غطّاس ماهر يكشف لنا عن درر “أبو كَاطع” النادرة
من نافلة القول إن وجود المبدعين الروّاد في مختلف مراحل الحياة ينبع من ذلك التراث الفريد والغني الذي تركوه وراءهم .ولعل الأجيال الواعية والمنشغلة بالتراث والثقافة بشكل عام، لا تألوا جهداً في معرفة ماضيها البعيد والقريب، وخاصة إذا احتوى على دُررٍ نادرة وكنوز باهرة، حتى وإن كانت في القعر، لاسيّما إذا سنحت الفرصة لالتقاطها وتقديمها كمنجز إلى الملأ، وهذا ما يحتاج أحياناً إلى غطّاس ماهر ومؤهل وقادر على التمييز بين الغث والسمين. وها هو الدكتور عبد الحسين شعبان يتحفنا بنتاجه الأثير عن درّة عراقية ساحرة ورائعة حين يقدّم لنا ” أبو كَاطع” (شمران الياسري) في كتاب أنيق وباذخ.
يسلط شعبان في كتابه الضوء على أسلوب أبو كَاطع الصحافي وحكاياته وأقصوصاته وروايته الرباعية وعموم أدبه. ولم يكتف بذلك، بل حاول سبر أغوار هذه الشخصية اللامعة وتاريخها النضالي الناصع وآرائها المتميّزة.
ولعل د. شعبان هو الأقدر على ذلك لما امتاز به قلمه من رهافة وحس إنساني، وفي الوقت نفسه ما ارتبط به من صداقة مديدة مع الراحل الكبير “شمران الياسري”. وأستطيع أن أضيف سبباً آخر مهماً، وهو ما حاول الأديب جمعة اللامي الإشارة إليه في صفحة الكتاب الأخيرة، وهو الصداقة والوفاء للصديق الذي يشكّل ركناً مهماً من شخصية شعبان وقيمه التي اجتمع فيها مع شمران الياسري. وتلك ميزة مهمة، لأنه يكتب بقلب حار ورأس بارد ناظراً بشكل نقدي لما هو إيجابي دون أن ينسى لحظات الضعف الإنساني والجوانب السلبية.
ولكل هذه الأسباب قدّم لنا بحثاً شيّقاً وممتعاً ونقدياً لسيرة شمران الياسري وأعماله الإبداعية، خصوصاً وهو يسلط الضوء على تاريخ الرواية العراقية في الريف، بالتنقيب عن حكايات وقصص جاء الكثير منها على لسان رواية أبو كَاطع ” خلف الدوّاح” الذي نشر صورته لأول مرّة في كتابه بطبعته الأولى قبل عقدين من الزمان.
وإذا كانت الدرر قد ظلّت مختبئة، فلأنها بحاجة إلى من يكشف عنها، خصوصاً في ظلّ أوضاع سياسية معقّدة وظروف الاغتراب والأوضاع القاسية، لكن د. شعبان التزاماً شخصياً منه ووفاء للصداقة والثقافة، حاول بإمكانياته الثقافية والفكرية وجهوده الذاتية أن يتابع ويحلّل ويفحص ويناقش بروح نقدية منفتحة أدب أبو كَاطع وعدداً من الشخصيات الفكرية والثقافية العربية المتميّزة، لأنه يدرك أن ما يفعله يمليه عليه واجبه الأخلاقي والثقافي والفكري والإنساني.
وهكذا قدّم لنا وللأجيال القادمة شخصيات مثل الجواهري وحسين جميل وكامل الجادرجي وسعد صالح وعامر عبدالله وهادي العلوي وبحر العلوم ومصطفى جمال الدين ووميض نظمي وغائب طعمة فرمان وبدر شاكر السياب ومظفر النواب وشاكر السماوي، إضافة إلى شخصيات عربية مثل منصور الكيخيا وعبد الرحمن النعيمي وعربي عواد وتيسير قبعة وجورج حبش ومحمد حسين فضل الله والطيب صالح وعبد العزيز التويجري وآخرين .
وهكذا اجتمعت الإرادة والتصميم لدى شعبان أحد أهم أصدقاء الراحل شمران الياسري ” أبو كَاطع” لكي يتيح لنا إبقاء صورته حيّة ولكي يطّلع عليها الجيل الجديد، خصوصاً وقد جمعتهم الظروف سويّة في ” براغ” في علاقة مثالية للغاية، حيث تميّزت بالصدق والانفتاح والتعاون والاحترام، إذْ أطلق عليها في أحيان كثيرة لقب “العصبة المتآخية”.
