23 ديسمبر، 2024 5:58 ص

عبد الرحمن منيف ؛؛حكاية من سنوات الملح!  

عبد الرحمن منيف ؛؛حكاية من سنوات الملح!  

يعيدني الملف عن الروائي الراحل عبد الرحمن منيف المنشور في صحيفة العرب اللندنية، وساهم فيه الصديقان زيد الحلي وماجد السامرائي ؛ إلى قصة وقعت لي مع الراحل اكشف عن تفاصيلها لأول مرة. صيف العام 1978 انفرط عقد الجبهة الوطنية بين حزب البعث الحاكم وحزب عزيز محمد الشيوعي وشن البعثيون حملة اعتقالات بذريعة محاولة انقلاب شيوعية وصدرت أحكام بإعدام مجندين في الجيش تحت لافتة ان حزب عزيز محمد خرق ميثاق الجبهة ومارس نشاطا داخل القوات المسلحة . 
حينها كنت على صلة بالحزب كصديق لأني كنت معارضا لمشروع الجبهة مع حزب لا يعترف بالآخر ويتعامل مع الحلفاء كاليتيم على مائدة اللئيم. لكن مصير الشبان المحكومين بالإعدام تحول بالنسبة لنا جميعا إلى قضية شرف. فلبيت طلب الحزب بشن حملة لوقف الإعدامات وتوجهت إلى المبنى  الصغير الأنيق في المنصور للقاء رئيس تحرير مجلة”  النفط والتنمية” الدكتور عبد الرحمن منيف الذي كنت أجريت معه حوارا قبل يومين لصفحة آفاق في جريدة الجمهورية على ان استكمل الجزء الثاني منه بعد أسبوع وان ينشر على حلقتين بعد ان يطلع منيف على النص قبل النشر . 
دخلت إلى المبنى بحذر شديد خشية ان يعلم بزيارتي شيوعيان سابقان كانا يعملان في المجلة قال لي “الرفاق “في طريق الشعب لسان حال الحزب الشيوعي الجبهوي  المحاصر ” ابذل كل ما بوسعك لتجنبهما وان لا يعرفا طبيعة زيارتك إلى منيف لانهما مرتبطان بأجهزة الأمن”. 
انفرج وجه منيف الذي تغلفه على الدوام مسحة حزن كأنها ولدت معه ، وقال بلهجته المزيج من العراقية المخففة والأردنية المتانقة   وبادرني مندهشا ” مرحباً موعدنا بعد أسبوع” قلت معتذرا” نعم لكني جئتك لأمر خطير”. 
أنصت بانتباه وألم حين حدثته عن أحكام الإعدام بحق شباب صغار لم يرتكبوا ذنبا غير أنهم صدقوا  قادتهم في الجبهة ووعود النظام . وسألته التدخل بصفته قياديا قوميا سابقا في البعث. اطرق الرجل  وقال ليس لدي غير ان اعرض الموضوع على عبدو ديري قائد القوات البحرية العراقية وعضو القيادة القومية.  وأضاف ” هذا الرجل صديقي وربما يؤثر في القرار ” وحين  اصطحبني إلى  باب مكتبه مودعا كرر لأكثر من مرة ” مع الأسف مع الأسف لا يجوز إعدام الناس” . 
خفت على منيف من الحيطان التي لها أذان أكثر من خوفي على نفسي. ورجوته ان لا يخرج معي إلى الباب الخارجي. كنت أخشى ان يلحظ وجودي في المبنى الأنيق ” الشيوعيان الخائنان” ويخمنان الهدف من الزيارة. لم يفهم منيف سر أصراري على ان أغلق باب مكتبه خلفي. وظلت عبارته الهادئة المفعمة بالإخلاص عالقة بذهني” سأفعل ما بوسعي” وأنا أغلق باب ”  النفط والتنمية ”  خلفي بهدوء مثل قط يتربص بفأر! 
بعد ساعة من ذلك اللقاء نقلت للحزب تفاصيل ما قاله منيف وكان اول سؤال هل رآك فلان وفلان؟؟؟ 

في اليوم التالي نشرت الحوار غير الكامل مع منيف . فعاتبني الصديق ماجد السامرائي على العجلة وابلغني ان الدكتور منيف كان يريد ان يكتمل الحوار قبل ان ينشر . وبصفاء سريرته المعهود سألني ماجد” ليش العجلة” لم أتمكن من البوح له بان الغيوم تتلبد فوقنا في جريدة الجمهورية وان حسن العلوي استنتج في تقرير كلفته القيادة بإعداده لمناسبة مرور عشر سنوات على ثورة السابع عشر – الثلاثين من تموز بان ” الأعداء يهيمنون على الاعلام في القطر ” وأوصى بعزلنا. 
كانت هذه المعلومة وصلتني من بعثي صديق ابلغني بان أيامنا معدودة في الجريدة بل ربما نتعرض إلى الاعتقال. كنت حزمت حقائبي.
بعد اسابيع أعدمت السلطات المجندين   الشيوعيين وخربت الجبهة . وشن النظام  حملة اعتقالات نجوت منها بالسفر إلى الخارج.  
حتما بذل الروائي الراحل ما بوسعه لكن صوت المثقف في شرق المتوسط أصم   داخل مدن الملح! 
كانت حياته حافلة بالأسرار وموته فجيعة.