وعارف رفضا تشكيل المجلس يوم 14 تموز وأصرا على الرفض رغم انف اعضاء اللجنة العليا .
بعد ان لمس قاسم عنجهية عارف وتهوره , خشي على نفسه ومنصبه . لقد كانت تصرفات عارف نابعة من شعوره انه هو الذي نفذ الثورة وحقق نجاحها , وهو الذي تحمل وحده عبيء مسؤولية المخاطرة بحياته .
لم يكن عارف يستهدف اسقاط قاسم الا انه كان يريد من الجميع ان يفهموا انه هو الذي صنع الثورة , وكان قاسم يعلم ذلك لكنه كان يريد ان يكون عارف الرقم 2 في الحكم وليس رقم 1 مكرر كما كان يرغب عارف .
لقد كان عارف على حق , فهو قد اشترك مع قاسم في التآمر على اللجنة العليا للضباط الاحرار واحتفظا سوية بتوقيت التنفيذ ولم يتم تبليغ اعضاء اللجنة بساعة الحسم ,واشترك معه في العمل على عدم تشكيل مجلس قيادة الثورة , فلماذا لا يكون هو رقم 1 مكرر مع قاسم .
لقد انتهى موضوع مجلس قيادة الثورة حينما رضخ اعضاء اللجنة العليا للضباط الاحرار لرغبة قاسم وعارف بغض النظر عما اتفقوا عليه بشأن تشكيل مجلس قيادة الثورة , وهكذا اصبحت قيادة الدولة بيد قاسم وعارف وهو امر اشد خطورة عليهما من تشكيل مجلس لقيادة الثورة .
لقد كان قاسم يسارياً وليس شيوعياً ولا قومياً , وكان عارف قومياً وليس وحدوياً ولا يسارياً ……. معادلة صعبة الفهم والتطبيق .
المشكلة بين الاثنين تتلخص في ان قاسم يريد ان يلبس تاج الزعامة وحده .. لكن عارف هو الذي صنع التاج صبيحة يوم 14تموز على اشلاء العائلة المالكة ….هذا التاج لا يتسع لرأسين … هذه هي احدى مشاكل التيجان ..كل التيجان عبر التاريخ مصممة لرأس واحد فقط … ومن مشاكل التيجان ايضاً ان الرأس الذي يلبس التاج يرفض خلعه …فيضطرغريمه الى قطع رقبته لكي يصبح بامكانه الاستحواذ على التاج …هذه مشكلة ازلية باقية حتى يومنا هذا .
استطاع عبد الكريم قاسم بدهائه ودعم الضباط الاستحواذ على التاج فاصبح الزعيم الاوحد للعراق , وهو لقب اخترعه الشيوعي عزيز الحاج , كما كتب ذلك هو بنفسه ..وهو نفسه ايضاً اعتبر قائد القوة الجوية في عهد قاسم العميد الطيار الركن جلال الاوقاتي الشيوعي الذي اغتاله البعثيون يوم 8 شباط 1963 شهيداً . ..معادلة اخرى صعبة الفهم .
ماذا حقق عبد الكريم قاسم ؟ كان اول عمل قام به هو تشتيت الضباط من اعضاء اللجنة العليا امثال العميد الركن ناجي طالب والعقيد رجب عبد المجيد والعقيد الركن صبيح علي غالب والعقيد الركن محسن حسين الحبيب وغيرهم , سبب التشتيت هو الاختلاف في الرأي .
اصدر قاسم قانون الاصلاح الزراعي الذي لم يحدث اي اثر ايجابي على الزراعة في العراق , كان الاجدر به اصدار قانون لاصلاح الفلاح وليس اصلاح الزراعة .
اصدر عفواً من دون شروط على الملا مصطفى البرزاني , وكان ذلك سبباً من اسباب عودة عدم الاستقرار الى شمال العراق , وقد استمر ذلك الى ما بعد مصرعه .
اصدر قانون الزحف في مدارس وكليات العراق , فسحبت كل دول العالم اعترافها بالشهادات العراقية .
اعاد تسليح الجيش بالسلاح السوفيتي وكان بعضه جيداً وبعضه من مخلفات الحرب العالمية الثانية .
نفذ حكم الاعدام بعدد من زملائه كبار ضباط الجيش الذين تمردوا عليه امثال العميد الركن ناظم الطبقجلي و العقيد رفعت الحاج سري والعقيد الركن عبد الوهاب الشواف وغيرهم .
في المجال السياسي كانت علاقات العراق مع كل الدول العربية سيئة وكذلك مع امريكا والدول الاوربية عدا الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية .
