19 ديسمبر، 2024 4:03 ص

عبدالسلام محمد عارف خلال الدوام الرسمي ووقته الخاص

عبدالسلام محمد عارف خلال الدوام الرسمي ووقته الخاص

لم تكن لنا -نحن ضباط سرية حماية القصر الجمهوري- أية علاقة بما يجري من أعمال في أروقة القصر ودوائره خلال ساعات الدوام الرسمي من الصباح وحتى بعد الظهر.. فالضابط الخافر يغادر “غرفة التشريفات” في حدود الساعة الثامنة صباحاً بُعَيدَ حضور الموظف المسؤول وإيجازه عما جرى في مساء أمس والليلة السابقة ويتسلّم الأضابير التي ربما تحتوي أوراقاً مهمة وردت من وزارات أو دوائر عليا ضمن البريد المسائي، أو تلك التي بعثها رئيس الجمهورية في وقت متأخر من الليلة الماضية.

كنتُ والملازم “عبدالجبار جسّام” نَخلدُ الى نوم عميق في غرفة منام الضباط فيما يشرف آمر سريتنا والملازم “فاهم مالك” على التدريب الصباحي والتجوال حول أبراج الحماية، ولا يعودان -عادة- إلى غرفة منامهما إلاّ ليتمتعا قسطاً من الراحة، أو لتناول طعام الفطور أو الغداء، بينما سيجري العكس في نهار اليوم التالي.

أما القصر الجمهوري نفسه، فإن الحركة فيه تكون دائبة منذ قُبَيلَ الساعة الثامنة صباحاً وحتى الساعة الثانية ونيّف ظهراً، فمن سيارات الموظفين بالعشرات وسيارات بعض الوزراء وكبار موظفي الدولة والضباط الأقدمين من ذوي المناصب المتقدمة لدى القوات المسلحة والذين يطلب رئيس الجمهورية مقابلتهم وإستشارتهم في أمور الدولة، والى سيارات القصر التي تقوم بخدمات محددة تراها داخلة وخارجة الى ومن القصر أو سائرة في شوارعها… بينما يكتظ الشارع العام لمنطقة “كرادة مريم” المار أمام سياج القصر الجمهوري مباشرة بالمئات من سيارات المواطنين ودراجاتهم البخارية أو الهوائية، وحافلات مصلحة نقل الركاب التي لا يجوز لها التوقّف ضمن المسافة المحدودة بين رُكنَي السياج الأمامي فقط، والتي يبلغ عرضها حوالي (250) متر.

كان”رئيس الجمهورية” ينشغل بالإجتماعات الرسمية ومقابلات كبار رجالات الدولة، وطالما يغادر القصر للقيام بجولة في إحدى مدن العراق بين فترة وأخرى، أو لزيارة إحدى الوزارات أو الدوائر والمؤسسات والمعامل والمعسكرات بمعدل يومي عادةً، أو لحضور إحتفال رسمي أو شعبي، أو لإفتتاح مشاريع معينة… فقد كان “عبدالسلام عارف” نشِطاً في هذا المجال بشكل ملحوظ لا يعرف الكلل أو

الملل… أما مقابلة المواطنين الإعتياديين ممّن يحملون هموماً ومشكلات وطلبات شخصية، فقد كانت تجري بعد إنتهاء الدوام الرسمي ليوم الأربعاء أو خلال ساعات الدوام الرسمي ليوم الخميس من كل أسبوع وبشكل منتظم… وفي حالة غيابه لأي سبب كان، فإنه يخوِّل أحد كبار المسؤولين بهذه المهمة، وفي مقدمتهم سكرتيره العام “الرائد عبدالله مجيد”.

قلّما كنت أُلاحظ “عبدالسلام عارف” وهو يخلد إلى الراحة بعد إنتهاء الدوام الرسمي، وقد علمتُ بمرور الأيام أنه لا يحبّذ “تمشية البريد اليومي” أثناء ساعات الدوام إلاّ إذا إحتوى على حالات عاجلة لايمكن تأجيلها، إذْ يتفرّغ لذلك عادة بُعَيدَ الساعة الثانية ظهراً وحتى حلول موعد صلاة العصر عادةً، قبل أن يخلد إلى “قيلولة” لا تزيد على ساعة واحدة حتى يحين موعد صلاة المغرب، وبالأخص في موسم الصيف، وذلك إذا ما تواجد في القصر ولم يغادره الى مسكنه أو مكان آخر… وإذا ما غادر القصر فإنه يؤجّل أوراق البريد الإعتيادي الى ما بعد عودته ليلاً.

