23 ديسمبر، 2024 8:50 م

عبد الحسين شعبان في وعيه الشقي

عبد الحسين شعبان في وعيه الشقي

محطات في مراح الذاكرة الخصبة
عن دار بيسان في لبنان – بيروت ، صدر كتاب من إعداد الإعلامي والكاتب ” توفيق التميمي” تحت عنوان ” المثقف في وعيه الشقي” وهو جولة في ذاكرة عبد الحسين شعبان.

وقد شكّل هذا الكتاب مدخلاً إلى فضاء القدرة المعرفية والخزين الفكري الذي يتميّز به الدكتور عبد الحسين شعبان، سيما وأنه هو الذي يدرك المعنى الوجداني للكشوفات التي يستطيع أن يقدمها، فشعبان لا يسرد حدثاً عادياً، ولا يكشف عن تجربة احتمالية ذات طابع مجاني، بل يسرد حقائق أساسية، كانت لها نتائج على الأرض، خلّفت تحوّلات خطيرة على مستوى الحاضر والمستقبل.

هنا يصبح المثقف صانعاً ومشاركاً للحدث ومواكباً لتطوراته إذ يقوم بعجن عجين المكوّنات الأساسية، وهو الذي ينضجها في تنّور النضال الشرس الذي يخوضه روّاد التغيير في عالمنا العربي خصوصاً، وفي العالم الثالث بشكل أعم.

والكتاب سجل شهادة وصفحات اعتراف لتاريخ اليسار لعراقي، وبالنسبة للمؤلف فإنه كشفٌ لكل ما يجب أن يكشف عنه الآن، بالنسبة لمثقف وشاهد طوعي وكان توفيق التميمي المحفّز من خلال الحوار والجدل وإثارة الأسئلة الشائكة، فيما اتخذ شعبان طابع البوح والمكاشفة في النقد، ليقدما لنا في نهاية المطاف سردية مدهشة الدلالة، لا فيما يخص التاريخ، بل إن قوتها ما تزال تملك حضورها وتستشرف أفقاً مستقبلياً لإنضاج الجديد، وذلك بعد تجارب ونجاحات وإخفاقات وبكل الأحوال لم تكن دون معاناة وألم وتضحيات.

يقول “تي. أس. إليوت” الشاعر الكاثوليكي الانكليزي:” نحن الرجال الجوف، نحن الرجال المحشوون، بعضنا يسند بعضاً، ورؤوسنا محشوة بالقش، وخطواتنا كخطوات فئران على الزجاج المحطم”…

استشهد بهذا الشاعر لأشير إلى واحد من جيلنا ، إنبجس كالماء الصافي في عين الثقافة، وهو ليس الأنموذج الأوحد، فأغلب الذين غادروا المنبت النجفي، وجدوا أنفسهم مجبرين على التفوّق على أبناء المدن الأخرى، بل السير في مقدمتهم وقيادتهم أحياناً، فلماذا لم يكن عبد الحسين شعبان مقداماً وذكياً، وهو القادم القصدي إلى قلب حومة الصراع في العاصمة، التي عرفته أزقتها وشوارعها ومقاهيها وتظاهراتها.

إذن نحن سنحصد حقلاً من الأفعال والعلاقات، أو كما يقول الدكتور شعبان نفسه ” ستكون الشهادة التأريخية مفيدة ونافعة بقدر صدقيتها وصراحتها”. والصراحة هنا كما سيعرفها (المستنطِق) ذاته، “هي مدى القدرة على قراءة التأريخ برواية أساسها النقد والمراجعة والبحث عن الحقائق”.

إننا لا نخفي الأخطاء إذن، فنحن عراة لا نلبس الملابس الفضفاضة التي نغطّي باذيالها خطايانا.. بل نجابه ونحن في (حاضر المستقبل) والذي هو (حاضر الماضي أيضاً) إنه الحاضر المطلق الذي يجبرنا على أن نقول للأسود أسود وللأبيض أنت بحاجة إلى مزيد من الضياء. ولم يكتفِ شعبان بقول ذلك للعدو أو الخصم أو الرفيق، بل قالها مرّات ومرّات لنفسه كاشفا أخطائه بكل أريحية وشفافية، مقدّماً نقداً ذاتياً جريئاً.

وهنا يجب أن نشهد لصالح صاحبنا الذي سيعاني كثيراً من عملية استيقاظ الذاكرة، لأنها ستفضي إلى شرعية العودة المثابرة والمستمرة للتأريخ لإعادة قراءته، باعتباره مفردات أو وقائع منفصلة، بل كسياقات اجتماعية تحتاج إلى استعادات نقدية برؤية الحاضر بما فيه من وقائع ومعطيات ومتغيرات. ليس المطلوب نقد النهايات فحسب، بل لا بدّ من نقد البدايات وصولاً إلى ما آلت إليه التجربة.

في هذه المقولة يؤسس الدكتور عبد الحسين شعبان وعياً فلسفياً ونقدياً يقوم على ديالكتيك مكثّف ومرعب للحياة والعلاقات، لأن معنى ذلك ليست هناك من نهايات، بل هي بدايات أزلية. ومن منطق هذه البدايات الأزلية تستمر الأفعال متفاعلة، بل ومستمرة بتأثيراتها السلبية والإيجابية إلى اللانهاية.

