عبد الرزاق الصافي: نبضُ الصحافةِ الحمراء وقلمُ الفكرة الواضحة

عبد الرزاق الصافي: نبضُ الصحافةِ الحمراء وقلمُ الفكرة الواضحة

كان عبد الرزاق جميل الصافي أكثر من مجرد صحفي أو محامٍ أو مناضل حزبي. كان ظاهرة عراقية ذات نبرة خاصة، اختلط فيها الفكر بالفعل، والكلمة بالموقف، والإنسانية بالانضباط الحزبي، حتى صار اسمه مرادفًا للثبات وسط العواصف.

وُلد في كربلاء، المدينة التي تحفظ للتاريخ أرواحًا لا تنطفئ، لعائلة ذات وجاهةٍ رفيعة، لكنها من طينة الفقراء في المال، والأثرياء في المبادئ. خُلِّد مولده بشطر بيتٍ من الشعر نظمه الشيخ الحويزي، ختمه بـ: “جميل الخلق للرزاق عبدا”، كأن الشاعر استشرف صيرورة رجلٍ سيصير عبدًا حقيقيًا لقضية الرزق الجمعي: العدالة الاجتماعية.

منذ فجر شبابه، لم يكن عبد الرزاق تلميذًا نمطيًا. كان يحمل في حناياه قلبًا نابضًا بالقضية. عُوقب انضباطيًا في الثانوية لمشاركته في مظاهرة ضد تقسيم فلسطين عام 1946، ثم عاد ليقف في وجه معاهدة بورتسموث عام 1948، خطيبًا لا يهاب، ومناصرًا للناس لا للمهادنة. وقد دخل إثر ذلك في دهاليز المحاكم والمعتقلات، حتى صار سجنه المتكرر جزءًا من سيرة حياته، كما لو أن الكفاح قدره الذي لا فكاك منه.

درس الحقوق في بغداد وتخرج بدرجة «جيد»، لكن عمادة الكلية حجبت شهادته استجابة لضغوط الأجهزة الأمنية. لم يستلمها إلا بعد قيام ثورة تموز 1958، حين استعاد الناس أصواتهم، واستعاد هو حريته ليبدأ فصلًا جديدًا من نضاله، لكن هذه المرة بلغة أعمق: الكلمة.

لم يكن الصافي مجرّد ناشط سياسي، بل كان هيكلًا من وضوح، يُقاتل بالأفكار كما يُقاتَل بالسلاح. عمل في قيادة تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي في بغداد، ثم أوفده الحزب إلى بلغاريا ليتدرّب في المدرسة الحزبية العليا، وعاد منها محمّلاً بثقافة منظمة ومزودًا برؤية حزبية متكاملة، لينضم إلى إذاعة «صوت الشعب العراقي» في صوفيا، فيكون صوته صوت العراق الغائب، وضميره الناطق.

وحين عاد سرًا إلى العراق عام 1968، انخرط في تحرير الجريدة السرية طريق الشعب، وعند صدورها علنًا عام 1973 تولى رئاسة تحريرها، فصار قلمه نافذة الحزب، ولسانه الذي لا يلين. كتب بروح المثقف، لكن بصلابة الثائر، وحرّر الصفحات وكأنها بيانات تعبئة سياسية.

لم يقتصر دوره على الإعلام، بل ظل عضوًا فاعلًا في اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الشيوعي، يُكلف بمهام سياسية دقيقة، ويشارك في صناعة القرار التنظيمي والإعلامي. وكان في طليعة ممثلي الحزب في منظمة الأنصار، مشاركًا في دعم المقاومة الفلسطينية، ومساهمًا في فضح جرائم نظام البعث في الصحافة اللبنانية.

شارك في جميع مؤتمرات الحزب، وكان حاضرًا في النضال التنظيمي كما في الإعداد الفكري. عاش مع الأنصار في جبال كردستان، وساهم في بناء التحالفات الوطنية من دمشق وبيروت، وواصل حضوره في لندن بعد أن أنهكه المرض، لكن روحه بقيت صافية، كما اسمه، لا يشوبها وهن ولا تشوبها مرارة.

عبد الرزاق لم يكن زعيمًا نخبويًا، بل إنسانيًا حتى في قيادته. هكذا وصفه الناقد ياسين النصير، الذي رافقه في مؤسسات الحزب الثقافية، فقال: “كان عبد الرزاق ظاهرة تنظيمية، لا شخصًا. رجلًا يفيض إنسانية رغم موقعه، ويحترم حتى المختلفين معه. لا يختزل الحزب في أشخاص، بل يراه مؤسسة فكرية واجتماعية، والانتماء إليه وعيٌ لا تبعية”.

ترجم كتبًا فكرية هامة مثل الشيوعية العلمية والإدارة العلمية للبناء الاشتراكي، وأعدّ كتبًا مثل شهادة على زمن عاصف ومن ذاكرة الزمن، وكان فيها شاهدًا لا يختبئ خلف الشعارات، بل يتحدث بلغة التجربة الحية.

في 14 أيار 2019، توقّف قلبه في مشفى بلندن، لكن صوته لم يتوقف. ظل حيًا في السرديات الوطنية، في أرشيف الحزب، في مقالاته وترجماته، وفي ذاكرة كل من عرفه وقرأ له. مات جسده بعد أن بلغ الثامنة والثمانين، لكن عبد الرزاق الصافي، الصحفي والمناضل والمفكر، ظلّ خالدًا في سيرة العراق الذي لا ينسى أبناءه المخلصين.