18 ديسمبر، 2024 9:07 م

عبد الحسين شعبان وطائرة اليسار..

عبد الحسين شعبان وطائرة اليسار..

هل تجنبت الخيبة لتهبط بمطار الأمل؟بعد اتصال هاتفي، التقيت الصديق الأستاذ حيدر شعبان في مقهى (الشابندر) بشارع المتنبي في العاصمة العراقية بغداد، في أجواء يعبق فيها التراث البغدادي، وسحب دخان (الناركيلة). التقيت الأستاذ حيدر، بامتنان كبير، تسلّمت منه نسخة من كتاب (المثقف وفقه الأزمة – ما بعد الشيوعية الأولى) تأليف الدكتور عبد الحسين شعبان، من منشورات بيسان للنشر والتوزيع – بيروت/2016.
الإهداء: معاً على الطريق
كتب عديدة وصلتني من مؤلفين: عراقيين وعرب، موشحة بإهداءات من مؤلفيها. لكني، هذه المرّة، شعرت بأن ما تضمنه إهداء الدكتور شعبان، له مضمون يتعدى الطعم الخاص. وليعذرني الصديق عبد الحسين شعبان حين أشرك القارئ بقراءة سطور الإهداء، حيث جاء فيها: (الصديق عكاب سالم الطاهر: مع المودّة أهديك هذا الكتاب، ومعاً على طريق الحرف النظيف والكلمة الحرة، أصافحك).
وأشعر أن يداً محمّلة بالدفء امتدّت نحوي، ولا بدّ لكلتا يدي أن تطبقا على تلك اليد بدفء وترحيب أكبر.
من هو المؤلف؟
الدكتور عبد الحسين شعبان، له حضور واسع: عراقياً وعربياً وعالمياً، وليس انتقاصاً منه، أن نقدّم السطور التعريفية التالية: (ولد في النجف عام 1945)، ناشط في
حقوق الإنسان، مفكر إنساني. ابتدأ مناضلاً مع القوى اليسارية في العراق منذ شبابه، فحوصر ولوحق حيثما رحل. وتميّز بموسوعية قانونية ثقافية. جدلي التفكير). هذه السطور منتقاة من الجزء الأول من موسوعة (أعلام وعلماء العراق)، تأليف الباحث حميد المطبعي.
وأعتز كثيراً أن المفكّر عبد الحسين شعبان قدّم الطبعة الثانية من كتابي (على ضفاف الكتابة والحياة – الاعتراف يأتي متأخراً)، التي صدرت مطلع عام 2016 – وفي (التقديم)، كان هناك تعريف بشخصية الدكتور شعبان، حرصت على تدوينها، وأنقلها هنا كتعريف مضاف بهذه الشخصية الغزيرة العطاء: (دكتوراه فلسفة (مرشح علوم) في العلوم القانونية من أكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية، براغ، معهد الدولة والقانون. أكاديمي ومفكر، باحث في قضايا الإنسانيات والحقوق والأديان والفكر السياسي. أستاذ في القانون الدولي وفي فلسفة اللاّعنف. له نحو (60) كتاباً في الفكر والقانون والسياسة والنقد والثقافة).
الاستهلال…
والآن، وبعد هذه الممهدات الضرورية، دعونا نفتح الكتاب ونقرأ.
يبدأ الدكتور عبد الحسين شعبان باستهلال، وهو كما نراه يماثل (التقديم). وفي الصدارة منه، يثبت المؤلف قولاً للفيلسوف الألماني (نيتشه) جاء فيه: (حتى الشيطان يخجل من الحقيقة).
ومن السطر الأول من الاستهلال، يفرق الباحث بين (الداعية السياسي) و (المثقف). إذْ يقول: (يختلف الداعية السياسي عن المثقف، في أن الأول يستخدم جميع الوسائل للتبشير بأفكاره وللترويج لسياسة جماعته أو حزبه أو الفئة التي ينتمي إليها، بما فيها تبرير أفعالها وسلوكها، وأخطائها… في حين أن وظيفة المثقف هي النقد، ونقده يدعوه لنشر الحقيقة والمعرفة، وكشف المزعومات التي تنتجها جماعة سياسية لنفسها، أو طائفة دينية أو فريق يضع بوجه النقد ميليشيات ثقافية).
بعيداً عن التعسف
ولكي لا نتعسّف في قراءة المسارات، نتساءل: هل أن كل (الدعاة السياسيين) هم بتلك السمة التي أشار إليها الباحث، وهل أن كل المثقفين هم بتلك السمة: النقد ونشر الحقيقة والمعرفة؟. دون شك (التعميم) في هذه الحالة وفي غيرها موقف لا موضوعي. وها هو الباحث شعبان يقول: (بلا أدنى أوهام، فثمة مثقفون تحولوا إلى دعاة ومؤدلجين لأنظمة أو جماعة سياسية أو دينية أو مذهبية، وفقدوا بذلك جزءًا من وظيفتهم، ولا سيّما حين يغلب عليها الجانب الدعائي التبشيري والترويجي على حساب الجانب التساؤلي النقدي، في محاولة لإبراز المزايا والمحسن، وإخفاء العيوب والمثالب…).