كان “عبدالسلام عارف” يزور بيته يومَين متفرِّقَين على الأقل، أو لربما ثلاثة أيام في الأسبوع الواحد، إذْ يغادر موكبه القصر الجمهوري بعد إنتهاء الدوام الرسمي، قبل أن يعود أدراجه قُبيلَ صلاة العشاء عادة، أو بعدها بقليل… ولا أتذكر سوى مرات قليلة هاتفني فيها ضابط حماية داره وأنا بغرفة التشريفات ليطلب أمراً معيناً، ولربما يكمن السبب في ذلك أن الضابط المذكور كان يهاتف -إستناداً الى التعليمات- المرافق الأقدم أو السكرتير العام أو المرافق الشخصي الذين كانوا يحضرون عادةً الى القصر الجمهوري قُبيل المغرب، سواءً أكان رئيس الجمهورية موجوداً في القصر أو خارجه.

كان معظم زيارته خارج القصر عصراً -عدا زيارته لعائلته- لحضور مباريات كرة القدم في ملعب” الكشافة”، فقد كانت تلك الرياضة -ذات الشعبية الواسعة في عموم العراق- من أعزّ هواياته الرياضية، تُضاف إليها “السباحة”.

كان “عبدالسلام عارف” يؤدي صلاة المغرب في جناحه الخاص، ولكني شاهدتُه مرات عديدة وهو يؤدّيها في حديقة القصر الخلفية أو الحديقة الجانبية.. أما صلاة العشاء فقد كان يؤخّرها إلى قُبيل النوم، إذْ يتلو بعضاً من المصحف الكريم بصوت مسموع ويدعو كثيراً، قبل أن يُقيم “صلاة الوتر” ويخلد إلى الراحة.

وبينما كانت إجتماعاته المسائية مع رئيس الوزراء أو بعض الوزراء أو مسؤول أو ضابط كبير تجري بعد صلاة المغرب، فإنه، وفي أيام عديدة، يستقبل

أصدقاءَه إنْ لم يكن منشغلاً بإجتماع خاص، أو بعد الإنتهاء من إلتزاماته الرسمية، ليخرج معهم مشياً على الأقدام بجولة في حدائق القصر، ولربما إلى خارجه.

كان أكثر الاشخاص المسؤولين تردداً الى القصر للإجتماع برئيس الجمهورية مساءً، هم:-

1. الفريق طاهر يحيى – رئيس الوزراء.

2. العقيد الركن صبحي عبدالحميد- وزير الداخلية، وعضو المجلس الوطني لقيادة الثورة.

3. اللواء الركن ناجي طالب – العضو المتفرّغ في “مجلس الرئاسة المشترك للجمهورية العربية المتحدة والعراق” قبل تسنّمه منصب وزير الخارجية.

4. اللواء الركن محسن حسين الحبيب – وزير الدفاع.

5. العميد الركن عبدالكريم فرحان – وزير الثقافة والإرشاد.

6. الدكتور عبدالعزيز الوَتّاري – وزير النفط.

7. الدكتور عبدالرزاق محي الدين- وزير الوحدة.

8. اللواء عبدالرحمن عارف – رئيس أركان الجيش وكالةً.

9. العميد سعيد صلَيْبي – قائد موقع بغداد وآمر الإنضباط العسكري العام، وعضو المجلس الوطني لقيادة الثورة.

10. عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق – قائد القوة الجوية وعضو المجلس الوطني لقيادة الثورة.

11. السيد أمين هويدي – سفير”ج ع م ” في “بغداد”.

12. العقيد الركن بشير الطالب – آمر لواء الحرس الجمهوري.

13. الرائد الركن عبدالرزاق صالح العُبَيدي – آمر فوجنا.