كان ” أبو كَاطع” يستعين بشعبان في أمور كثيرة،وحينما يحاصره بعض المتنفذين، يلتجئ إلى نصائح صديقة وأخيه شعبان، لأخذ المشورة في كيفية الخروج من الأزمات الشخصية التي تترصّده. كانوا ثلاثة لا يفارق بعضهم البعض ، “أبو كَاطع” وعبد الحسين شعبان في نهاية مرحلته للدكتوراه (أواسط السبعينات حين وصل أبو كَاطع 1976) وموسى أسد وينضم إليهم أحياناً عصام الزند ومحمود البياتي وآخرين، وقد جمعتهم قبل كل شيء روح الانسجام الفكري والثقافي وروح النقد والنكتة وحب الحياة.
وقد ولدت إبان تلك المرحلة الكثير من الأفكار الإبداعية لدى شمران وشعبان، وحسب علمي كانا في حوار دائم ومتصل بما فيها مراجعات فكرية وثقافية وسياسية، حيث بدأت تغتني رؤيتهما النقدية . لكن رحيل شمران ترك أثراً نفسياً صاعقاً لدى شعبان، الذي عاد من الوطن مرّة أخرى ليتولى مسؤوليات مهمة في الشام، وكان من المقرر كما يرد في الكتاب، اللقاء بينه وبين شمران في براغ، لكن الحظ العاثر والقدر الغاشم سبقهما، فقد رحل أبو كَاطع سريعاً دون أن يرى صديقه الذي كان يتهيأ للقدوم إلى براغ لملاقاته، وقد أحجم شعبان من المجيء إلى براغ بسبب ذلك عدّة سنوات، وهكذا تبدّد الأمل باللقاء حيث غادرنا الراحل الكبير في حادث سير أثناء سفره من براغ إلى بودابست لزيارة نجله الأكبر (جبران) الذي كان يدرس في المجر، حيث ارتطمت سيارته بعمود الكهرباء الذي سقط عليه وأرداه قتيلاً في الحال.
كان وقع الخبر على صديقه المقرّب عبد الحسين شعبان وقع الصاعقة فجعله في غاية الألم والحسرة لهذا الفراق المفاجئ وغير المحسوب، وحين نقل أبو كَاطع إلى بيروت ليدفن في مقبرة الشهداء كان عبد الحسين شعبان دائم الزيارة لقبره، وحسبما أعلم لا يزال يفعل ذلك حتى الآن.
وبعد مرور ما حدث في هذه المأساة، بدأ شعبان في جمع ما لديه من ذكريات ووثائق ليصبّها في كتاب أنيق لغة ومحتوى وشكلاً، حيث اختار عنواناً مؤثراً وواقعياً وهو ” أبو كَاطع” على ضفاف السخرية الحزينة. وضمّن كتابه عدداً من الآراء والأفكار النقدية الجديدة بشأن رواية أبو كَاطع وعموده الصحافي. وقد تبرّع بريع الطبعة الأولى إلى أطفال العراق تحت الحصار، كما تبرع بريع الطبعة الثانية إلى الأطفال ضحايا داعش في الموصل والمناطق الغربية من العراق.
يقول شعبان في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه الصادر عن دار الفارابي (2017) “وكان صدور رباعية : الزناد، بلا بوش دنيا، غنم الشيوخ، وفلوس حميد العام 1973″ محطّة جديدة لا على مستوى الرواية العراقية فحسب، بل في تقديم روائي ريفي يستطيع أن يؤثر في المدينة ومثقفيها، وليس كما كان العكس جارياً”
كان أبو كَاطع بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 قد بدأ في تقديم برنامجه الإذاعي الشهير ” احجيها بصراحة يا بو كَاطع” الذي استحوذ على اهتمام جميع العراقيين لأنهم كانوا يجدون فيه صدق الحكاية وحقيقة الجو السياسي بصعوده ونزوله. وكان ذلك عبارة عن حكايات المضائف والفلاحين الذين عايشهم ” أبوكَاطع” طوال سنوات عمره قبل الانتقال للعمل في بغداد.وكان البرنامج مطعماً بأفكار وحكم ومملحات تجذب الجميع دون استثناء. يقول شعبان وكان ” أبو كَاطع” قد تمكّن من أدواته وامتلك فن مخاطبة قلوب الناس وعقولهم، بلغة بسيطة وعميقة في آن، أقرب إلى السهل الممتنع”.