لقد قيل عنه انه كان نزيهاً عفيفاً نظيف اليد …. وهذا صحيح جداً …ولكن من من الرؤساء والسياسيين العراقيين لم يكن نزيهاً نظيف اليد ؟ نوري السعيد ام فاضل الجمالي ام عبد السلام عارف ام عبد الرحمن عارف ام عبد الرحمن البزاز ام ناجي طالب ؟ ان الفساد المالي والسياسي بدأ بعد 17 تموز 1968 .
قيل عنه انه عفى عن الشباب البعثيين الذين فتحوا النارعليه واصابوه …وهذا ايضاً صحيح ..
لكن الانباء ذكرت ان الحكومة اللبنانية اكدت له ان لديها معلومات دقيقة تفيد ان انبوب النفط العراقي المار عبر سوريا سيفجر اذا ما تم تنفيذ حكم الاعدام , وهذا هو سبب العفو . وقد قام قاسم باعلان عفوه عن الذين حاولوا قتله بنفسه , وفي ذات الوقت اصدر امراً بالعفو عن عشرة شيوعيين محكومون بالاعدام لاشتراكهم في احداث كركوك والموصل عام 1959 من دون ان يعلن ذلك .
سيسجل التاريخ على عبد الكريم قاسم ان الملك فيصل الثاني قتل في عهده بدم بارد هو وولي عهده الامير عبد الآله وجميع افراد العئلة المالكة الذين كانوا متواجدين في قصر الرحاب فجر يوم 14 تموز 1958 …لن ينسى ولن يغفر التاريخ لعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف على هذه الجريمة النكراء .
لقد قيل عن قاسم انه كان نصيراً للفقراء وانه بنى لهم مدينة الثورة في بغداد ( اصبحت مدينة صدام ثم صارت مدينة الصدر ) . ان بناء دور للفقراء انجاز اجتماعي رائع … ولكن لماذا في بغداد ؟ هل ان فقراء بغداد هم اكثر من فقراء المحافظات الاخرى ؟ لقد ادى ذلك الى هجرة مئات الآلاف من العوائل الفقيرة تاركين محافظاتهم متجهين نحو بغداد مما تسبب فيما بعد الى حصول خلل اجتماعي نتيجة البطالة وقلة المدارس وارتفاع نسبة الجريمة . لو تم بناء دور للفقراء في المحافظات وانشاء مشاريع تنموية فيها لانتعشت المحافظات وارتفع فيها مستوى المعيشة .
ان من اهم انجازات قاسم هو اختياره لوزراء ذوي كفاءآت عالية بغض النظر عن اتجاهاتهم السياسية الا ان ديكتاتوريته وغياب المستشارين الاختصاصيين ادى الى ان تكون قراراته فردية عرضة للخطأ , وقد تحمل هو نتيجة قراراته .
قيل عن عبد الكريم قاسم انه لم يكن عميلاً لأي دولة او جهة … ان هذا الامر صحيح جداً ولا يوجد داع لمناقشته , فقد كان الزعيم وطنياً مخلصاً وقد اعترف بذلك معارضوه قبل المؤيدين .
هل كان قاسم يستحق ان يموت بالطريقة التي مات بها ؟ الجواب كلا والف كلا , هو لا يستحق ان يموت بالطريقة التي مات بها ,.حتى الضباط الذين اعدمهم قاسم , وهذه احدى اخطائه الكبرى , فانهم اعدموا بعد بعد محاكمتهم بصورة علنية, رغم ان المحكمة لم تكن عادلة .
لقد فتحت امام الفريق الركن عبد الكريم قاسم منذ يوم 14 تموز آفاقاً رحبة لم يكن يتوقعها هو ولا رفاقه , الا انه لم يحسن استغلالها لتفرده في اتخاذ القرارات .
اذا كان عبد الكريم قاسم يعتبر شهيداً , فما هو اعتبار الملك فيصل الثاني ؟ اذا كان الملك مات شهيداً فهذا معناه ان القاتل والمقتول شهيدين . وهذا لا يجوز في الاسلام .
هل مات عبد الكريم قاسم مظلوماً ؟ نعم , فقد كان من المفروض تقديمه لمحكمة عادلة تقرر مصيره . وهل مات الملك فيصل الثاني وولي عهده الامير عبد الآله مظلومين ؟ الجواب نعم ايضاً . هؤلاء الثلاثة ماتوا مظلومين لا لانهم ابرياء بل لانهم لم يتمكنوا من الدفاع عن انفسهم امام الشعب العراقي . في عرف الدين الاسلامي هؤلاء مظلومين ولكن ليسوا شهداء .
رحم الله الملك فيصل الثاني ملك العراق
رحم الله الامير عبد الآله ولي عهد العراق
رحم الله الفريق الركن عبد الكريم قاسم اول زعيم للعراق الجمهوري