لم نكن – نحن ضباط سرية حماية القصر- مسؤولين عن تفتيش أي مسؤول أو أي مُراجع يحضر لمقابلة رئيس الجمهورية، ومن الطبيعي أن لا تكون تلك المسؤولية مُلقاة على كاهل جنود يحرسون الباب النظامي للقصر… ولم أطلع شخصياً على ما كان يقوم به آمر أو جنود فصيل حمايته الشخصية المرتدين للملابس

المدنية من إجراءات أمنية في الجناح الخاص لرئيس الجمهورية… ولكني لم أتعرّض وبشكل مطلق لأي تفتيش أو إعاقة قبل إجتياز الممر المؤدي الى مكتب السيد الرئيس في طريقي لتقديم بريد عاجل في وقت متأخر من الليل، أو لتسلّم أمر معيّن بطلب من فخامته، وقت لا يتواجد فيه لا السكرتير العام ولا المرافقون في القصر… وفي ذلك دليل قاطع أن أي مسؤول في الدولة لم يكن يتعرّض الى تفتيش قبل مواجهته مع الرئيس “عبدالسلام عارف”.

كان “عبدالسلام عارف” مُغرَماً بالمشي والتجوال في حدائق القصر أو على ضفاف نهر دجلة، ولربما كانت حياته العسكرية -الطويلة نسبياً- قد عوّدته على ذلك، لا سيما أنه كان من صنف “المشاة”، وطالما كان مرافقه العسكري الأقدم” العميد زاهد محمد صالح” يرافقه مستمعاً، وقتما يتركان القصر إلى خارجه متوجهَين إلى “الجسر المُعلَّق/14تموز” عادة، أو نحو “جسر الجمهورية/الباب الشرقي”، مرة واحدة -على الأقل- في الأسبوع، وخصوصاً في غير موسم الشتاء، إذْ لا يعودان إلى القصر إلاّ قبيل منتصف الليل.

كان يجلس في مكتبة طويلاً، ويقضي معظم ساعات الليل فيه، ولا يخرج إلاّ لممارسة المشي، عصراً في بعض الأيام، وليلاً بمعدل يومي… ولكننا لم نكن – نحن ضباط سرية الحماية- نرى ما يعمله وكيف يتصرّف، ولم أدخل مكتبه الشخصي سوى مرّتين فقط خلال الفترات الثلاث التي كُلِّفَتْ سريتنا بتلك المهمة في مدة السنتين اللتين قضيتهما في الحرس الجمهوري… وفي كلتاهما كان الوقت قد قارب منتصف الليل، إذْ وجدتُه جالساً خلف منضدة كبيرة وسط غرفة واسعة ذات إنارة هادئة، وقد إنتصب على جنبه مصباح كهربائي قوي الإنارة مسلّط على أوراق مرتبة بشكل منتظم على المنضدة… شاهدتُه مرتدياً بدلة غامقة اللون، وعلى عينيه نظارة طبّية لم يكن يستخدمها خارج المكتب… إستعدتُ وأدّيتُ له التحية العسكرية قبل أن يردّها، فقدمتُ له ما أمر به، فشكرني قبل أن أؤدّي أمامه تحيّة الخروج، إذْ أعاد الأوراق داخل الإضبارة نفسها بيد أحد جنود حمايته الخاصة، وقد علّق عليها بقلم حبر أحمر في صفحتها الأخيرة:-

“السكرتير: لقد تفاهمتُ حول هذا الموضوع مع الأخ وزير الداخلية… الرجاء المتابعة معه خلال هذه الأيام”.

كان البريد عندما يَرِدُ الى القصر الجمهوري بعد إنتهاء الدوام الرسمي، فإن أحد موظّفي مكتب السكرتير العام لديوان الرئاسة هو الذي يتسلّمه من حامله، سواءً في حالة وجود السكرتير بدائرته من عدمه… وفي حالة غيابهما فإن الضابط الموجود في” غرفة التشريفات” هو الذي يقوم بتسلّمه، ويرسل” السري والشخصي” وكذلك

“المستعجل” الى رئيس الجمهورية في أقرب وقت ممكن بيد أحد جنود فصيل حمايته الخاصة، بينما يستبقي “الإعتيادي” من البريد إلى صباح اليوم التالي… وكذلك الحال بالنسبة للبريد الخارج من مكتب رئيس الجمهورية في وقت متأخر من الليل، إذْ كنا نرسل البريد العاجل إلى الوزارات أو الدوائر المهمة ذات العلاقة في أية ساعة بإحدى سيارات القصر.