وقد حاول الدكتور شعبان أيضاً أن يكشف جوهر طريقة ” أبو كاطع” في فن التحريض، ولاسيّما في السبعينات في جريدة طريق الشعب فيقول ” على الرغم من كونه مثقفاً أعزل، إلّا أن أسئلته المشاغبة كانت تتميز بإشارة شكوك وارتيابات تفوق تأثيراتها ما تفعله هيئات أو مؤسسات أحياناً، في كل أساليب الدعاية والحرب النفسية والصراع الايديولوجي الذي كان سائداً على نحو حاد في زمانه”
ويستذكر أيضاً موقف الآخرين من ” أبو كَاطع” حيث يقول ” كان تأثير ما يكتب كبيراً في السلطة ومعارضتها، بل حتى داخل الحزب الشيوعي نفسه، حيث يجري صراع مكتوم بين قيادة ” مسترخية” وقاعدة ” مستعصية”، وقد كان أقرب إلى ” بارومتر” يقيس فيه الناس حرارة الجو السياسي.
على مدى 286 صفحة يستعرض شعبان في كتابه هذا أدب وحياة الراحل، وقد أضاف إلى طبعته الثانية موضعين جديدين هما ” فن الضحك والسخرية في أدب أبو كَاطع”، المنشور في جريدة الزمان العراقية بتاريخ 9/8/2015 والثاني بعنوان ” الروائي أبو كَاطع” – السخرية والأسئلة الملغومة ، المنشور في جريدة الزمان العراقية أيضاً بتاريخ 26/8/2016. قسم شعبان الكتاب إلى أربعة فصول، سبقتها مقدمة غنيّة ذات بعد فلسفي، أما ترتيب الفصول فقد جرى على الشكل الآتي: الفصل الأول : الإبداع وفلسفة الحياة والموت، وهو بحث في فلسفة الحياة والحياة والموت ودلالاتهما. أما الفصل الثاني فقد كان بعنوان : أبو كَاطع.. المولد والنشأة أسئلة في مواجهة النفس، بينما عنون الفصل الثالث بـ: أبو كَاطع صحافياً وروائياً، ونقل بعض مشاهد السخرية والتناقض، في حين كان الفصل الرابع عن العلاقة الشخصية وهو بعنوان : أبو كَاطع صديقاً، وإنساناً.. التشاؤم الجميل.
بعد هذه الفصول ختم الكاتب كتابه بخاتمة، ثم ألحقها بإضمامة أولى وهي الدراستان اللتان جرت الإشارة إليهما، في حين ضمّت الإضمامة الثانية نصوصاً ووثائقاً وصور خاصة بأبو كَاطع، في حين لم تجمعه معه صورة خاصة، لأن صوره الشخصية قد تم مصادرتها في العراق خلال كبس منزله من قبل أجهزة الأمن، في حين كان قد غادر العراق 1980.
الكتاب مليء بالحكايات والإشارات والوقائع المذهلة، وفيها يجد القارئ صورة مجسّمة عن طبيعة الشخصية العراقية، وخاصة الريفية منها، حيث يعرضها كما هي على حقيقتها بعناصر قوتها وعوامل ضعفها. ولا بد لي هنا أن أهنئ الدكتور عبد الحسين شعبان وأشد على يديه لما أنجزه من عمل متألق في اتجاهين بحق أحد أبرز المبدعين العراقيين، الاتجاه الأول هو الجانب الأدبي لمنجزات الراحل أبو كَاطع، أما الاتجاه الثاني فهو عرضه الشامل لحياته وسيرته الذاتية مرفقاً بالوثائق والصور التي تتناول كل ما يحيط به، ولعلّها سيرة مشتركة لجيل اليسار العراقي بصعوده ونزوله وخيباته وبأحلامه.
الكتاب شيق للغاية وبقدر كونه يتحدث عن تراث ثقافي للرواية العراقية، فإنه راهني بامتياز وأدعو إلى قراءته المتأنية للاستفادة من موضوعاته المختلفة التي تبرز من الواقع الشعبي العراقي وتاريخ الثقافة والحركة اليسارية في العراق في نحو نصف قرن.