27 يوليو، 2025 10:34 ص

عبد القادر البستاني أنفاس العراق الحمراء التي لم تُطفأ

عبد القادر البستاني أنفاس العراق الحمراء التي لم تُطفأ

في زمنٍ كانت الكلمة فيه تُقايض بالحياة، وكانت المبادئ تُختبر تحت سياط الجلادين، ولد عبد القادر إسماعيل البستاني في باب الشيخ، حياً قديماً يكتنز عبق التمرد، وبين أزقته خطا خطواته الأولى، قبل أن يبدأ رحلته الأشد خطورة: رحلة الانتماء إلى الإنسان، وقضية الوطن.

كان أبوه خياطًا بسيطًا، ووكيلًا لبستان آل النقيب، ومن هنا جاء اللقب، “البستاني”، لكنه لم يرث من البساتين غير جذوة الثورة، ولم يحمل من لقب النبلاء إلا كبرياء الكلمة التي قاومت فؤوس القمع، ومناشير الاستبداد.

من الثانوية المأمونية إلى كلية الحقوق، ومن فصول الدراسة إلى شوارع المظاهرات، تماهى عبد القادر باكرًا مع قضايا الجماهير، ففُصل من الكلية بعد أن هتف باسم الحرية، لكنه عاد وتخرج لاحقًا عام 1933، ليختار طريق المحاماة الحرة، رافضًا الوظيفة الرسمية التي كانت مشروطة بالتخلي عن السياسة، وكأن الولاء للوطن كان تهمة، والانتماء للمظلومين جريمة لا تُغتفر.

كان من الرعيل الأول الذي اعتنق الفكر الاشتراكي يوم كان مجرّد حديث شجعان. تلاقى مع حسين الرحال، ومحمود أحمد السيد، وحسين جميل، ونوري روفائيل، وآخرين، يوم لم تكن الماركسية موضة، بل مغامرة تسير على حد السيف. ولم يكن الفكر آنذاك ترفًا فكريًا، بل مشروع خلاص. انضم إلى نادي التضامن، وكتب في الأهالي، وساهم في بلورة خطاب يساري عراقي الهوى، أمميّ النزعة.

دخل البرلمان سنة 1937 ممثلًا عن جمعية الإصلاح الشعبي، فكان صوته شوكة في حلق النظام. لم يتحمل الطغاة لهجته الواضحة، ولا لغته الفاضحة للفساد، فأغلقوا الجمعية، ثم أسقطوا جنسيته، كأن الوطن ملكٌ لمن يحكم لا لمن يفكر.

في المنفى، لم يخمد صوته، بل أصبح أكثر صفاءً. في دمشق وبيروت وباريس، كان البستاني أكثر من منفيّ. كان قنطرة أمل بين الفصائل، ووسيطًا بين الرفاق في زمن التشظي والانقسام. حمل على كتفيه خلافات الأحزاب، وراح يوحّد الصفوف تمهيدًا لقيام جبهة الاتحاد الوطني عام 1956.

عندما اندلعت الحرب الأهلية في إسبانيا، لم يكتفِ بالكلام، بل شد الرحال، وحمل السلاح، وانضم إلى الفيلق الأممي ليقاتل مع الشيوعيين الإسبان بقيادة دولوريس إيباروري، مرددًا شعارهم: لن يمرّوا.

ومن إسبانيا إلى موسكو وباريس ودمشق، كانت محطاته كلها ساحات نضال. عضويته في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري، ثم الفرنسي، وعودته إلى العراق بعد ثورة 14 تموز المجيدة، كانت شهادة على أن جذوة المناضل لا تنطفئ مهما طال المنفى.

حين أصدر الحزب الشيوعي العراقي جريدة اتحاد الشعب، تولّى البستاني رئاسة تحريرها، وجعل منها منبرًا للمقاومة الفكرية في وجه الرجعية، والجهل، والتبعية، لكن لعنة العراق لا تنفكّ تلاحق أبناءه الأنقياء.

في انقلاب شباط الأسود عام 1963، زُجّ بالبستاني إلى قصر النهاية، وهناك، لا يعرف الجلد رحمة، ولا يعترف بالعمر، ولا يشفق على الشيوخ. كُويَ جسده بالكهرباء، وترك آثارًا بقيت حتى الموت، لحظة ضعف انتزعوا فيها منه بعض اعترافات، لكنه ظل نادمًا عليها حتى الرمق الأخير، وتلك الندامة كانت سياطه الخاصة التي لم تفارقه في سجن نقرة السلمان.

في ليال السجن المعتمة، كان البستاني حكايةً تمشي، رجلًا تنبعث منه حرارة التجربة ومرارة الإخفاق، وقدسية الإيمان بفكرة لم تمت. حين سأله أحد الشباب في السجن: “هل سيعود الحزب الشيوعي إلى قيادة الجماهير؟”

أجاب بشيء من الفلسفة والتجربة معًا: “لا أقول سيعود أو لا يعود… لكن طالما هناك طبقة عاملة، فلابد أن يكون من يمثلها ويقودها.”

ثم أضاف بابتسامة العارف:”غادرت العراق في الخمسينات، لم يودعني سوى ثلاثة رفاق… وعدت بعد ثورة تموز، فاستقبلتني الآلاف. الحزب قد ينكمش، لكنه لا يموت، لأنه فكرة، لا شخص، ولا تنظيم.”

وفي لحظاته الأخيرة في دمشق، طلب البستاني من رفاقه بطاقة انتساب جديدة للحزب الشيوعي، وكأنه يريد أن يُختم حياته بجملة وفاء، ويضع توقيعه الأخير على صفحة من التضحية.

يروي الدكتور علي القاسمي في كتابه “طرائف الذكريات”، موقفًا لا يُنسى من البستاني حين زاره نوري السعيد في زنزانته، وقال له:”لماذا لا تشاركون في الحكم بدلًا من الثورة؟”

أجابه البستاني ببرود الثائر:”نحن ثوّار يا أبا صباح، ولسنا إصلاحيين.” قال نوري:” يعني أنكم ستقتلوننا إذا نجحتم؟”

فقال عبد القادر:” ممكن.”

ذلك هو عبد القادر البستاني… رجلٌ لا يراوغ، لا يُنافق، لا يراهن على نصف الحق. قالها كما هي، وعاشها كما يجب.

في زمن تهاوت فيه المبادئ تحت أقدام المصالح، يبقى البستاني شاهدًا على زمن الرجال الكبار، الذين لم يبدّلوا قناعاتهم، ولم يبيعوا دماءهم مقابل مقعد أو منصب.

رحل في منفاه، لكنه لم يمت. لأن الموت لا يطال من كتبوا أسماءهم على جدران الذاكرة الحمراء. سيبقى عبد القادر البستاني رايةً خفّاقة في سماء النضال، وصوتًا صدّاحًا في أذن كل من لم ينحنِ.

سلامٌ عليه في سجون الوطن، وفي منافي الاغتراب، وفي صحفٍ سُحبت من التداول لأنها قالت الحقيقة.

سلام على رجلٍ عاش يحمل فكرًا أكبر من جسده، ووطنًا أوسع من خريطته.

أحدث المقالات

أحدث المقالات