وقد دفعني فضولي مرات كثيرة إلى تصفّح الأوراق والإطلاع عليها، وعلى هوامش رئيس الجمهورية المثبتة في متونها… كانت تعليقاته واضحة وبخط بَيِّن، ولكنه ليس بجميل، وعلى شكل نقاط وعبارات مفهومة لا لبس فيها، ومعظمها كان على شكل أوامر من دون مجاملة، ولكنها تحتوي في بعض الأحيان أمثالاً شعبية ساخرة لوحدها أو مصحوبة بكلمات أدرجها باللهجة العامية، أتذكر منها:-

“اللي يدري يدري، واللي ما يدري كضبة عدس”.

“عصفور كفل زرزور، وإثنينهم طيّارة”.

“ماطار طير وإرتفع، إلاّ كما طار وقع”.

“دفعة مَردي وعصا الكُردي”.

أو “دفعة مَردي وعصا ((ذاك الرجّال))”.

“عادت حليمة إلى عادتها القديمة… ولا حول ولا قوة إلاّ بالله”.

كان طعام عشائه المفضل مقتصراً على “اللبن والخبز والشاي” ونوعاً واحداً من الفاكهة حسب الموسم، وقلّما كان يتناول لحوماً أو مقليّات، ويكتفي بتكريم ضيوفه بالقهوة والشاي وبعض الفاكهة، ولا يسمح بتقديم السكائر إليهم، فقد كان كارهاً للتدخين بل ومُحارباً له، ولم يكن أحد يدخّن السكائر أثناء مرافقته له في تجواله اليومي إحتراماً لشخص رئيس الجمهورية.

كان ينهض فجراً، ويؤدي صلاته بخشوع ملحوظ ويطيل في دعائه، قبل أن يتلو القرآن الكريم بصوت مسموع طيلة ساعة كاملة، وقبل أن يرتدي بذلته الأنيقة ويخرج بمفرده في جولة مبكرة وسط الحدائق الخلفية للقصر أو على ضفاف “دجلة” خارج السياج، وقلّما كان يتجوّل بمحاذاة السياجَين الجانبيين، وفي جميع الأحوال كان يردّ التحية العسكرية على الجنود الذين كانوا يحيّونه عند مروره بالقرب من أبراج المراقبة، مستفسراً عن راحتهم وطعامهم ومُتفَقِّداً خِيَمَهُم المتواضعة… وإذا ما

صادف ضابطاً من سرية الحماية وهو يقوم بواجبه الإعتيادي في ذلك الوقت فإنه يدعوه لمرافقته والسير إلى جنبه… إذْ كنتُ أراه في هذا وكأنه يتصرف على شاكلة “آمر فوج” ما زال في خدمة الجيش أكثر من كونه رئيس جمهورية، وأُلاحظه كمن يستمتع بذلك.

أما في أيام الجمعة، فلا أتذكر أنه تأخّر عن أداء صلاتها يوماً ما، وكان يؤديها كل أسبوع في أحد جوامع “بغداد”… فمرّة في جامع “أبي حنيفة النعمان”، وثانية في “الست نفيسة” بالكرخ، وثالثة في “الأزبك” بالباب المعظّم، وأخرى في “العسّاف” بـ”راغبة خاتون”، ثم في “العاني” بالوزيرية، وهكذا… ولم يكن ذلك خافياً على الصحافة، إذْ كانت تنشرها في صفحة الشؤون الداخلية ليوم السبت… وفي مرات كثيرة فإن الجامع الذي سيؤدي “عبدالسلام عارف” صلاة الجمعة فيه كان يُنشر إسمه في صحف يوم الخميس الذي يسبق.

أحدث المقالات

أحدث المقالات