على سبيل المثال حين ينتقد الدكتور شعبان (الماركسية) بخصوصيتها التطبيقية السابقة، فهو لا يشهر تخليّه عن ماركسيته التي يعتز بها كثيراً، حتى وإن غادرها كثيرون، أي أنه متمسك بمنهاجه المادي الجدلي.. إنه يحاور الفكر الماركسي من منطق اجتهادي جديد ومن داخله، غير هيّاب بنقد الأخطاء والممارسات السلبية وإعادة النظر بما عفا عليه الزمن.

الماضي الذي لا يمضي

في حواره مع هاني فحص الذي غادرنا قبل أيام، كان شعبان يستفز فحص لإخراج النجف التي في داخله، وكأنه يريد هو أن يستحضر النجف الذي تعيش في دمه وعروقه . ما بين النجفي والنجف نسيج من جذور النخلة، وهي تتشابك وتنغرز في الأرض، بل وتتشعب إلى أقصى الحدود، لذلك سيبقى الكائن النجفي حاملاً ميراثه أينما ذهب، وحواره مع مؤلِهِ الأساسي سوف يستمر ولا ينقطع مهما بعدت المسافة وطال الزمان،ولهذا يقول صاحبنا المستنطق : باستمرار كنتُ أتحدث مع النجف التي أعرفها أتحدث معها بصفة الحضور بالرغم من الغياب، كنت أريدها دائماً حاضرة، حتى ولو كانت على صورة برق أو شعاع”

” لقد علّمتني هذه النجف كيف أوالف بين الماء والشجر، وأؤاخي بين الهواء والحجر بين المادة والخيال، وبين الشعر والواقع، فبت أشعر إني أُخلق فيها كل يوم من جديد”.

هنا المدن الأولى أو مدن مسقط الرأس، تصير جذوراً بل تتحوّل مع الأيام إلى خلفية ذهنية، من الصعب أو من المستحيل انتزاعها من الأعماق.

إن غربة المثقف هي أن يكون بلا اتجاه بمعنى أن يكون منعزلاً حتى عن ذاته، أو كما يقول ذلك الشاعر السومري القديم، ” لقد نفتنا الآلهة غرباء عن أنفسنا نجتاز أسفار التاريخ والمستقبل دونما أغنيات، كان ذلك حكمنا الأبدي”.

إن تأكيد عبد الحسين شعبان على بداياته الأساسية من خلال مدينته الأساس النجف، إنما هي الإيضاح لما يجب أن ندركه عن شخصية هذا المثقف الذي لا ينتقد أو يتحدث بلغة نقدية نبيلة، الاّ لكونه الكائن الذي لم ينقطع الحبل السرّي بعد بينه وبين مدينته وبين جذوره وبين انتمائه الأول وحبّه الأول وصداقاته الأولى.

كان يُعاب على الشاعر الأمريكي الكبير (إدغار الآن بو) بأنه شخصية ذات روح هائمة في أماكن عدّة من أوروبا على أميركا. لذلك فإن قصائده ورغم عمقها الوجودي، فهي (حدث آني) يؤسس عليه الشاعر موقفاً نفسياً حاداً.

إن الشاعر الحقيقي، أو بالأحرى المفكر الحقيقي، يمثل الروح الهائمة في المكان الذي تبرعمت فيه أولى زهرات وعيه.

المواجهة الحتمية ..

لا بدّ من المواجهة أو على الأقل الشعور المعمق بضرورة المفاجأة. ويكفي أن يحصل حدث خارجي حتى يهزّ كيانه وتبدأ التحوّلات تأخذ منحاها الثوري، كل ذلك قبل أدلجة الاتجاهات والارتكان إلى أية نظرية ثورية. وهنا يجدر أن نتنبّه للعفوية الثورية. ولكن تلك العفوية التي غالباً ما تأسس على أديمها فكر ثوري ممنهج.

حتى عند ما يلتفت شعبان لقضية الديمقراطية في العراق، عبر أولى إرهاصاتها، سنرى أن الحذر النبيل يدفعه لأن ينوّه ببعض ثنايا الدستور العراقي (القانون الأساسي) والذي تم اختزاله خلال فترة الخمسينيات عندما أطلت مشاريع النقطة الرابعة، وحلف بغداد (الحلف التركي الباكستاني العراقي) أو المعاهدة البريطانية – العراقية أو المعاهدة الأميركية – العراقية لعام 1954.

إن الحديث عن أخطاء وسلبيات الماضي لا يعني إعفاء الحاضر أو الماضي القريب من المثالب الهائلة التي التبسته. فنحن كما أوضحت سابقاً بين دفتي كتاب أبسط ما فيه أن يُقرأ بعينين مفتوحتين. لأن المؤلف والمستجوَب أرادا أن يكشفا الغطاء عن (حاضر مستمر) Present Continuous وفي هذا المسار يتحرك الكاتب والمفكر، بهارموني شديد الاتساق.

والكتاب يتطرّق بشكل مميز لمواقف ماركسية من الحرب العراقية- الإيرانية ومن الحصار الدولي ومن احتلال العراق ضمن اجتهادات خاصة وتواصل وتفاعل مع محيطه العربي ومع قضية حقوق الإنسان التي نذر لها شعبان نفسه وهي قضية كونية، ولهذا فإن الكتاب لا يخصّ

التاريخ أو الذاكرة الحيّة فحسب، بل هو كتاب المستقبل. إنه مشروع عمل وبرنامج يمكن الحوار حوله ضمن إطار اليسار العراقي بجميع توجهاته.