إذن: شطب الدكتور عبد الحسين شعبان على هذا التساؤل المصحوب بالتوجس، حين ابتعد عن (التعميم).
أخلاق المناظر.. ومتاهات المناورة
ومن موقع رصد موضوعي، يقرر الباحث: (غالباً ما يواجه النقد بالاتهام أو الشك، ويتم التعامل معه بالخفّة وعدم الاتزان، ويخرج بعضهم عن أخلاق المناظرة والمبادرة والمحاورة، ليدخل في متاهات المبارزة والمناورة والمؤامرة، والأكثر من ذلك حين يتصرّف خارج نطاق أي اعتبار، سوى ما يهيمن عليه من إلغاء الآخر أو استئصال أو تحطيمه).
بين المراجعة والتراجع
وألمس في المعالجات التي تضمنها الكتاب، أن الهم الأساس للباحث، هو (المراجعة)، بكل ما تتضمّنه وتشترطه، لكي لا تتداخل مع خندق (التراجع) الذي هو موقف ارتدادي لا تصحيحي. وحين يكون الباحث عبد الحسين شعبان في خندق المراجعة، فان ذلك ليس موقفاً مفاجئاً، فالباحث من الرعيل اليساري، ومنذ شبابه، ذلك الجيل الذي شهد الانتصارات والكبوات. إذن هو ناقد يستظل بخيمة اليسار، خياره الأول. فها هو يقول: (في
تاريخنا بعض المطبّات والانحرافات التي علينا مراجعتها، مثلما فيه الكثير من الإشراقات والإيجابيات التي يمكن استلهامها..). إذن هو نقد من الداخل وهو نقد مسؤول للذات، كما أشار الباحث.
315 صفحة وخمسة أقسام
اشتمل الكتاب على خمسة أقسام، موزعه على (315) صفحة.
القسم الأول، حمل عنوان (القراءة والنقد والأزمة). وتصدره مبحث بعنوان: مأزق المثقف الشيوعي.
أما القسم الثاني، فهو بعنوان: المثقف والموقف من الآخر. ويقول الباحث إن هذا القسم يتناول حدثين يتعلّقان بكتابين صدرا له، وهما: النزاع العراقي- ملاحظات وآراء في ضوء القانون الدولي. وقد صدر عام 1981. أما الكتاب الثاني فحمل عنوان:
عامر عبدالله – النار ومرارة الأمل فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية. وصدر عام 2014.
الرقم الصعب
القسم الثالث، يسلّط الضوء على (المثقف والرقم الصعب). ويتناول فقه الأزمة ومتفرعاتها من خلال الثقافة ودور المثقف، واختلال العلاقة بالسياسي.
أما القسم الرابع، فقد حمل عنوان (المثقف وأزمة الثقافة) واحتوى القسم الخامس على أربعة مباحث، وكان عنوانه (المثقف وثقافة الأزمة).
بعيداً عن مطار الخيبة
في تقديمي لكتابي العاشر، الذي حمل عنوان: (على ضفاف الكتابة والحياة –الاعتراف يأتي متأخراً)، كتبت: (كانت رحلة أتصورها مثيرة. تداخلت فيها الأحلام
والأوهام. انتصر الحلم على الوهم حيناً، لكن الأوهام تفوقت في أحيان كثيرة. وبأسى كبير أقول: إن طائرة الأحلام بقيت تحوم بحثاً عن مطار تهبط فيه. وأتعبها الحوم والانتظار. حيث رفضت جميع المطارات إعطائها إذناً بالهبوط. مطار واحد استقبلها هو: مطار الخيبة).
وكان ما كشفت عنه، اعترافاً مرّاً. ومرارته بحجم ظاهرة التداعي والنكوص والإحباط. كانت الوحدة القومية حلماً، فتحولت إلى سراب. كانت الاشتراكية حلماً، لكن الدولة الاشتراكية الأولى في العالم تفككت وانهارت.. تداعيات كبرى وقعت، لتفضي الى خيبة بحجمها.
لكن طائرة الباحث اليساري الدكتور عبد الحسين شعبان، ابتعدت عن مطار الخيبة، لتهبط في مطار الأمل، وهو أمل مرٌّ، كما يذكر الباحث. وأميل للقول: إن ما يحتاجه اليساريون العراقيون خاصة، هو: التمسّك بقوة الأمل، بتلك الأحلام التي نحتوا في الصخر، من أجل تحقيقها.
الكتاب استقرائي تحليلي، يفصح عن جهد كبير، بذله الباحث. إنه كتاب يُقرأ..